ينكر كلود لوفور، في كتابه "التعقيد / عَوْد على الشيوعية" "الحياة" في 26 تموز / يوليو، على المؤرخ الفرنسي فرنسوا فوريه، صاحب "ماضي وهم"، وعلى المؤرخ الأميركي مارتين ماليا، صاحب "المأساة السوفياتية" 1995، نسبة الأول تيه عشرات الملايين من الشيوعيين والأنصار و"رفاق الدرب"، من المثقفين، إلى "فكرة" تعلقوا بها، وأوقعتهم في حبالها، وإضافة الثاني الحزبَ اللينيني، وبنيته ومفاعيله، إلى "إيديولوجية" محض تذرعت بالحزب، وتوسلت به، إلى أغراض وغايات انقاد لها انقياداً مرناً وسالباً. وعلى هذا يجوز، بل يجب حمل الشيوعية، وهي الحزب أو "إيديولوجيته" وفكرته أولاً، على عقلانية الحداثة، وعلى فلسفة التاريخ الهيغيلية والماركسية، ثم على النازع الديموقراطي الى المساواة، المفرطة والإرادوية والطوبى. فإذا تصدعت الأنظمة الشيوعية الأوروبية، على ما جرى منذ خريف 1989 وتباعاً، خلص النقاد، والناقدان خصوصاً، إلى ضعف قوامها ومُسكتها التاريخيين والإجتماعيين، أو إلى اقتصار القوام والمسكة على قوة التوهم، وحسن التوسل بالفكرة وأطيافها. وقلما ينتبه النقاد إلى جمعهم، إذ يصفون النظام الشيوعي، تهافت أسسه الفكرية وتداعي أركانه مع تماسك بنيانه السياسي وانتظامه. فهو، على حسب ما يصفون، إثنان: أفكار مختلطة ومشوشة، وسياسة متماسكة وناجعة، هذيان وفعل. وفي الحالين يُغفل النقاد المؤرخون، أو المؤرخون إذ يُجرون تأريخهم مجرى النقد، نشأة الشيوعية، قبل ان تستقر "نظاماً" وطريقة، عن حوادث وحواجز ومعوقات اعترضت سياسة الشيوعيين، قادة وحزباً، وبعثتهم على معالجتها على نحو من الأنحاء، أو على أنحاء دون أخرى لم ينظمها ناظم واحد ومشترك إلا بعد حين وفي ظروف بعينها. والتنويه بنشأة "النظام"، لاحقاً ومتأخراً، عن حوادث لم تكن في حسبان قادة الحزب، ولم يعدوا لها العدة، ينبه المؤرخين إلى ما يدخل في صلب مهنتهم وحرفتهم وهو جري التاريخ وحوادثه على غير ضبط وتوقع، وإن هو لا يخبط خبط عشواء - على ما ذهب إليه أحد أساتذة كلود لوفور، موريس ميرلو - بونتي، الفرنسي كذلك ت1960. فالتاريخ محل معنى، وليس متوجهاً وجهاً واحداً ومعروفاً. وما يدعو لوفور المؤرخين، وغير المؤرخين بديهة، إليه، هو عرض ما استقر نظاماً على الحوادث واحتمالاتها وإيجابها الجديد وغير المسبوق. ولكن وضع التأريخ على الشيوعية، شأن وضعه على حوادث تاريخية أخرى، لا يعفي المؤرخ من تعريف موضوعه، ومن بنائه في زحمة الحوادث والوقائع المتشابكة. فما الذي يؤرخ له إذ يؤرَّخ للشيوعية غداة تداعيها؟ يقترح لوفور، وهو يعرض موضوعه على التحقيق وعلى استيفاء التعليل، أن يوضع التأريخ على نظام تعصى "بؤرة السلطة" أو السلطان فيه التعيين أو الدلالة على المصدر والأين. والإمتناع من التعيين سندُه إنكار تمييز ما هو سياسي مما هو غير سياسي" فلا غيرَ للسياسة، على زعم السياسة الشيوعية، ولا خارجَ لها، وليس ثمة ما لا يدخل تحت حكمها. والحزب الشيوعي، وهو الحزب - الدولة والحزب - المجتمع، يتهيأ بهيئة العبارة عن سلطان اجتماعي، ناجم عن المجتمع كله، وعن وجوه المجتمع كلها. وهو، على هذا، مستودع القانون أي الحد الذي تحده القوانين وسلطان التشريع والمعرفة. وهما، القانون