كل مرحلة من مراحل الزمن العربي المعاصر، لا سيما بعد نكبة فلسطين عام 1948 هي مرحلة خطيرة وحرجة ومهمة… وفي كل مرحلة سابقة برزت أمام العرب، مجتمعين ومتفرقين، تحديات مصيرية وازمات كبرى لكنهم لم يستطيعوا مواجهتها ولم يتمكنوا من الاتفاق على الحد الادنى من التضامن والصمود لحصر اخطارها وانقاذ ما يمكن انقاذه من الحقوق والارض والمطالب والكرامة فتوالت النكبات والنكسات والاخفاقات والهزائم الواحدة تلو الاخرى. ولا حاجة لشرح اكثر قد يوصلنا من جديد الى متاهات طريق الآلام وسادية جلد الذات وعذابات البكاء على الاطلال فالذي مضى لا تعالجه الكلمات ولا الشعارات. نحن ابناء اليوم واستحقاقاته المصيرية وتبعاته وأصحاب الغد المرجو ومتطلباته وشروطه ومسؤولياته وواجباته من دون اغفال الامس ومخلفاته وانعكاساته على كل منحى من مناحي الامة وكل مفصل من مفاصل حياة كل انسان عربي من المحيط الى الخليج… فالايام المقبلة ستكون حبلى بالاحداث الجسام وبالتهديدات الجدية في بدايات مريبة لمرحلة الاستحقاقات الكبرى التي نرجو ونأمل ونطالب القادة العرب بأن يتحركوا فوراً لمواجهتها من دون أي تأخير وبكل جدية وحسم قبل فوات الاوان. إنها مرحلة تصفية حسابات أخيرة وانتقال من حلقة الى اخرى من المخططات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني بشكل خاص والعرب والمسلمين بشكل عام ومعها على خط مواز تسير خطط تفتيت العرب وتفكيك دولهم والتآمر عليها وتشديد الحملات المغرضة ضد الدول الفاعلة فيها مثل المملكة العربية السعودية وسورية ومحاولة منع مصر من متابعة دورها التاريخي في دعم القضايا العربية والتفرد بالعراق لاكمال مخطط تفكيكه وتفتيته وانهاكه ومنعه من القيام من جديد لأداء دوره المطلوب كقوة فاعلة في الجسم العربي. فعلى الصعيد العراقي وصل الفلتان الامني الى نقطة الانفجار وامتد اللهب ليشمل الاممالمتحدة كرمز للشرعية الدولية، وكأمل بتدويل الازمة العراقية ووضع العراق تحت اشراف المنظمة الدولية، وتوجه نحو القضاء على آفتين تهددان مصيره: الاحتلال والفوضى العارمة والتفكيك والتفتيت. وفيما تطل اسرائيل برأسها لتمسك بأطراف اللعبة على خطين: القضاء على العراق كقوة عربية فاعلة والدخول الى اسواقه واستخدامها كنموذج لغزو الاسواق العربية وتصريف بضائعها وفتح الابواب المغلقة امام شركاتها اضافة الى المشروع المتداول منذ مدة بمد خط لأنابيب النفط من كركوك الى حيفا ومد خط آخر لنقل المياه من نهر الفرات وفق الشعار المرفوع منذ زمن بعيد: من الفرات إلى النيل! هذه المخاوف ليست مجرد كلمات ولا شعارات لا اساس لها بل يمكن اعتبارها مخاوف مشروعة وتتضمن الكثير من الحقائق لا يرددها العرب فحسب بل يتحدث عنها الاسرائيليون علناً بعد ان بدأت الحرب تضع اوزارها. وعندما نعود سنوات الى الوراء نجد في دفاتر ذكرياتنا وسجلات صحفنا ما يثبت هذا الكلام ولا سيما بالنسبة إلى مؤامرة تفتيت الأمة