تسع وسبعون توصية في تقرير لجنة بيكر - هاملتون تشير في مجملها الى السياسة الخارجية الأميركية في العراق والشرق الأوسط. وتعكس رأياً عاماً أميركياً وغربياً حيال هذه السياسة التي باتت تحت النقد في الولاياتالمتحدة وخارجها. أهمية هذا التقرير تعود الى كون واضعيه من أقطاب السياسة الأميركية، والمساهمين في صنعها طوال عقود خلت. والى انه أتى بعد دراسة معمّقة انطلاقاً من مصلحة الولاياتالمتحدة أولاً، فهو على رغم موضوعيته النسبية أراد تجميل صورة أميركا في العالم، وازالة معالم التشوّه التي أصابتها في عهد جورج بوش. لذلك جاء التقرير على شكل نصائح ومقترحات للتعامل مع أزمات الشرق الأوسط، مع إقراره بأهمية هذه المنطقة في السياسة الدولية، وتفاعلات النظام العالمي. ويكتسب التقرير أهمية اضافية نظراً لما لاحظ من ترابط عضوي بين الملف العراقي، والملفات الأخرى في الشرق الأوسط من الملف النووي الإيراني، الى حرب أفغانستان، وتعقيدات الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وتدعيات الحرب الاسرائيلية على لبنان وصولاً الى تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701، ومستقبل السلام والأمن الإقليمي... كم من الدراسات العربية والغربية في العقود الماضية التي أشارت الى مركزية قضية فلسطين في الشرق الأوسط، والى كونها مدخلاً لتسوية أزمات أخرى ذات طابع اقليمي وامتدادات دولية من وسط آسيا الى شمال أفريقيا؟ وكم من النصائح التي أُسديت الى البيت الأبيض في عهود خلت من أجل الاحتكام الى الشرعية الدولية، والضغط على اسرائيل لبلوغ تسوية قابلة للحياة؟ وعندما يسأل الرئيس الأميركي عن أسباب الكره العالمي للسياسة الأميركية، سيجد الجواب في تجاهل قضية فلسطين منذ زمن، وإهمال القرارات الدولية ذات الصلة. هذا جانب من أهمية التقرير، ومدى ما سيؤثّر في السياسة الخارجية الأميركية. الى ذلك، هناك جانب آخر يتعلق بالملف العراقي، وكيف آلت السياسة الأميركية الى تخبط في بلاد الرافدين، والى أن الوضع في العراق"خطير ومتدهور"، فمن أوجد هذا الخطر وهذا التدهور؟ وعندما يدعو التقرير الى"المصالحة الوطنية"لتشمل البعثيين والقوميين العرب، يتبادر الى ذهن المراقب تفكيك الجيش العراقي عشية احتلال بغداد في سنة 2003، هل هذه الخطوة خطأ أميركي، ومن يتحمل مسؤوليتها؟ وعندما يدعو التقرير الى القيام بپ"حملة ديبلوماسية"لدعم وحدة العراق، وسلامة أراضيه، ووقف التدخلات من جانب جيران العراق، وتأمين الحدود بما في ذلك تسيير دوريات مشتركة مع دول الجوار سورية وايران، وتحفيز الدول على دعم المصالحة الوطنية، والتوزيع العادل لعائدات النفط، وتفكيك الميليشيات العراقية... يسأل العراقيون عن مدى التدهور الذي وصلوا اليه، اجتماعياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً؟ وبصرف النظر عن الحقيقة الأكاديمية التي تُحمِّل الاحتلال مسؤولية التدهور، فإن السياسة الأميركية في العراق والشرق الأوسط لم تُفِد من التجارب الراهنة والسابقة، ولا تزال متجاهلة الوقائع الجيوسياسية والجيواقتصادية! لماذا لم تدعم واشنطن مجموعة دول الجوار الاقليمي ايران، تركيا، السعودية، سورية، الأردن، الكويت، مصر طوال السنتين الماضيتين لضبط الحدود، وتسوية العلاقات البينية مع العراق؟ ولماذا لم تحم الثروة النفطية من الهدر والسرقة والتدمير؟ كانت دول الجوار تلك، وبخاصة سورية وايرانوتركيا، تريد حواراً مع واشنطن حول العراق، وقضايا الأمن الاقليمي، ولا تزال تريد هذا الحوار، فهل استجابت السياسة الأميركية للأدوار التي يمكن أن تؤدّيها دول الجوار؟ يجيب الرئيس بوش منذ أيام معدودة بأن لا حوار مع طهران قبل وقف تخصيب اليورانيوم، ولا حوار مع دمشق طالما هي تدعم"الإرهاب"، والإرهاب المقصود هنا هو:"حزب الله"في لبنان وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين. فما الذي يمكن أن يتغير في السياسة الأميركية خلال ما بقي من عهد الإدارة الحالية؟ سوف يتحرك الديموقراطيون الرابحون داخل الكونغرس من خلال الملف العراقي أولاً. هم يستندون في تحركهم الى رفض انفاق آلاف البلايين من الدولارات في حربٍ غير مضمونة النتائج والعواقب، والى صعود الرأي العام الأميركي الرافض لاستعادة صورة المأساة الفيتنامية، والى تململ الحلفاء على قلة مشاركتهم في العراق - من البقاء في بلاد الرافدين، والى فشل حلف شمال الأطلسي في حرب أفغانستان بشهادة قائد قوات الحلف الجنرال جونز... وعلى رغم سقوط مسؤولين من الإدارة الأميركية، من أركان المحافظين الجدد، فإن الإدارة الحالية لم تحسم خيارها بعد بالابتعاد عن نصائح صنّاع الحروب الاستباقية على محور الشر، الذين يدفعون باتجاه مزيدٍ من المواجهة الساخنة في غير منطقة من العالم. الفشل الأميركي في العراق يتجسد في بيانات متواترة صادرة عن البيت الأبيض تأسف لتدهور الوضع نحو حرب أهلية، أو مواجهات داخلية، أو انقسامات أهلية... وكأن الولاياتالمتحدة غير مسؤولة، وغير معنية! ثم يتكرر الفشل بالدعوة المتكررة لتحسين أداء الحكومة العراقية الحالية، وكأن هذه الحكومة نشأت بالتناقض مع السياسة الأميركية. اسرائيل هي المستفيدة الأولى من حرب العراق، ونظرية الفوضى البناءة. ولذلك، رفضت حكومة أولمرت تقرير بيكر - هاملتون، من خلال انكار الربط بين الصراع العربي - الإسرائيلي والملف العراقي. ولسوف يستمر السعي الإسرائيلي لدفع الولاياتالمتحدة نحو مزيدٍ من التورط في الحروب، بعيداً من تطبيق القرارات الدولية الخاصة بفلسطين، وذلك تحت عناوين كبرى: مواجهة التطرف الأصولي الإسلامي، ومواجهة الحركات الإرهابية في الشرق الأوسط والعالم، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل إلا في اسرائيل. هل ترتقي السياسات الرسمية العربية الى مستوى مضمون هذا التقرير، وما فيه من خلاصات ونتائج؟ وهل تبلغ مرحلة الرشد بتجنب الانزلاق الى وحول الطائفية والمذهبية والعشائرية؟ أم أنها ستحتاج الى وصاية خارجية دائمة؟ * كاتب لبناني