استعادت قوى الأكثرية مشهد 14 آذار العام 2005 في لبنان أمس. ومن ينكر ان المشهد أزال التباسات سعى المعارضون منذ أكثر من سنة الى تكريسها، حول ما اذا كانت هذه الأكثرية أكثرية، وبأنها وهمية، يكون يضع غشاوة على عقله ونظره، تماماً مثلما لا يمكن أي امرئ ان ينكر ان 14 آذار يتكرر غداة العيد ال63 للاستقلال، في ظل انقسام خطير بين اللبنانيين، قياساً الى 14 آذار الأصلي، وإلا يكون يمارس العمى السياسي ايضاً. والمفارقات لا تحصى: * ودّع لبنان شاباً واعداً ممتلئاً حيوية وحماسة، بدأ حياته السياسية في ظروف تنقله الى درجة عالية من الانفتاح على الآخر، أي من حزب يؤخذ عليه تقوقعه في البيئة المسيحية، الى قيادي مرشح لقيادة هذا الحزب في المستقبل، في ظل انفتاحه على المسلمين. شُيّع بيار الجميل فيما كان بدأ يراكم تجربة تنتشله وعائلته وحزبه من بيئة الحرب التي كانت الكتائب مطلقها في العام 1975 ومحركاً لها حتى العام 1989، الى بيئة التعايش والتسوية مع من حاربوا هذا الحزب واقتتلوا وإياه، بعد التجربة الدموية الخاطئة التي خاضها هذا الحزب، مثل التجارب الخاطئة التي خاضها غيره. لقد غيّب القتلة شاباً كان يمكنه ان يلعب دوراً كبيراً في بيئته في اتجاه الخروج من عقلية الحرب والفتنة، لشدة انغماسه مع مسلمي 14 آذار في التفاصيل اليومية. كان بيار الجميل عنواناً لانتقال جيل مسيحي من مرحلة الى اخرى واختباراً لانتقال حزبه من مرحلة الى اخرى. اغتيلت التجربة باغتيال ابن ال34 سنة على قصرها. * أخذ المعارضون على قادة 14 آذار توظيفهم السياسي للجريمة، بسبب دعوتهم الى التشييع الشعبي وبسبب إصرار هذا الفريق على التمسك بإقرار المحكمة الدولية لمحاكمة المتهمين في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وسائر الذين اغتيلوا أو الذين تعرضوا لمحاولات الاغتيال. وهذه مفارقة عجيبة، كأن صور الشهداء الستة، بدءاً بالحريري ومشهد الشهداء الأحياء وأرامل القادة وأبنائهم الذين تجمعوا في الكنيسة امس يشيعون بيار الجميل تعرضوا للاغتيال لأسباب غير سياسية. إن في هذا الانتقاد لقوى الأكثرية إنكاراً لدور المشاعر في النتائج السياسية للاغتيال. وإنكار المشاعر هو إنكار لموقع الاغتيال في السياسة. وإنكار لنتائجه على الساحة السياسية، ويكاد يكون إنكاراً للاغتيال نفسه. يتصرف بعضهم منذ بدء مسلسل الاغتيال على انه حدث تعود الحياة بعده كما كانت من دون انعكاسات. ألا يحق لهؤلاء الذين يتعرضون لهذا المسلسل أن يسعوا الى حماية أنفسهم بمشاعر جمهورهم وهو الحد الأدنى من رد فعلهم؟ وهل من المنطق محاسبة الضحية على سخطها وعلى ترجمة هذا السخط سياسياً؟ إن إنكار نتائج المشاعر على السياسة، بالنسبة الى قوى 14 آذار هو تماماً مثل إنكار بعضهم في قوى 14 آذار على الأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصرالله مشاعره بالمرارة من حماسة بعض قوى الأكثرية في شهر آب أغسطس الماضي لنزع سلاح"حزب الله"ودماء شهداء العدوان الإسرائيلي الهمجي على لبنان لم تجف بعد، حين اخطأ هؤلاء بالانقياد وراء تلك الحماسة. وإنكار هذه المشاعر عند السيد نصرالله هو تماماً مثل الإنكار الذي مارسه"حزب الله"تجاه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، وإزاء مشاعره حيال الضحايا الذين سقطوا نتيجة العدوان الإسرائيلي، حين بكى في خطابه الشهير أمام مؤتمر وزراء الخارجية العرب في بيروت حزناً. فقادة المعارضة والحزب لم يتركوا مناسبة إلا وهاجموا فيها دموع السنيورة مستهزئين بها في مواجهة الآلة العسكرية للعدوان الإسرائيلي، مقابل فاعلية صمود الحزب وسلاحه ومقاتليه وتضحياتهم. إنه إنكار على السنيورة أن يكون له موقف في وجه العدوان. وهو موقف سياسي ضد السنيورة، فالمطلوب حجب مواقفه الوطنية لتبرير الهجوم عليه حتى لو كانت مواقف اتخذها على الملأ ويدركها الصغير والكبير. * سياسة الإنكار هذه تقود الى الحسابات والقراءات الوحيدة الجانب وتفضي الى رمي مسؤولية كل شيء على الآخر وتقود الى ترتيب غير عقلاني للوقائع. تحذف بعضها وأحياناً تقود الى اختلاق بعضها من اجل تبرير الحسابات والتوقعات وتؤدي الى تجاهل المتغيرات. ألم يتجاهل قادة التحالف الرباعي في انتخابات العام 2005 بين"حزب الله"و"حركة امل"وتيار"المستقبل"بقيادة سعد الحريري والحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط أثر تكتل القيادات الإسلامية على التفاف الجمهور المسيحي حول العماد ميشال عون حين رأوا ان خطر تجمع المسلمين، بعد الانسحاب السوري يسلب منهم دورهم في السلطة؟ وهل يبرر هذا التجاهل التعامي عن رؤية المتغيرات الحاصلة الآن بفعل انفكاك التحالف الإسلامي الرباعي وآثار التحالف بين عون و"حزب الله"على الجمهور المسيحي وجمهور القوى الأخرى؟ ان الدعوة الى الإقلاع عن سياسة الإنكار لا تعني تبرير إنكار آخر مدى الانقسام الحاد الذي يعيشه لبنان، لكنها دعوة الى رؤية أسبابه الحقيقية.