تعودنا في مناسبات معينة ومفاصل مهمة أن نتوقف قليلاً لالتقاط الأنفاس والالتفات الى الوراء لاستخلاص العبر والدروس واجراء جردة حسابات عن القضايا التي تهمنا لتحديد السلبيات والايجابيات وفرز الجيد عن السيئ ومحاولة رسم ملامح صورة المستقبل من خلال ما تم رصده من تجارب هذه الحقبة المنصرمة. ففي مثل هذه الأيام من كل عام نتبارى في تحليل المعطيات وتحديد النتائج من خلال عملية فرز مستندة الى وقائع ومجريات أحداث العام المنصرم دون تحيز ولا "رتوشات" على أمل ان نلفت الأنظار الى أحوالنا ونقرع الجرس للتنبيه من مخاطر قادمة والتحذير من مغبة المضي في أخطاء الماضي ان لم نقل خطايانا"وارتكاباتنا"بحق أمتنا، أو بالأحرى بحق أنفسنا وبحق أجيالنا وأولادنا وأحفادنا. وأذكر انني في العام الماضي استهليت مقالي ببيت من الشعر يقول: رب عام بكيت منه ولما صرت في غيره بكيت عليه! وبكل أسف فإن الوقائع ومجريات الأحداث قد انطبقت عليه وتماشت مع"سوداويته"من خلال كل ما شهدته ديارنا"العامرة"من أحزاب وآلام وحروب وأزمات وفتن وخلافات وأخطاء وخطايا. ولم أعد هنا لأذكر وأكرر ترداد بيت الشعر وأشارك في جلد الندب وذرف الدموع الساخنة ولكن لأسرد وقائع وأرسم صورة متكاملة عما شهدته أمتنا خلال العام المنصرم الذي نودعه بعد أيام لنستقبل عاماً جديداً ندعو الله عز وجل أن تكون أحوالنا فيه أقل سوءاً ان لم أقل أحسن وافضل وأكثر اطمئناناً وأمناً واستقراراً. ولكن النذر لا تبشر بالخير فالتركة ثقيلة جداً والأزمات المحولة من عام الى عام تتعاظم وتتزايد حدة وحجماً وتنوعاً وتعقيداً في النوعية والكمية! وعندما نقف اليوم لنودع عام 2006 نجد أنفسنا أمام أطلال ذكريات نأمل أن لا نتذكرها من جديد ولا أن تعاد وتتكرر لأنها لم تكن أحداثاً تقليدية كعاصفة أو أزمة عابرة تقع ثم تنتهي مفاعيلها فوراً أو خلال وقت قصير، بل هي أحداث يبنى عليها أزمات ومفاعيل مركبة تشبه الى حد بعيد"القنابل العنقودية"التي ألقت اسرائيل الآلاف منها خلال حربها على لبنان لتنفجر بالتتابع وفي أوقات مختلفة وتنشر الموت والدمار. وقد يقول قائل ان كل الأعوام متشابهة عند العرب منذ أكثر من قرن من الزمان وأن كل عام يمضي يكون أفضل من العام التالي بسبب التهاون العربي والخلافات والتخلف والتشرذم أولاً ثم بسبب زرع اسرائيل في قلب العالم العربي مع كل ما تحمله من بذور الإجرام والحقد والتآمر ثانياً، ثم بسبب المطامع الأجنبية المتنامية والصراعات الدولية ثالثاً ورابعاً وخامساً ولأسباب أخرى كثيرة نعرفها جميعاً. من حيث المبدأ يمكن القول ان هذا الطرح صحيح رغم سوداويته وتشاؤمه ولكن ما يمكن اضافته عليه هو"الزيادات"و"الاضافات"والتطورات الجديدة التي أدخلت عليه خلال العام المنصرم لتصب الزيت على النار وتزيد من حدة الأزمات وتوسيع مداها وهي على سبيل المثال لا الحصر: 1- بروز عامل إحياء الفتن الطائفية والمذهبية بشكل خاص، وبين السنة والشيعة بالتحديد، ومشاركة أطراف محلية واقليمية وأجنبية في إيقاظ هذه الفتن والتحريض عليها لتوريط العرب والمسلمين في حروب عبثية مدمرة نعرف كيف تبدأ ولكننا لا يمكن أن نستشرف كيف ستنتهي لأن ذيولها ستكون خطيرة ونتائجها ستأكل الأخضر واليابس. ولم يعد ينفع انكار وجود مثل هذه الفتن بل لا بد من المسارعة الى إطفاء نيرانها وإزالة حطبها وسحب صواعق تفجيرها. فكم سمعنا من العراقيين من تأكيد وجزم بأن العراق لم يعرف ولن يعرف الفتن المذهبية وأن وحدته الوطنية أبدية