والعلم، يصدران عن الدخول إلزاماً في جسم الأمة السوفياتية، وعن النزول على أحكام تقسيم العمل العقلانية. فما يؤرخ له هو نمط سيطرة يمحو أي يفترض محو قرائن الفرق بين أهل السلطان، أو الحاكمين المتسلِّطين، وبين المتسلَّط عليهم والمقهورين. فلا يتميز السلطان من القانون أو التشريع ولا من المعرفة والعلم، ولا تتميز دوائر الأفعال - الشخصية والعامة، المهنية والسياسية، الجمالية الذوقية والنفعية... - بعضها من بعض. فالحزب الشيوعي "التام"، على حسب مثاله وفي مرآة مثاله الذي يسعى في تحقيقه، هو الحزب الحاكم. ولكنه كذلك جماع المحكومين في وقت واحد. والأمين العام هو، شأن اعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية وأمانتها، "رفيق" من "الرفاق"، واختاره الحزب لمهمة مرسومة، رسمها الحزب مجمعاً له، وأوكل إليه إنفاذها تحت سمع الحزب وبصره، إلخ. والحزب، على هذا النحو من الوحدة الغفل ومن السوية، هو القضاء والعدل" والقضاة هم "مفوضو" الحزب إلى الحكم بالعدل فيما لم يبق منازعات ولا مقاضاة. والحزب، مجتمعاً في أمينه العام أو في هيئة من هيئاته أو عاماً من غير تخصيص، هو "بحر العلوم"، ومنارتها، وربانها، وصاحب خطتها، فهو العالم بالزراعة، وبالصناعة، وبالكيميائيات، وهو وزير الزراعة والصناعة" والعلمُ به، تاريخاً واجتماعاً، هو أرفع العلوم وأسماها، وهو تاجها. فإذا صح تعريف النظام الشيوعي على هذا النحو ظهر الفرق بينه وبين أنواع الإستبداد والتسلط والطغيان، الجديدة والقديمة، جلياً. ووجب الإقرار بانقطاعه من أنظمة السيطرة المعروفة وأنماطها، وبتجديده في مضمارها. وعلى المؤرخ ان يتعقب نشأة النمط الجديد أو الصورة الجديدة هذه، من غير ان ينقاد لداعي الضرورة والحتم، تارة، أو لداعي الجواز والمصادفة، تارة أخرى. فيدرج الشيوعية في باب نظرية عامة في التاريخ ومراحله وأطواره، ويصل بين فلسفة "الأنوار"، العقلانية والإرادية، وبينها، على ما يصنع مارتن ماليا" أو يحملها على جواب حادثة عظيمة، مثل الحرب العالمية الأولى، وجواب معنى الحادثة، على صنع فرنسوا فوريه. ولكن الضرورة والجواز ليسا ملزمين. وتفحصُ الشيوعية، إذا لم يترك المتفحص التماس المَعنى في ما يظهر منها تباعاً وجزءاً بعد جزء، يُظهر آثار الماضي في بعض هيئاتها ومبانيها، وفي بعض المعتقدات والأفعال. فالماضي الروسي، بقيصره وحركاته الثورية السرية والإرهابية، وكذلك بديموقراطيته ورأسماليته الصناعية وعلاقاته بالإشتراكية الديموقراطية الأوروبية، خلف آثاراً في ولادة النظام السوفياتي. ولا شك في أن هذه الآثار لا تستوفي صفة النظام الجديد، ولا يستوفي تأريخها تعليله ولا تفسير تماسكه ومنطقه ووحدته. ولكن حمل التماسك والمنطق والوحدة على تظاهرات "فكرة"، أو على مفعول إرادة سياسية مستمرة على سعي واحد، تعسف بيِّن. ولا يسوِّغ عسرُ استيلاد التماسك من المختلف والظرفي نسبةَ المتماسك التاريخي إلى الذهن والفكر، وهما مستودعا المنطق والوحدة والترتيب. ولعل الحزب، الشيوعي اللينيني والستاليني، مثال على عسر التأريخ هذا، وعلى أحابيله وسراباته الكثيرة. فالحزب يبدو جسماً سياسياً يعلوه رأس قيادة ثرثار. ولكن ينبغي