نقلت"الماسونية"أسطورة"المؤامرة الدولية"الى المجتمع السري، وأدخلتها فيه. وهو مجتمع مصطنع نشأ خارج البناء الداخلي والعضوي للمجتمعات الطبيعية. ويعمل المجتمع السري بحسب أصول ومراتب علاقات أفراده بعضهم ببعض. وهو نموذج اجتماعي"موازٍ"، وبديل نشط، وخفي بالضرورة. وعلى حدة من المجتمع المشترك والعلني، في مستطاع الماسونيين إنكار اشتغالهم بالسياسة. فمنظمتهم مزدوجة. وعلى خلاف اليسوعيين، لا يسعى المجتمع السري الى النفوذ حبّاً بالنفوذ. وهو يتسلل الى العلاقات والهيئات القائمة سعياً في تعديل الإناء الذي يحضنها. ويتوسل بالتاريخ نفسه الى التأثير في الحوادث، وفي مصير العالم، تأثيراً حاسماً. وعلى هذا، ففكرة المؤامرة تنشأ عن حال من أحوال العالم وطور من أطواره، وليست هذياناً خالصاً. ولا شك في أنها تعمل في الحوادث تمويهاً وتعظماً وتنكراً، من غير أن تقطع أواصرها كلها به. ومع قيام النظام الجمهوري والشعبي، في سياق الثورة الفرنسية الكبيرة، أصبح الشعب يعبّر علناً عن ارادته من طريق صناديق الاقتراع، فلا يخفاه شيء حكماً وقانوناً. وعلى خلاف التوقع، لم تضمحل أسطورة المؤامرة ولم تتبدد، فالاقتراع لم يكن عاماً، والانتخابات الدورية قصرت عن التعبير عن الإرادة الشعبية. والحق أن المطالبة بتمثيل عادل للإرادة العامة تقوى وتحتدم عند سريان النظام التمثيلي من غير منازع. ويصاب النواب المنتخبون بالإحباط جراء تعثّر ممارستهم النيابة عن الناخبين. فينصرف النواب الى تعديل النظام الديموقراطي بواسطة ترتيب دستوري يتولى تعويض ما فقدته السيادة الشعبية، أو خسرته، في أثناء"الإنابة"عن الناخبين وتوكيلهم نوابهم عنهم. وعلى رغم استجابة النظام الانتخابي والتمثيلي الطلب الديموقراطي، والرغبة الديموقراطية، لم تطورَ صفحة ميثولوجيا المؤامرة والتآمر. فأدى تقصير الجمهورية البرلمانية المزمن، والبنيوي اذا جاز القول، الى ازدهار الشكوك في خفايا سياستها وقراراتها المفترضة، والى المطالبة المحمومة بتصحيح التمثيل الشعبي وتقويمه. وتوجهت المطالبة الى مكامن العلة، وهي غلبة الماسونيين، أو اليهود، أو الأثرياء النافذين، على السلطة المحتجبة والمقنعة. ونفخت الإيديولوجيات التوتاليتارية، وهي ابتدأت مسيرها في أواخر القرن التاسع عشر أي إبان تبلور الأنظمة البرلمانية ورسوخها، في هذا الموقد المستعر، وتذرعت بالبحث عن جذور علاقة السلطة بالشعب. فبدا ان القيود التي تضبط عمل الحكومة المنبثقة من الاقتراع الشعبي، وتحد سلطتها، لا تُحتمل. وعليه يجب بناء قوة كبيرة ونافذة الأمر، لا يقوى السياسيون السخفاء على تقنيعها وحرفها عن حقيقتها. ونظير الهيمنة اليهودية والأسطورية على العالم، وإعداد"حكماء صهيون"العدة لها، وعلى خلافها، تنهض أسطورة الدولة القومية الكاملة، وديكتاتورية البروليتاريا. فالمؤامرة مرآة المشروع التوتاليتاري السوداء، ونظيره المقلوب رأساً على عقب. وتمنح نظرية المؤامرة الحداثة اقراراً بأن التاريخ من