وثابتة، وكم جوبهنا بنفي من مختلف الفئات لأي خلاف بين السنة والشيعة بل ان الكل يشهد بهذا الواقع. فشيعة العراق، مثل سنته عرب أقحاح متمسكون بمبادئ دينهم الحنيف ويمارسون شعائرهم بكل حرية وإيمان دون تعريض لمن ينتمي الى غير ملتهم رغم المظالم التي ارتكبت في عهد النظام البائد ورئيسه صدام حسين. كما ان شيعة العراق كانوا يفاخرون بمرجعياتهم العربية في النجف الأشرف، والأكثر من ذلك ان غالبية الجيش العراقي الذي شارك في الحرب مع ايران كانوا من الشيعة الذين دافعوا عن حياض وطنهم بغض النظر عن انتمائهم المذهبي. ولكن الحرب على العراق غيرت الموازين وأيقظت الفتنة النائمة وأحيت الغرائز الطائفية والعرقية والمذهبية وركزت على اشعال نار الفتنة بين السنة والشيعة. فمن جهة قام المحتل الاميركي بعدة اجراءات وأعمال عدوانية استهدفت السنة وهمشت دورهم وشنت عليهم حرباً همجية لسلبهم حقوقهم. ومن جهة ثانية أصر بعض الأفرقاء العراقيين على الاستئثار بالحكم وتقاسم الحصص والمناصب والثروات والغنائم على حساب السنة مما أدى لعزلهم وإحراجهم لاخراجهم وسعيهم للمقاومة والرفض. ومن جهة ثالثة أسهمت ايران في إحياء هذه الحالة بالتدخل في شؤون العراق وتغليب فئة على فئة ونقل المرجعية الدينية من النجف الأشرف الى قم الايرانية وغيرها وشن حرب منظمة على رموز السنة ولا سيما العلماء العراقيين وكبار ضباط الجيش الذين تعرضوا للاغتيال والتصفية والتهديد وفق قوائم انتقام معدة سلفاً شارك فيه الاسرائيليون من جهة وعملاء ايران من جهة ثانية. وبكل أسف فإن هذه الفتنة التي تكاد تدمر العراق وتحصد أرواح أبنائه من كل الأطراف لم تقتصر على حدوده بل امتدت الى المنطقة بأسرها لتأخذ اشكالاً متعددة من الصراعات تجلت في أبشع صورها في لبنان أخيراً. وهنا ايضاً لا يفيد انكار ولا نفي. فصحيح ان هذه الفتنة مستحدثة ولم تكن موجودة من قبل الا بشكل محدود وخفي جداً لأن الصراع كان طائفياً في الحروب السابقة، ولكن الأحداث الأخيرة أوجدت هذه الحالة المرضية التي يأمل كل مخلص ومحب للبنان ان توأد وهي في مهدها لأن تركها تستشري أو السماح للمغرضين يصب الزيت على نيرانها يعني دمار لبنان نهائياً وحصد أرواح أبنائه وانتشار اللهيب الى المنطقة العربية بأسرها فيما العدو المشترك يفترج شامتاً وفرحاً بإنشغال العرب بحروبهم العبثية وتكفلهم بالانتحار وتدمير أنفسهم بأنفسهم. 2- اختلال التوازنات العربية وسقوط العرب في مستنقع الخلافات والارتباك والضياع والتشرذم. فقد تكفل الاميركيون في تدمير الظهير الحيوي وتفتيت السند العراقي للعرب فيما تكفل الاسرائيليون بالباقي. كما تحول العرب الى متفرجين على الأحداث عبر الفضائيات فمنهم من نأى بنفسه عن كل ما يجري ومنهم من اختار السلامة ومنهم من اختار سبيل التطبيع مع اسرائيل. والأخطر من كل ذلك ان الخلافات وصلت الى حائط مسدود وشملت"محور الأمان"التقليدي الذي أنقذ العرب في الملمات وهو محور مصر - السعودية - سورية مما أدى الى اختلال التوازن في العمل العربي وتوالي الأزمات وزيادة صلف العدو وتحديه للعرب واعتداءاته على الفلسطينيينواللبنانيين ومضيه في عملية انتهاك اتفاقيات السلام وتهويد الأراضي العربية المحتلة وإحاطة القدس الشريف بأسوار من المستعمرات الاستيطانية. ولهذا لا بد من اصلاح هذا الخلل اولاص للعودة الى سبيل الانقاذ وحل المشاكل المستعصية وحقن الدماء العربية وإطفاء حرائق الفتن ووقف حمام الدم في العراق والعمل على صيانة وحدته وقطع دابر مخططات التفتيت والتقسيم والفيدراليات والمسارعة الى انقاذ لبنان ومنع إنزلاقه الى حروب مدمرة وإزالة أسباب الاحتقان المذهبي الذي ينذر بأسوأ العواقب. 