كانت هووليود تخلّت تقريباً عن أورسون ويلز عندما قارب الناقد السينمائي الفرنسي أندريه بازان فيلمه «دونكيشوت» في محاولة منه انهاء السيرة النقدية الحافلة التي كان يكتبها عنه. لم يكن ممكناً تجاوز هذا الفن الجديد الذي يجمع «بين الصحافة والاذاعة والسينما والمسرح». يقول بازان إنه لم يكن ممكناً الحديث عن هذا الفيلم إلا بالطريقة التي تحدث بها ويلز نفسه عنه. لقد وجد مخرج فيلم «المواطن كين» في التلفزيون طريقة للتعبير عن نفسه بعد أن حرمته هوليوود من الأموال. وسيبدو واضحاً أن قلة التكاليف والتوفير الذي يمثله هذا الفن الجديد ستسمح له بإكمال هذا الفيلم بالاعتماد على الأموال التي جناها لنفسه من عمله كممثل في المسرح والتلفزيون. ربما تبدو هذه مقدمة نافلة للحديث عن «مخرج ملعون» مثل أورسون ويلز، اذ تبدو أحلامه الموقرة ببناء قبة زجاجية في سماء هوليوود مطعونة في الصميم، حتى من بعد الفتوحات التي أمنّها لنفسه في فيلم «المواطن كين». ليست المسألة في الانقلاب الذي أحدثه الفيلم في تاريخ السينما. ويلز كان في عصره المخرج السينمائي المعاصر الأكثر تأثيراً، وكان لزاماً كما يفترض بيتر بوغدانوفيتش في حديثه عن الكتاب الصادر حديثاً عن مؤسسة السينما السورية بترجمة نوال لايقة، أن يكتب عنه الناقد الأكثر تأثيراً في عصره. لا أحد يمكنه بالتأكيد أن يطلب أكثر من ذلك. كان الناقد الفرنسي بازان في الثامنة والعشرين من عمره حين عُرض «المواطن كين» في باريس، وبعد أربع سنوات قام بكتابة «أورسون ويلز». وقبيل وفاته بوقت قصير قام بتنقيحه، وقدم له المخرج الفرنسي فرنسوا تروفو، وقام جان كوكتو في الوقت نفسه باستعراض حياة المخرج «الذي يقف على المسرح قبالة جمهور قليل ليقول إنه بضخامته رجل كثير في مواجهة قلة قليلة». ومهما قيل في الكتاب أو في اورسون ويلز نفسه يبقى ما كتبه بازان أمراً مختلفاً. لقد كانت تجربة مميزة ونادرة بحسب «نيويورك تايمز بوك ريفيو». حتى أن البعض اعتبر هذه المقاربة النقدية موازية ل «نار بازان» باعتبارها مقالة موسوعية. لم يكن مبالغة أن يكون العمل ملهماً لجيل كامل من النقاد، ولم يكن ممكناً لهذه النظرة المتفحصة والثاقبة إلا أن تعجب عشاق فن ويلز. لم يكن مقدراً لهذا المخرج المشاغب أن يصبح، وفق مقدمة تروفو، مخرج أفلام أميركياً خالصاً، وذلك لسبب وجيه جداً، وهو أنه لم يكن طفلاً أميركياً خالصاً. اورسون ويلز مثل هنري جيمس، سيفيد من ثقافة عالمية، وسيدفع ثمن هذا الامتياز من خلال شعوره بعدم الانتماء لأي مكان. فهو الأميركي في أوروبا، والأوروبي في أميركا. وسيشعر دوماً بأنه منقسم على نفسه، إن لم نقل رجلاً ممزقاً. هل صحيح أن الفيلم السينمائي كان بالنسبة إلى هذا الرجل الممزق «ضمامة من الأحلام»؟ يرتبط اسم اورسون ويلز – للمفارقة – بحماسة اعادة اكتشاف السينما الأميركية نفسها. فقد ساد بين النقاد الشباب في تلك الفترة أن «ثمة ثورة في الشكل واللغة في هوليوود» وسيعجب المرء «ما إذا كان ويلز يستحق بالفعل أن يوضع في مصاف غريفيث وشابلن وشتروهايم وأيزنشتاين في تاريخ السينما». ربما بدا ويلز عملاقاً له مظهر طفل، أو شجرة مليئة بالعصافير والظلال، أو حتى «كلباً قطع سلسلته واستلقى فوق مسكبة الزهور». ومع ذلك يمكن القول إنه حتى لو لم يخرج سوى «المواطن كين» و«آل امبرسون الرائعون»، فإن ويلز كان سيحتل مكانة رائدة، ولن ينتقص من أهميتها الأفلام التي أخرجها لاحقاً، فقد أكد الفيلمان على أن جوهر ما قدمه ويلز للسينما على مستوى الشكل على الأقل، موجود فيهما حتى أنه يمكن القول بعد التحليل والتأمل إنهما يكشفان وحدة الأسلوب، اذ يشكل الفيلمان مساحة جمالية هائلة تستحق جيولوجيتها وتضاريسها الدراسة المتزامنة، وهما يدينان بأهميتهما التاريخية وتأثيرهما الحاسم على السينما في كل أنحاء العالم لأصالة التعبير الهائلة ولروعتهما الشكلية أكثر مما يدينان بذلك إلى الرسالة الأخلاقية والفكرية التي حملاها. عموماً لم تغفر هوليوود لابنها المبذر هذه السيرة الحافلة والمشاغبة والملعونة، وتعاملت معه بحذر، وفي الظروف التي عاد فيها إلى تلك القلعة لم يكن ممكناً الوقوع مجدداً على ظروف مناسبة لاخراج فيلم بمستوى «المواطن كين». وصارت حالته تذكر من جوانب كثيرة بحالة شتروهايم، فقد قتله تمرده على قوانين الحظيرة، حتى أنه صار يشبه بدرجة كبيرة بطله أركادين احد هؤلاء المغامرين: إنه مذنب بارتكاب خطيئة ميتافيزيقية، لا خطيئة أخلاقية كما قد توحي أخلاق الحظيرة من حوله.