"كنت في اميركا اللاتينية قابعاً في انتظار وصول المشاهد التي صورتها من فيلمي"رحلة الى الخوف"، حين تصرف مسؤول احمق في استديو"ار كي أو"بأمر من مديرين احمقين بدورهما ارادا ان يلعبا دور الرقيب، فأمر بأن يعاد توليف الفيلم الذي كنت أنجزته لتوي قبل السفر الى اميركا اللاتينية. كان التوليف الجديد كارثة، ولكن لحسن الحظ جرى عرضه الأول في ليلة ظلماء ولم يشاهده حينها أي شخص على الإطلاق". كان هذا واحداً من التعليقات العديدة التي كان اورسون ويلز يدلي بها كلما سُئل عما حدث لفيلمه"آل أمبرسون الرائعون"، ولماذا ابدى دائماً عدم رضاه عن هذا الفيلم. والحقيقة ان ما رواه ويلز في هذه الحكاية كان صحيحاً، غير انه كان ناقصاً في الوقت نفسه، ذلك ان ما تسكت عنه حكايته هو ان الاستديو لم يتصرف على ذلك النحو إلا بعد ان قدم الفيلم في عروضه الأولى ولم يلق استجابة من الجمهور. قبل ذلك كان ويلز، العشريني، حقق بعض نجاح، نقدي إن لم يكن جماهيرياً، على الأقل حين عرض"المواطن كين"، فيلمه الكبير الأول والأعظم، ما جعل الاستديو يتعاقد معه على أفلام عدة اخرى. لكن المشكلة بدت واضحة لاحقاً، حين تبين ان الإقبال النسبي للجمهور كان بالأحرى بسبب ما أثاره"المواطن كين"من ضجيج وارتباط حكايته بحكاية حياة سيد الصحافة هيرست. اما هذه المرة فكان مطلوباً من الجمهور ان يعيد الكرة ويقبل على فيلم له كل المقومات الفنية والموضوعية- التجديدية-"للمواطن كين"من دون ان تكون له"فضائحيته"الجاذبة. وكان هذا مستحيلاً، ناهيك بأن ويلز الذي كان صار واسع الشهرة كممثل وكاتب ومخرج، فضّل ألا يمثل في"آل أمبرسون الرائعون"... فكان غيابه علامة نقص أخرى في الفيلم. لسنا في حاجة الى التذكير هنا بأن تدخل الاستديو، في غياب صاحب الفيلم، توليفاً وحذفاً، ادى الى القطيعة بين ويلز وشركة"ار كي أو"التي كانت مؤمنة به سابقاً، بل كان البداية الحقيقية لقطيعته مع هوليوود ومع اميركا ككل. غير ان هذا لم يكن واضحاً تماماً في ذلك الحين. المهم ان"آل أمبرسون الرائعون"صار منذ ذلك الحين يعرض"مشوهاً"حين يتاح له أن يعرض. ولاحقاً فقط، أي بعد عقود طويلة قيّض لأورسون ويلز ان يحقق منه نسخة رضي عنها. ومع هذا يعتبر هذا الفيلم، في شكله الأول الحقيقي وفي شكله"المشوه"، علامة من علامات السينما الأميركية، بل ان ثمة من بين النقاد من يفضله على"المواطن كين"على اعتبار ان التجديدات الشكلية التي طبعت هذا الأخير لتبدو احياناً وكأنها استعراض عضلات، صارت في"آل أمبرسون..."جزءاً اساسياً من تركيبة الفيلم. طبعاً ليس السجال حول هذا الأمر ما يهمنا هنا، بل الفيلم نفسه الذي كان، في الاعتبارات كافة، ثاني فيلم طويل يحققه اورسون ويلز بعد أوله"المواطن كين"، على اعتبار ان الأول الحقيقي كان قصيراً في ست دقائق وتسجيلياً، وهو"قلب الأزمنة"الذي حققه باكراً جداً في العام 1934 حين كان في التاسعة عشر من عمره. اما حين حقق"آل أمبرسون..."بين 1941 - 1942، فكان في اواسط عشريناته. "آل أمبرسون الرائعون"الذي كان طوله، في نسخة ويلز الأصلية، يقارب الساعتين وربع الساعة، وصار أقل من ساعة ونصف الساعة في النسخة"التجارية"التي وزعها الاستديو تدور أحداثه حوالى العام 1873 في بلدة صغيرة من بلدات مولاند. وهو يبدأ مع راو صوت اورسون ويلز كالعادة يحدثنا عن الزمن الجميل فيما هو يصف لنا عادات اهل المنطقة وأساليب عيشهم. وبعد ذلك ندخل في لب الحكاية: حكاية ايزابيل آمبرسون فاتنة الشاب يوجين مورغان، التي ترفض الزواج منه مفضلة عليه صناعياً ثرياً هو ويلبور مينافير، تتزوجه وتنجب منه ولداً هو جورج. بعد مرور عشرين عاماً يعود جورج من الكلية التي كان يدرس فيها، في الوقت نفسه الذي يعود فيه الى البلدة يوجين مورغان ومعه ابنته الشابة لوسي التي كان أنجبها من زواجه بعدما رفضته ايزابيل فسافر بعيداً. اليوم خلال حفل استقبال ضخم، ها هما يوجين وإيزابيل يلتقيان من جديد ليتبين لنا ان يوجين