سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أوروبا تعاود التفكير بمسلميها في ضوء اختبار القوانين والفرز الاجتماعي والثقافي - جدل في بريطانيا يطرح أسئلة صعبة عن الاندماج ... وهوية الدولة . رقية ولدت في لندن واختارت النقاب وعائشة ربحت دعوى على مدرستها
لا تشعر الشابة المنقبة رقية عبدالقادر بأي غربة في منطقة فينسبوري بارك شمال شرقي لندن حيث تقطن وعائلتها الجزائرية الأصل،"فكل شيء هنا إسلامي تقريباً والحمد لله". في المنطقة التي تعج بالمسلمين، خصوصاً الجزائريين منهم، ثلاثة مساجد ومدرسة لتحفيظ القرآن الكريم تصلح أماكن للقاءات رقية وصديقاتها اللواتي يتشاركن الاهتمامات نفسها: قراءة القرآن وحضور الدروس الدينية التي يلقيها"العلماء الكرام". وبخلاف الطرز المعمارية المميزة لبنايات العاصمة البريطانية، لا تختلف فينسبوري بارك عن أي حي متواضع في أي عاصمة إسلامية أو عربية. ولا تحتاج إلى أدنى معرفة باللغة الإنكليزية لتحيا هنا. لكن رقية التي ولدت في لندن قبل عشرين عاماً، أي بعد ثلاث سنوات من هجرة والديها إلى انكلترا، تتحدث الإنكليزية بطلاقة من دون أثر لأي لكنة تفصح عن أصولها، كما أن علاماتها المدرسية مكنتها من الالتحاق بالجامعة حيث تقضي عامها الثاني في دراسة الكيمياء. ومنذ دعا رئيس مجلس العموم جاك سترو، في مقال نشرته صحيفة محلية في دائرته الانتخابية، المنقبات في بريطانيا، إلى التفكير في خلع غطاء الوجه باعتباره معوقاً للتواصل المجتمعي، استحوذت رقية ومثيلاتها على حيز كبير من اهتمام وسائل الإعلام البريطانية. وأصبحت أخبار الجدل حول النقاب مادة يومية في الصحف والمحطات التلفزيونية والإذاعية المحلية. وشارك سياسيون من مختلف الأطياف في الحوار حول النقاب وجدواه، كان أبرزهم رئيس الوزراء توني بلير الذي قال إنه"علامة انفصال". وتشكل المنقبات أقلية تنمو في شكل لافت بين مسلمات بريطانيا اللواتي تفضل غالبيتهن الاكتفاء بغطاء الرأس. لكن نمط حياة مسلمي بريطانيا يتشابه إلى حد كبير، على رغم اختلاف أصولهم العرقية. ولا تختلف الأحياء التي يقطنونها كثيراً عن فينسبوري بارك. وهم أصبحوا مركز الجدل منذ اعتداءات 7 تموز يوليو 2005 التي نفذها شبان باكستانيو الأصل ولدوا وتعلموا في بريطانيا. وتشكل نسبة المسلمين 3 في المئة من البريطانيين. ويبلغ عددهم 1.6 مليون، يتحدر معظمهم من أصول آسيوية، ويعيش مليون منهم في لندن. وطبقاً لإحصاءات"مجلس مسلمي بريطانيا"، يمثل الباكستانيون النسبة الأكبر، إذ يصل عددهم إلى حوالى 675 ألفاً، بينما يبلغ عدد البنغاليين حوالى 300 ألف، والهنود 160 ألفاً. ولا تتجاوز نسبة العرب والأفارقة 20 في المئة. غير أن رقية، كغالبية المسلمين في بريطانيا، لم يرق لها أن يتحول"الزي الإسلامي"مادة لجدل عام."لماذا يريدونني أن أخلع نقابي؟ ما الذي يضيرهم من ارتدائي النقاب؟ هم يقولون إنه علامة قمع. لكنني ارتديته بكامل إرادتي. كان قراري أنا ولم يأمرني أحد به. صحيح أنني تأثرت بقرار والدتي ارتداء النقاب لكنها لم تفاتحني حتى في الأمر". ويتدخل شقيقها صابر الذي اشترطت حضوره للحديث إلى"الحياة"، قائلاً:"يريدون من نسائنا أن يصبحن كنسائهم، سافرات الوجه عاريات الأبدان. وهذا أمر لا نقبله ولا يرضى به الله ورسوله". ويضيف صابر 17 سنة الذي يدرس في الصف الحادي عشر:"نحن بريطانيون مثلهم. ولدنا هنا. لكننا مختلفون في العادات والتقاليد والطباع... عليهم أن يفهموا هذا جيداً. لا سترو ولا غيره يحق له الحديث عن النقاب. هذا أمر يخص المسلمين وحدهم". وهو يعترف بأن"النقاب محل خلاف بين الفقهاء. لكن هذا الأمر يخصنا وحدنا. وليس لهم حق في أن يتدخلوا فيه. المسيحية مثلاً تُحرم الخمر... هل يعني هذا أن أتدخل أنا وأقول إن على المسيحيين التوقف عن شرب الخمر؟". وأثار مقال سترو في"لانكشاير تلغراف"وتعليقات زملائه، ردود فعل غاضبة في أوساط المسلمين. وتظاهر عشرات مطالبين بمحاكمته، فيما دعا آخرون إلى"قطع رأس كل من يسيء إلى الإسلام". ويقول مسؤول في أحد أبرز الكيانات الممثلة لمسلمي بريطانيا ل"الحياة"إن الجدل حول النقاب هو جزء من"حملة منظمة يقودها ساسة ووسائل إعلام بريطانية ضد الإسلام منذ هجمات 11 أيلول سبتمبر". ويضيف المسؤول الباكستاني الأصل الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن"هذه الحملة تهدف إلى عرقلة دمج المسلمين في المجتمع. لقد عشنا في هذا البلد منذ القرن التاسع عشر ولم تكن هناك مشاكل تذكر. أما الآن، فإن هناك من يحاول استغلال الصدام بين الغرب وبعض المتطرفين لتشويه صورة المسلمين. ونحن نعي هذا جيداً". لكن ما هو شكل الإندماج الذي يريده هذا المسؤول الإسلامي؟"الاندماج يعني أن أكون مواطناً صالحاً. أدفع الضرائب وأحترم الآخرين. لكنه لا يعني أن أتنازل عن هويتي. وديني جزء أساسي من هذه الهوية. ولا أعتقد بأن يمكنني التنازل عنه. عليهم أن يقبلونا كما نحن. لقد تجاوزنا أشياء كثيرة منذ انخرطنا في هذه البلاد، مثل العري الذي يحيطنا من كل جانب والسماح بالشذوذ الجنسي وقيم فاسدة أخرى... كل هذا يضيرنا ويتنافى مع قيمنا، لكننا نتغاضى عنه من أجل التعايش". ويشير المسؤول إلى تقرير نشرته صحيفة"غارديان"عن طلب وزارة التعليم البريطانية من الجامعات مراقبة طلابها المسلمين للإبلاغ عمن يشتبه في تطرفهم باعتباره دليلاً إضافياً على"التمييز ضد المسلمين"، مؤكداً أنه لم يصدق نفياً أصدرته الوزارة في وقت لاحق. ويقول:"إذا كانوا يعتبروننا مواطنين متساوين، فلماذا يراقبون أبناءنا من دون الآخرين في الجامعات والمدارس؟ أليس ممكناً أن يكون بين أبناء الآخرين من يستحق المراقبة؟... إنها الحملة على الإسلام والمسلمين". وبعيداً من المسلمين، حظيت دعوة سترو بتأييد واسع بين البريطانيين، باعتبارها تفتح نقاشاً مهماً حول قضية وثيقة الصلة بالتعايش بين مكونات المجتمع، على رغم حرص غالبيتهم على تأكيد حرية النساء في اختيار ما يرتدين. وكشفت استطلاعات متتالية للرأي أن غالبية لا تقل عن 70 في المئة من البريطانيين تشارك رئيس مجلس العموم رأيه في النقاب. وحاولت"الحياة"الاتصال بسترو. وقال الناطق باسمه مارك ديفيز ل"الحياة"إن الوزير"قد لا يكون راغباً في الحديث عن هذا الموضوع مجدداً". وأشارت مصادر إلى أن أطرافاً في الحكومة البريطانية رأت أن من الأفضل احتواء النقاش في هذا الموضوع، خصوصاً بعدما أدلى بلير برأيه. بيد أن سترو