العربية وتفكيك الدول العربية التي لا يزال سيئ الذكر هنري كيسنجر يرددها بعد أن سجلها في كتبه وتصريحاته ومقالاته. فهذه النظرية تتلخص بالزعم بأن أزمة الشرق الاوسط لن تحل ابداً ما دامت الدول العربية قوية وغنية ومتضامنة وما دامت الدول العربية متماسكة داخلياً ولهذا لا بد من تجزئة الحلول والضغط على الدول العربية للقبول بها وعلى مراحل وفق سياسة الخطوة خطوة. ومع تجزئة الحلول لا بد من تفتيت القوى العربية وتفكيك دولها الواحدة تلو الاخرى. وكان كيسنجر ومن بعده عتاة المتشددين الصهاينة في الولاياتالمتحدة واسرائيل يعتبرون لبنان نموذجاً للتفتيت المرتقب بإثارة الفتن فيه واشعال نار الحرب الاهلية بتقسيمه لإقامة دولة طائفية ومذهبية وعرقية هزيلة وضعيفة تبرر وجود اسرائيل اولاً ثم تفتح المجال امامها لتسيطر على هذه الدولة وتكون لها بالتالي اليد العليا في قرارات المنطقة سياسياً واقتصادياً نظراً الى ترسانة الاسلحة التي تملكها والدعم الذي تلقاه من واشنطن وغيرها. ولهذا لا بد من فتح الأعين على المؤامرة الحالية على العراق بعد تكاثر الاحاديث عن مخططات لنقل "حقل التجارب" من لبنان الذي أفشل المخطط وخرج من الحرب موحداً رافضاً التقسيم الى العراق بعد تهيئة الظروف الكاملة بإثارة الفتن بين ابناء الشعب العراقي وطوائفه وأعراقه. وما تفجير مبنى الأممالمتحدة في بغداد إلا خطوة ستتبعها خطوات في هذا المسار الرهيب الرامي الى احراج الشرعية الدولية وارهابها لاخراجها ومنعها من ممارسة دورها المطلوب. ولهذا يجب التخلي عن سياسة اللامبالاة العربية لان ألسنة النار العراقية، اذا نفذت المخططات المرسومة، ستمتد الى كل الدول العربية وليس الى دول الجوار فحسب. وهذا ينطبق ايضاً على خط النار الآخر الذي يحيط بالجسد العربي ويهدد بانفجار كبير. فآخر امل للسلام في المنطقة يتحول تدريجاً الى سراب، و"خريطة الطريق" بين الفلسطينيين والاسرائيليين دخلت النفق المظلم، والهدنة التي تم التوصل اليها بشق الأنفس يدق في نعشها المسمار الاخير بعد ان تمكنت إسرائيل من جرّ بعض الفصائل الفلسطينية الى فخ الانتقام ورد الفعل غير المدروس، بسبب انتهاكاتها المستمرة للاتفاق ورفضها اطلاق المعتقلين ومواصلة بناء جدار العار والفصل العنصري وليس الجدار الأمني كما يردد الصهاينة ومعهم بعض الاعلام العربي. ومن يستمع الى وجهة نظر "حماس" و"الجهاد" يجد تفهماً لها ولكن الحكمة تقتضي ان لا يتفرد احد بتهديد مصير الشعب الفلسطيني، ولا ينجرّ اي طرف للفخ الصهيوني كما جرى اخيراً في عملية القدس حتى لا يتحمل الفلسطينيون اوزار الجرائم الاسرائيلية. فأي عاقل كان يدرك منذ البداية ان "خريطة الطريق" لن تبصر النور بسبب الرفض الاسرائيلي والتعنت اولاً ثم بسبب عدم تضمنها أي حل جذري للأزمة وتجاهلها للقضايا الرئيسة المركزية مثل القدس واللاجئين والمستوطنات والدولة المستقلة وحدودها وسيادتها على اراضيها، ولكن