بعد أسبوعين من إصدار تقرير مجموعة الدراسة المعروفة بلجنة بيكر - هاملتون, أجّل البيت الأبيض الإعلان عن استراتيجيته الجديدة في العراق. وبحسب مستشاريه, فالرئيس جورج بوش في حال استماع إلى وزارة الخارجية, البنتاغون, سياسيين عراقيين كبار, وخبراء عراقيين مستقلين. ونقل عنه قوله:"لن أكون متسرعاً في اتخاذ قرار صعب لكنه ضروري". وعلى رغم جهده الواضح كي يبدو محاوراً ومستعداً للمشورة، فإن الرئيس بوش يحس بحرارة الوضع، ولكن، لم تكن الحرب الأهلية المتزايدة ولا العنف الطاحن الذي يقتل آلاف العراقيين يومياً، ولا حتى الحدود الدنيا من الدعم الشعبي للرئيس، فإن بوش لم يستطع خرق العالم الخيالي الذي يقيمه, بل إن اللغة الصارخة التي وصفت بها اللجنة الظروف في العراق, والرؤية البديلة التي قدمت للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط هما ما أجبر بوش على الاعتراف أخيراً بفشل نظريته. تقرير بيكر - هاملتون ذاته لم يلق صدى طيباً منذ إصداره, إذ خضع لانتقادات شديدة من اتجاهات عدة. وإن لم يفعل غير إثارة الجدل في واشنطن حول السياسة المتبعة في العراق، فإن ذلك يعد أمراً مستحسناً. والسؤال الآن ليس عن وجود معنى للاستراتيجية الحالية وإنما ما يجب أن تكون عليه السياسة البديلة. وإذا كان البيت الأبيض لم يعجبه ما سمع من اللجنة، خصوصاً من الانتقادات الحادة لسياسته في العراق، فإنه لا يملك الآن إلا خيار تقديم البديل. التقرير كفّ يد الرئيس لأسباب عدة، على رغم انه لم يصل إلى الاعتراف بأن الولاياتالمتحدة لم يعد لها أملٌ في تحسين ظروف العراق بما يخدم في النهاية أهدافها. لقد أوضح العلاقة بين ما يمكن أن تتوقع أميركا انجازه في العراق وبين وضعها في المنطقة. وأكد الارتباط بين الصراع العربي - الإسرائيلي وتراجع نفوذ واشنطن في الدول العربية العدوة والصديقة. ودعا أميركا إلى العمل مع سورية وإيران الخصمين الأكثر عناداً للرئيس بوش في المنطقة. قبول هذه الرؤية يتطلب أكثر من تعديل في السياسة الأميركية تجاه العراق. انه يتطلب إعادة تصور شامل لسياستها في الشرق الأوسط، من القمة إلى القاعدة. فمن وجهة نظر البيت الأبيض حملت هذه التوصيات السلطة والصدقية للجنة قوية وبارزة. فضلاً عن وصول التقرير إلى الأثر الفوري للانتخابات التي أنتجت نصراً مذهلاً للديموقراطيين في الكونغرس. ما يحفّز الرئيس ليس الظروف في العراق ولا الأرقام الهابطة لاستطلاعات الرأي، بل التهديدات التي طرحها تقرير اللجنة على سيطرته الواسعة على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، والتحدي للوهم الذي دافع عنه هو ومستشاروه المقربون والذي كلف مقتل 600000 عراقي و3000 أميركي. وفور تعميم التقرير شنّ بوش هجوماً مضاداً، أولاً برفض قبول ما سماه الأفكار التي ستقود إلى الهزيمة في العراق، وثانياً ببحث مستميت عن خيارات بديلة، تركها للآخرين، الرئيس العراقي طالباني ولمثقفي المحافظين الجدد وقادته العسكريين ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس الذين رفضوا جميعهم توصيات التقرير. ماذا سيكتشف الرئيس أثناء بحثه عن الحكمة في قاعات البنتاغون ووزارة الخارجية؟ ماذا يمكن أن نتوقع حين يقرر أن الوقت أصبح مناسباً ليقدم نهجه الجديد - على الأكثر في خطابه السنوي الدوري حول"حال الاتحاد"الذي يجريه في أواخر كانون الثاني يناير؟ هناك شيء واحد فقط يقيني. إنها خيبة الأمل بأي تغيير جدي في الاتجاه. بالنسبة الى الكثير من الأميركيين والعراقيين، فإن استعداد بوش للاعتراف بفشل سياسته الحالية وتعديلها متأخر سنتين على الأقل. وعلى رغم الاستشارات الشاملة، فالتغيرات التي يمكن ان يقترحها الرئيس ستكون قليلة جداً لتؤثر في سير الأحداث على الأرض. الأكثر احتمالاً هما تغيران في الشكل وربما في المضمون في سياسة أميركا في العراق, ولن يلقيا الترحيب في بغداد. الأول استخدام وجود القوات الأميركية في العراق كورقة مساومة لجعل الوجود الأميركي مشروطاً بتقدم التسوية بين الفئات السياسية في العراق وبنجاح أداء الحكومة في خفض مستوى العنف. لقد قاوم الرئيس طويلاًَ اتخاذ هذه الخطوة، منذ أن ناقض التزامه بأن يبقى في العراق حتى يُنهي المهمة. الثاني هو