اصبح مخترعاً ناجحاً وأنه الآن في صدد صنع سيارة تسير من دون جياد. يلتقي الأصدقاء اذن ويقومون بجولة لعل أهم ما فيها ان حكاية غرام تنشأ بين جورج ولوسي. في تلك الأثناء يكون ويلبور مينافير قد مات. وإيزابيل تعد يوجين بأن تصرح عما قريب بحكاية الحب القديمة بينهما لابنها. غير ان هذا يبدي كراهية غير مبررة ليوجين، بل انه يتحدث عن العربة التي يخترعها هذا الأخير باحتقار واشمئزاز. صحيح ان ايزابيل تردعه، لكن الخالة فاني، التي تكن حباً قديماً صامتاً ليوجين تشجعه، بل تستبق الأمور ملمحة الى"العلاقة"بين ايزابيل ويوجين. فتثور ثائرة الشاب ويعترض، بل انه يعلن منع يوجين من دخول منزلهم. وهذا الأخير، إنقاذاً للموقف يبعث رسالة الى ايزابيل يدعوها فيها الى عدم الرضوخ الى مشيئة ابنها الخرقاء. لكنها ترضخ. اما جورج فإنه حين يلتقي لوسي صدفة يخبرها انه عازم على اصطحاب امه الآن في رحلة حول العالم. تبدي لوسي لامبالاة، لكنها ما ان يتركها حتى تقع مغشياً عليها. ولاحقاً تتطور الأمور إذ تمرض ايزابيل وتصبح على شفير الموت، بينما ينهار وضعها ووضع ابنها الاقتصادي في وقت تزدهر فيه صناعة يوجين. اما جورج فإنه يجد لزاماً عليه الآن ان يعمل متخلياً عن طموحاته في ان يصبح محامياً. في الوقت نفسه تكون المدينة ازدهرت في شكل سريع والعمران هجم على المناطق الريفية. وإذ يندم جورج على كل ما بدر منه، يسعى الآن الى طلب المغفرة امام قبر أمه الميتة فتصدمه سيارة تكسر ساقيه. ولوسي، التي لا تزال مغرمة به تزوره الآن في رفقة أبيها، الذي سيختم احداث الفيلم قائلاً:"عندما كنت الى جانب سريره لم يخالجني أي شعور بأنني وحيد معه هناك... بل بأنني ما زلت وفياً لحبي الأبدي لإيزابيل"التي رأى يوجين ان طيفها كان يحلق معهم في الغرفة. اذا كان اورسون ويلز قد حقق"المواطن كين"انطلاقاً من سيناريو وضعه بنفسه الى حد ما بمشاركة من هرمان مانكفيتش، فإنه حقق"آل امبرسون الرائعون"انطلاقاً من رواية كانت شهيرة في ذلك الحين، وهذا بالتحديد ما يمنعنا، مبدئياً، من الحديث عن"سينما المؤلف"في صدد هذا الفيلم. ومع هذا لا يمكن للمقارنة، الفنية، بين الفيلمين إلا ان تضع"آل أمبرسون..."في مكانة متميزة، حيث ان ويلز اشتغل على لغة الفيلم الفنية، وعلى ربط موضوعه الأساس صعود وهبوط عائلة على ضوء زحف العصور الجديد، وموقع الأفراد في مثل تلك التحولات بشكله الفني، بأسلوب جعل الباحثين والنقاد بالكاد يتذكرون الأصل الروائي للفيلم كلما تحدثوا عنه. ذلك ان"آل أمبرسون..."جاء منسجماً تماماً مع سياق افكار ويلز ونظرته الى المجتمع، جماعات وأفراداً، ونظرته الى الحلم الأميركي، والتبدلات الاقتصادية والعلمية التي تنتج التطورات الاجتماعية وفي سلوك الناس. واللافت حقاً في هذا الفيلم ان ويلز ألقى فيه نظرة تكاد تكون وثائقية - تسجيلية على احوال مجتمع ننسى دائماً انه اتى من الفيلم من اختراعه، ليخيل إلينا انه موجود في ذاته، ولم يفعل ويلز سوى ان أتى بكاميراه ليصوره. اذاً ما لدينا هنا صورة لمجتمع ولكن منظوراً إليها من وجهة نظر الدراما الفردية، تماماً كما الحال في"المواطن كين"ما جعل الناقد الفرنسي اندريه بازان يطلق على الفيلمين معاً صفة"ثنائي الواقعية الاجتماعية". كما أشرنا كان اورسون ويلز 1915 - 1985 حين حقق"آل أمبرسون الرائعون"في بداياته السينمائية، لكنه كان قد وطد مكانته الكبرى في الحياة الفنية الأميركية، من خلال انخراطه في الأعمال المسرحية والإذاعية. ولئن كان هذا الفيلم هو ثاني اعماله الكبيرة، فإننا نعرف انه يبقى في مقدمها على رغم ان هذا الفنان المخرج والممثل والكاتب حقق بعد ذلك عدداً كبيراً من أفلام وضعته في الصف الأول بين كبار سينمائيي العالم في كل الأزمان، ومن بينها أعمال مقتبسة من شكسبير، إضافة الى"المحاكمة"عن كافكا، وپ"سيدة من شانغهاي"وپ"السيد أركادان"وپ"لمسة الشر"وپ"حكاية خالدة"عن قصة للدنماركية كارين بليكسن... وغيرها.