صنع البشر، وبأن تفسير حوادثه يصدر عن اراداتهم ومقاصدهم. وتنشأ ذهنية المؤامرة من دخول أصول دينية على رؤيا علمانية، ومن زواجهما. والحق أن السلطة الحقيقية، على خلاف السلطة الديموقراطية، لا تخشى الإعراب عن نفسها على الملأ، ولا تتحرج في اعلان فرادتها القومية أو العرقية أو الطبقية، ولا من الإدلال بها، فالمؤامرة، أي التعليل بها، هي في خدمة الفرادة هذه. وعلى شاكلة السلطة العرقية، أو ديكتاتورية الطبقة، تتصور السلطة المتآمرة المفترضة في صورة تطرح الأخلاق، وتنتهك الأعراف والقوانين، وفي خدمتها موارد هائلة، ولا يخفاها أمر أو فعل. ولعل دوام أسطورة المؤامرة وميثولوجيتها قرينة على فشل الديموقراطية. فثقافة المؤامرة دخلت طوراً مهيمناً في ثمانينات القرن التاسع عشر. ونجم هذا الطور عن تضافر ثلاثة عناصر: الأول هو ثبات النظام الجمهوري، والثاني تطور الرأسمالية ونشوء القوة المالية، والثالث ظهور عامل جماعي جديد هو المنظمات السياسية والنقابية الجماهيرية، واضطلاعها بدور أداة أو وسيلة الى الاستيلاء على السلطة، وتغيير المجتمع، والسيطرة عليه. وبلوغ"الحشود"أو الجماهير حرم السياسة، ومبادرة القوى الاجتماعية الى تنظيم نفسها، أطلقا التكهن عن محرّكي الجماهير الخفيين، وعن"علم"التحريك هذا. وأقرت ميثولوجيا المؤامرة بحقيقة المحرّك الجماعي، ولكنها نسبته الى ارادة واحدة ومتماسكة، وصاغت عالماً تاريخياً يقتصر على فاعلين أفراد. وصدر التعليل بالمؤامرة عن مسألة ساقها طور ديموقراطية الجماهير هي: على أي نحو ينبغي فهم حاكم غفل، لا يتجسد في صورة تامة وفريدة، وتتجاذبه كثرة من السياسيين المتنافسين على السلطة وتقاسمها؟ ونظرية ميثولوجيا المؤامرة ولدت من الجواب عن هذا السؤال، شأن الانتفاضة الشمولية أو التوتاليتارية، وزعمها الاستيلاء على قلب السلطة الخفي اليهود، أو البورجوازية الكبيرة، أو الأجانب. وعلى هذا، فخيال المؤامرة الخصب كان يحاول مماشاة القطيعة الديموقراطية، وحملها التاريخ على صنيع بشري. ولعل هذا هو السبب في ترك المتآمر، أو المتآمرين، يظلله غموض شديد. وانبعث الخيال التآمري غداة 11 أيلول سبتمبر انبعاثاً قوياً. وترتبط هذه الظاهرة بتجديد تفسير التاريخ بفعل القوى الأصولية، وبينما يقبع سوادنا في الجهل، يفترض أشخاص يعملون، ويحركون خيوط الحوادث التي نشهدها من غير أن نفهمها. والى ثمانينات القرن العشرين، ضعف تخيل السلطة الأصولية، فالديموقراطيات نزعت الى المصالحة، وغلب تنظيم الاقتصاد على السياسة، وسادت نظم المعلوماتية. المعلومات تسهم في صنع ما هو ضعيف وعصي على السيطرة في عالمنا. فهي ضوء يصدر عن عتمة. والأزمة الجديدة تربتها ومنبتها الديموقراطية التي نعرفها. وهي أزمة غريبة، لأن أحداً لا يشكك في مشروعيتها. ولكن الثقة بين الحاكمين والمحكومين مفقودة. وهذا مرتع مؤامرات لا تحصى. عن مارسيل غوشيه مدير دراسات في مدرسة البحوث الاجتماعية العليا، "ليستوار" الفرنسية، 11 / 2006