عاد وجدد تمسكه بما طرحه، مؤكداً خلال محاضرة في"الكلية الجامعية في لندن"أن"على مسلمي بريطانيا أن يشعروا أكثر بأنهم مواطنون بريطانيون". واعتبرت ناطقة باسم وزير شؤون الأقليات روث كيلي أن"إثارة قضية النقاب كانت أمراً صائباً". وقالت ل"الحياة"إن الوزيرة المسؤولة عن"مكافحة التطرف"بين المسلمين، كانت تأمل في أن"يؤدي الحديث عن هذه القضايا إلى فهم أفضل لوجهات نظر الطرفين". لكنها تجنبت الإجابة عن سؤال عما إذا كان دخول السياسيين في هذا الجدل مفيداً، مكتفية بالتشديد على أن"اختيار الناس ارتداء نوع ما من الملابس أمر يخضع لقراراتهم الشخصية، طالما لم يُسن قانون يحدد لهم ما لا يصح ارتداؤه". وتعرض وزير الجاليات فيل وولاس لانتقادات شديدة من المنظمات الإسلامية حين قال إنه"قد يكون صعباً تحديد ما إذا كانت النساء يرتدين النقاب تعبيراً عن دينهن أم لأنهن مجبرات على ذلك"، مؤكداً أن ارتداء النقاب"يمكن أن يخلق خوفاً واستياء بين غير المسلمين ويؤدي إلى التمييز. وعندها يصبح المسلمون أكثر إصراراً على تأكيد هويتهم، وندخل في حلقة مفرغة لا يستفيد منها سوى العنصريين". وفي المقابل، كان موقف عمدة لندن كين ليفنغستون لافتاً، إذ رأى أن جدل النقاب يحمل ظلالاً من الاضطهاد النازي لليهود في ألمانيا. وأشار لدى إطلاقه تقريراً هو الأول عن مسلمي لندن الأسبوع الماضي، إلى أن"ثرثرة كثيرة قيلت عن هذا الموضوع"، لكن أحداً لم يُشر إلى"نمط التمييز الممنهج ضد المسلمين في الحياة العامة والتوظيف". وأكد ليفنغستون أن"من الواضح تماماً أن مشاكلنا في بريطانيا ليست نتيجة لرغبة المسلمين في الانفصال... أعتقد بأن هذا الجدل تم تضخيمه في شكل بدا معه كما لو أن المسلمين مخطئون". وأضاف أن"هذا يحمل إلى حد بعيد أصداء من الأسلوب النازي في تصوير اليهود على أنهم شياطين... وهناك أصداء من هذا في الحثالة التي نراها في وسائل الإعلام منذ فترة". على أن الجدل حول النقاب بلغ ذروته حين قررت مدرسة أولية طرد عائشة عزمي، وهي مساعدة تدريس رفضت خلع النقاب خلال الحصص الدراسية، ما"أعاق العملية التعليمية وأثار خوف الأطفال"، بحسب المدرسة. وحركت عزمي 24 سنة دعوى قضائية ضد المدرسة. وقررت المحكمة تعويضها لكنها رفضت إدعاءها التعرض للتمييز على أساس ديني. وأطلقت قضية عزمي التي تبعها قرار"الخطوط الجوية البريطانية"طرد موظفة مسيحية مصرية الأصل تدعى نادية عويضة رفضت الامتثال لقواعد الزي الموحد لموظفي الشركة وأصرت على إبراز صليب ترتديه في قلادتها، نقاشاً واسع النطاق عن قضايا تتعلق بهوية الدولة، ومدى علمانيتها ومدى تأثير إبراز الرموز والهويات الدينية على التعايش. وبرزت تساؤلات عن جدوى استمرار الوضع الدستوري لكنيسة انكلترا كأحد أركان الدولة البريطانية، كما ثار جدل حول المدارس الدينية التي ألزمتها وزارة التعليم تخصيص ربع مقاعدها لأبناء الديانات الأخرى. وفي هذا السياق تقول رقية:"أنا لا أتضرر ممن ترتدي الصليب أو ممن يضع الكاب اليهودي فوق رأسه... وإذا كان لا بد من أن يبدأوا نقاشاً حول النقاب، فليمتد هذا النقاش إلى الرموز الدينية الأخرى... هذه أيضاً قد تكون علامة انفصال إذا نظرنا إليها بالطريقة نفسها".