3- كان من نتيجة إختلال الموازين العربية والتهاء العرب بخلافاتهم وشجونهم سحب"سلطة"التقرير والرأي والقرار والدور والنفوذ من أيديهم ووضعها في أيادي الغير أي القوى الاقليمية ايران واسرائيل اولاص وتركيا في المرتبة الثانية مقابل قوى دولية بدأت تعود لحروبها الباردة وربما الساخنة في صراع خفي تارة وعلني تارة أخرى لم يعد خافياً على أحد. وزاد من حدة الأزمة دخول العامل النووي الى الساحة ليضغط على أوضاع المنطقة وينقل الصراع الى حدود الخطر. وإذا لم يسارع العرب الى اصلاح الخلل واستعادة الدورا لمسلوب فإن الضياع سيتكرس والأزمات ستتوالى ليفقدوا لاحقاً دورهم ووجودهم لحساب القوى الاقليمية التي تساوم عليهم وتسعى لبدء حوارات لاقتسام مناطق النفوذ والتعامل مع الدول العربية كتعامل الدول العظمى مع الامبراطورية العثمانية في مطلع القرن المنصرم أي اعتبارها بمثابة"الرجل المريض"! 4- حصلت الولاياتالمتحدة على الورقة الرئيسية في تقرير أمور المنطقة الى جانب القوى الاقليمية، ولكن المتغيرات التي طرأت في العام المنصرم زادت من حدة الأزمات وحالات الإرتباك في المنطقة ما أدى الى اعادة خلط الأوراق من جديد وبروز معادلات جديدة. فالفشل الاميركي في العراق وضع المنطقة على عتبة مفترق طرق ما استدعة إعادة تصويب المسار ورسم استراتيجية جديدة في العراق والمنطقة، خصوصاً بعد نتائج الانتخابات النصفية الأميركية والهزائم التي لحقت بالحزب الجمهوري الحاكم ورئيسه جورج بوش وانهيار صروح المحافظين الجدد وسقوط نظريات الفوضى الخلاقة والتفتيت وحق القوة المعراة والتفكيك النظيف وقيام الامبراطورية الاميركية المهيمنة لوحدها على العالم كله. هذه هي إذن العوامل الجديدة التي ظهرت وترسخت في العام المنصرم وميزته عما سبقه من أعوام. أما الأحداث الساخنة التي شهدها العرب خلال عام 2006 فهي تأتي في سياقها وضمن فصول مجرياتها ومفاعيلها من حرب اسرائيل على لبنان والأزمة الحكومية وقفز المعارضة الى السلطة للإمساك بتفاصيلها الى الأحداث الدامية في فلسطين والخلافات بين الأخوة ورفاق السلاح والصراع على السلطة بين"فتح"و"حماس"فيما العدو يقتل ويدمر ويحاصر ويتحدى ويمضي في مخططاته التوسعية الى حمام الدم في العراق والتفجيرات والاغتيالات والفتن والمقاومة التي نأت بنفسها عن الارهاب و"القاعدة"التي فقدت رمزها الزرقاوي. وبعد ماذا نقول عن عام بكينا منه وندعو الله ان لا نبكي عليه، ففي كل ذكرى منه غصة في الحلق ودمعة في العين وجرحاً في القلب! فهل ضاع الأمل؟ رغم كل ما تقدم علينا ان نتفاءل وندعو للنهوض من الكبوة وانقاذ ما يمكن انقاذه، كما ان علينا ان نذكر بعض الايجابيات التي حدثت خلال العام المنصرم مثل الانتخابات التي شهدتها دول خليجية عدة وشهد لها الجميع بنزاهتها، والاصلاحات الكبرى والمشاريع الاقتصادية التي أعلن عنها الملك عبدالله بن عبدالعزيز في المملكة العربية السعودية عبر استخدام عائدات الفورة النفطية في تحقيق النمو والازدهار ورعاية المواطنين ولا سيما من أبناء الطبقات الفقيرة. والأمل، كل الأمل، ان نودع مع عام 2006 كل موبقاته وآلامه وأحزانه ونستقبل مع العام الجديد بشائر الأمل بغد أفضل يقوم على المحبة ودائم السلام والأمن والأمان. وكل عام وأنتم بخير. * صحافي عربي.