القبول بها كان محاولة لفضح الموقف الاسرائيلي وكشف المكر الصهيوني ووضع الولاياتالمتحدة والجهات الراعية امام مسؤولياتها. واذا كان ناقوس الخطر يدق بسبب انهيار الهدنة ومتاهة الخريطة فان ناقوساً آخر يدق بعنف ويدعو العرب والمسلمين الى اليقظة بعد ان جاوزت اسرائيل المدى في ظلمها وتآمرها بالسماح لليهود وغير المسلمين بانتهاك حرمة المسجد الاقصى المبارك والحرم الشريف كخطوة متقدمة من خطوات التهويد وصولاً الى الكارثة الكبرى المتمثلة بمؤامرة هدمة لبناء الهيكل المزعوم. كل هذا يجري ونحن نتساءل أين العرب؟ واين قياداتهم؟ وهل من خطة مضادة لمواجهة الاخطار الماثلة امام اعيننا؟ وهل يمكن الانتظار حتى آذار مارس موعد انعقاد القمة العربية الدورية ام سيتم التداعي لعقد قمة طارئة تضع مثل هذه الخطة ومعها آلية عملية وواقعية للتحرك والتنفيذ والمتابعة؟ لا جواب حتى الآن سوى عبر تحركات ولقاءات قمة ثنائية واتصالات عربية ودولية، لكن المطلوب اكبر ويتمثل في عدة خطوات تبدأ في حل الخلافات والاسراع بإصلاح الجامعة العربية وتوحيد الموقف العربي وصولاً الى صوت واحد يخاطب المحافل الدولية بقوة وحسم وينتج مبادرات على الصعيدين الفلسطينيوالعراقي. فبالنسبة الى العراق لم تعد تنفع المواقف السلبية بالتفرج والاكتفاء بالشعارات المتعلقة بالاستقلال والوحدة وانهاء الاحتلال وعدم الاعتراف بشرعية مجلس الحكم، صحيح انه لا يمثل كل الاطراف والوان الطيف العراقي وطموحات الشعب الذي تخلص من نظام جائر، إلا انه يعتبر الكيان الوحيد المعلن الذي يمكن البناء عليه والعمل على توسيعه او استبداله بمجلس اكثر تمثيلاً وقيام حكومة وحدة وطنية حقيقية. وهذا يضع على القادة العرب مسؤولية البحث عن افضل وسيل للتحرك والتوصل الى مبادرة سلام عراقية يتبناها العرب وتعرض على العراقيين اولاً ثم تسوق اميركياً ودولياً وفي أروقة الاممالمتحدة التي تستعد لعقد دورتها السنوية. فالاستقالة من الشأن العراقي خطأ فادح مثله مثل التدخل فيه بشكل او بآخر، فهناك اولويات تبدأ بإخراج العراقيين من محنتهم الحالية ومساعدتهم على حل مشاكل حياتهم اليومية وحفظ كرامتهم ووحدتهم وأمنهم، وتتواصل بإيجاد حل شامل ينهي الاحتلال ويقضي على مخلفات النظام السابق ويرسم للمستقبل حياة ديموقراطية حرة وآمنة. أما بالنسبة الى قضية فلسطين فالاستقالة العربية منها اخطر وأعمّ ضرراً ولا بد من العودة الى لعب دور فاعل على مختلف الاصعدة لانقاذ ما يمكن انقاذه واحياء مبادرة السلام العربية والضغط على الولاياتالمتحدة والدول الكبرى للدعوة الى مؤتمر سلام شامل جديد، مدريد 2، أو غيرها من المسميات، تعيد التمسك بالالتزامات بعد ان ثبت فشل الحلول الجزئية والهروب من مصير "وحدة السلام" على جميع المسارات وفي آن واحد، وطرح جميع القضايا العالقة لمعالجتها والاتفاق على حلول ملزمة لها تنفذ ولو على مراحل ووفق جدول زمني متفق عليه. * كاتب وصحافي عربي.