نقل اللوم إلى السياسيين العراقيين، وهذا شرط ضروري لادعاء أميركا أنها وفت بالتزامها الأخلاقي في تأسيس الاستقرار, وتشكيل الحكومة بعد الاحتلال الأميركي الذي اسقط نظام صدام حسين ويمكنها بالتالي مغادرة العراق متحررةً من الذنب على رغم فتح باب الحرب الأهلية. الصراع في العراق اليوم، الذي أخذ تجليات طائفية وعرقية، أدخل العراق في حربٍ أهلية حقيقية لا أمل في الخروج منها في المستقبل القريب. فالحروب الأهلية لا تتوقف بقرارٍ سياسي أو طائفي، إنها تتوقف فقط عندما تشعر الأطراف أو الطوائف في الحال العراقية بالإنهاك، بحيث تكون قتلت وقُتل منها ما يُشعرها بالحاجة إلى التوقف عن هذه العملية غير المنتهية. وما يفاقم الحرب الأهلية في العراق ويؤججها اليوم احتفاظ كل طرفٍ بذخيرته في المشروعية السياسية لمتابعة مواقفه السياسية وبالتالي الطائفية، فالشيعة يدافعون عن ظلم"تاريخي"منعهم من حكم العراق على رغم أنهم يشكلون الأكثرية، أما السنّة فمعادلتهم السياسية اليوم تقوم على إخراج الاحتلال بأي شكل وإن أدى ذلك إلى دخول العراق في حرب أهلية طاحنة كونهم الطرف الأكثر تضرراً من القوات الأميركية والبريطانية. المنظوران يتضادان في رؤيتهما السياسية وهما غير قابلين للمصالحة، وانعكاسات ذلك على الأرض حرب أهلية تدافع عن المشروعية والرؤية السياسية لكل طرف. وما يضاعف من المأساة أن العراق اليوم بات مفتوحاً إن لم نقل مستدعياً للتدخلات الإقليمية التي تتناقض مصالحها السياسية ورغباتها في بناء التحالفات الإقليمية وهو ما يجعل مستقبل العراق مدعاة للتشاؤم. ليس مجدياً اليوم تقاذف كرة المسؤولية بين سياسيي الشرق الأوسط والولاياتالمتحدة الذين بدا كلٌ منهم متنطحاً للقول بأسبقية تحذيره وأحقية رؤيته لما يحدث في العراق. وما يجري يتحمل مسؤوليته الجميع. فسياسات صدام حسين كان من المستحيل أن تستمر وكان من الطبيعي أن تثمر المرارة التي يحصدها العراقيون اليوم، كما أن السياسات الأميركية اليوم التي لا تطرح إلا بقاء القوات الأميركية وعديدها تعتبر استهتاراً ولا مبالاة بما وصلت إليه حال العراقيين، وتشكل حليفاً موضوعياً للأنظمة الاستبدادية العربية التي تبتهج بالمأزق الأميركي في العراق لأنه يحميها من مساءلة ذاتها ومحاسبتها أمام المجتمع الدولي لسياساتها القمعية المستهترة بالمشاركة الشعبية في صنع القرار والقيام بالإصلاحات التي تتيح لمجتمعاتها النهوض والتنمية. هكذا تبدو السياسة الأميركية في الشرق الأوسط أمام مأزق مزدوج، فمن جهة لا تجد مخرجاً أخلاقياً ومقنعاً لخروجها من العراق يضمن تحقيق مصالحها فيه، ومن جهة أخرى عودة إلى سياسة الاستقرار للأنظمة الاستبدادية والقبول بها أمام حرب أهلية عراقية يحصد نتائجها أشد خصوم الولاياتالمتحدة عداءً وهي إيران. ليس الخطأ في الإيمان بالحرية كواجب أخلاقي، فهذا يعتبر تطوراً أخلاقياً نوعياً في السياسة الأميركية، لكن الخطأ في الإيمان المطلق بأننا نريد تحقيق سياساتنا ومصالحنا بغض النظر عن مصالح الشعوب الأخرى ذاتها وثقافاتها، إنها عملية طويلة يجب ألاّ تخضع للمساومة، لأن تنمية المنطقة مرتبطة بالاستقرار البعيد الأجل، وهذا لن يتحقق إلا عندما تمر المنطقة برمتها بإصلاح ديموقراطي شامل يشكل حل الصراع العربي - الإسرائيلي مدخله الرئيس. حذر وزير الخارجية السابق كولن باول الرئيس بوش قبل الاحتلال وبعده من أنه إذا فشل الاحتلال فإن أميركا ستكون مسؤولة عن النتائج. قال باول:"إذا هزمته ستمتلكه". واليوم وبعد ثلاث سنوات من الفشل في العراق، لا بد من مراجعة شاملة للسياسات الأميركية في المنطقة بمنطق أبعد من توصيات اللجنة الموقتة ذاتها، فإذا لم يعد الرئيس يرغب بامتلاك العراق ويبحث عن السبيل الأمثل للخروج منه بجعل العراقيين مسؤولين عن مصيرهم، فيتخذ البيت الأبيض الخطوة الأولى نحو الانسحاب من بلد لن يكون قادراً بحسب تعبير اللجنة على حكم نفسه أو الدفاع عن ذاته، فإن القول يبقى صحيحاً بأنه فيما بغداد تستمر في الاحتراق، فإن واشنطن ستستمر في العبث. * هايدمان مدير مركز الديموقراطية والمجتمع المدني في جامعة جورجتاون - واشنطن، وزيادة مدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان - دمشق.