قبل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في نهاية العام 1987، كان تنظيم الجهاد الاسلامي إذ يعلن قربه من ايران يتعرض من طرف القوى الأخرى ومنها بعض "الاخوان" و"حماس" لاحقاً، الى هجوم يصفهم بأنهم شيعة. وقد ازداد الأمر سوءاً باندلاع حرب المخيمات مع "امل" الشيعية في لبنان، والتي زادت من رصيد التوتر حيال المسلمين الشيعة. ثم تظهر "حماس"، لتبدأ بعد ذلك علاقات محدودة مع ايران تتطور شيئاً فشيئاً. وأذكر إذ كنت رئيساً لتحرير مجلة تتبنى خط المقاومة كيف كان بعض القراء يرسلون لنا رسائل الاحتجاج على الود الذي نبديه حيال ايران ولاحقاً حيال "حزب الله" في أطوار ظهوره الأولى. قبل ذلك كله كانت الحرب العراقية - الايرانية هي محطة التوتر الأساسية حيال المسلمين الشيعة، والتي لم تسبقها حالة مماثلة، خصوصاً في المناطق التي لا وجود للشيعة فيها ولا احتكاكات مباشرة بين الطرفين كما كانت الحال في العراق. للوهلة الأولى كان الشارع العربي منحازاً الى طرف ايران وفرحاً بثورتها الاسلامية، ولم يكن مع العراق في انطلاقة الحرب الأولى، وقد أدرك المعنيون بتأييد شعبي للموقف العراقي في الحرب أن عليهم أن يستخدموا الورقة المذهبية، وهو ما كان بالفعل، حيث انطلقت موجة من الكتب والأشرطة التي تركز على "الشيعة وانحرافاتهم العقائدية والفكرية"، ووجدت الحركة الاسلامية السنية نفسها غارقة في هذا التيار بصورة ما، فيما لم يكن الجهد الايراني المقابل لتحسين الصورة معقولاً، ولا كافياً لصد الهجوم، سواء كان على صعيد الكم أم الكيف. انتهت حرب الخليج الأولى، ثم جاءت الثانية بعد احتلال العراق للكويت، وبدا أن الدول التي كان لها دورها الأبرز في الخطاب المناهض للشيعة وايران تحديداً، تريد الانقلاب على موقفها من العراق، فجرى تجاهل الخطاب المذهبي، وكان الموقف الايراني غير المؤيد للعراق والرافض للدور الأميركي في المعركة معقولاً، وإن كان الشارع الاسلامي أقرب الى تمني المزيد من الانحياز الايراني الى العراق. في هذه المرحلة وما بعدها تراجع الحشد المذهبي، وصار العداء الأميركي لإيران مصدر تعاطف اسلامي معها، خصوصاً وأنه عداء يركز على "أصوليتها" واسلاميتها. وجاء الدور الايراني في لبنان وخصوصاً بالنسبة الى "حزب الله" ودعم طهران للقوى الاسلامية الفلسطينية حماس والجهاد ولقوى الرفض عموماً، ليضيف بعداً جديداً في العلاقة. يمكن القول إن "حماس" وهي التنظيم الأكثر شعبية في العالم السني، كان لها دورها في اعطاء دفعة قوية لوجه ايران الاسلامي، وجاء "حزب الله" بجهاده وانتصاراته ليضيف المزيد الى ذلك الرصيد. لقد أدى ذلك كله الى دفع الاستنفار المذهبي الى مرتبة خلفية في العقل الاسلامي، وصار بإمكان الشارع الاسلامي ان ينظر الى بطولات "حزب الله" وشهدائه، كما لو كانوا جزءاً من ضميره من دون عناء. وصار خطاب التكفير الذي كان مألوفاً في الثمانينات حيال ايران والشيعة متراجعاً الى حد كبير، وان بقي موجوداً لدى البعض ممن يتشددون في مسائل الاعتقاد والفقه، ومثل هؤلاء يقسون في احكامهم على كل المذاهب والمدارس الاسلامية، وليس على الشيعة وحدهم. لقد جاء الاستنفار على خلفية حرب "وفتنة"، سواء بين ايرانوالعراق أو حرب المخيمات في لبنان، أما الود فجاء على خلفية مواجهة مع عدو الولاياتالمتحدة واسرائيل، وهو ما يعني ان المواجهة مع الأعداء تدفع الخلافيات الى أقصى حدود الذاكرة، فيما تستفز عناصر الوحدة. ولعل ذلك واحد من الملفات التي ستعاود الظهور خلال المرحلة المقبلة، إذ يخطط الاسرائيليون الى استنفار كل عناصر التشرذم في الأمة، ومن ذلك الضرب على الوتر المذهبي، وكذلك الطائفي والإثني. من هنا، فإن دوراً ايجابياً للعلماء والمفكرين ينبغي ان يتفعل خلال المرحلة المقبلة، لإحياء الروح الجمعية للأمة في مواجهة خطاب الشرذمة والتفتيت، فالخلافات المذهبية ستبقى قائمة الى يوم الدين، بيد ان التركيز على عناصر الوحدة هو الكفيل بتهميش تلك الخلافات، وإذا كان هناك من سيجد له مصلحة في اثارة تلك الخلافات عدواً كان أم قريباً، فإن الأصل في العلماء والمفكرين والقوى الاسلامية أن تواجه ذلك بكل ما تملك من أدوات. فالخلاف لا ينبغي أن يصل في أي حال الى حدود التكفير، وإلا غدا كل شيء بعد ذلك متوقعاً.