الحذر من رد الحزب إلى رأسه ولسانه، وإيجازه فيهما، على ما يشبِّه نظام الحزب الداخلي و"ديموقراطيته المركزية". فعمل الحزب، أو إيظافه قيامه بوظائفه - على حسب نحت عبدالله العلايلي، لا يحكمه نظامه الداخلي. وهذا، أي الفرق المضمر والمقبول بين عمل الحزب وبين أحكام نظامه الداخلي، من سمات الحزب الشيوعي الجديدة والفارقة. ولا تؤدي إيديولوجية الحزب السبب في صنيع الحزبيين، وفي نازعهم إلى الدخول في جسم جمعي والإندماج فيه والإنقياد لل"تنظيم" أو "المنظمة" انقياداً تاماً يرفع إلى أعلى مرتبة. والفرق بين إيديولوجية الحزب المعلنة، ودعوتها ألى "أوسع" مناقشة "ديموقراطية" تسبق إقرار "الخط"، وبين حقيقة رسم "الخط" والسياسة، فرق مضمر ومقبول، ومستنكر، كذلك. أما الوقائع الإجتماعية التي تلابس الشيوعية فتدعو هذه إلى وصفها في ضوء العلاقات الإجتماعية المنصرمة والمطوية، أي تلك التي أراد الحزب الشيوعي تدميرها. ولكن "الدولة" السوفياتية تغفل الفروق الإجتماعية الناشئة أو الجديدة، وتنكر تبلور مراتب جديدة في المجتمع الذي تتسلط عليه، وأنشأته إنشاءً ثانياً. و"الشرعية السوفياتية" تنقض التفريق المعهود والمشهود بين ما قانوني وما هو غير قانوني. أما أحكام العمل الأخلاق السوفياتية فتنسب الأحكام العامة، مثل حرمة النفس الإنسانية وعدم جواز اتخاذ البشر وسيلة أو آلة الى غاية، إلى الخرافة أو إلى التسويغ المتستر على غايات خاصة. فتقضي بجواز استئصال جماعات برمتها، وبخلقية هذا الاستئصال على ما صنع لينين غداة محاولة اغتياله فأمر بإعدام نحو تسمعمائة "متهم"، وعلى ما صنع ستالين في المزارعين ثم في تتار القرم والإنغوش والأبخاز في الحرب الثانية، إذا وافق ذلك "حاجات" الحزب. ويتطاول سلطان الحزب اللينيني والستاليني إلى الأحوال والوقائع النفسية. فلا تقتصر لغة الحزب على إثبات منطق للتاريخ يحيل أحوال النفس والوجدان إلى خيالات وأطياف كاذبة، وحسب، بل يقوم فكر الحزب على إلغاء بؤرة ذاتية توجب المعنى، وتتوجه به على الموجودات، على قدر ما يقوم على حل الفرد في "نحن" صلبة ومن غير سلب ولا ظل. فاجتمع من هذه المعالجة لأحوال السياسة والإجتماع وأحكام العمل والنفس والوجدان مثال نظري وعملي، هو المثال الكُلِّياني الشمولي أو التوتاليتاري. وأُعمل "مرشداً" في بناء الحزب - الدولة، ونهض بدور فاعل في إنشاء نخبة مرصوصة ومستولية، في أربع أنحاء الأرض. ويذهب كلود لوفور إلى أن سطوة المثال النظري والعملي هذا ربما مردها أولاً وأخيراً إلى الدور الذي أداه، فعلاً وحقيقة، في إرساء الحزب - الدولة على أركان بدت متينة وراسخة، وفي رصّ صفوف النخب المستولية وبلورتها "قيادة" منيعة. فلا مسوغ، والحال هذه، إلى تعليل سطوة المثال النظري والعملي بإيهام "الدولة" أي القيادة السوفياتية الأنصار والمريدين انكبابها على بناء مجتمع خالٍ من الإمتيازات الطبقية، ومن استغلال الإنسانِ الإنسانَ. فالمنافع المعنوية والإجتماعية والمادية والسياسية الملموسة، وهي جنى الأخذ بالمثال الحزبي الشيوعي وعائده، تستوفي تعليل سطوة المثال من غير افتراض حتم تاريخي يلازم الأفكار، ولا افتراض منطق متماسك وملزم للوهم. فليست الطوبى المتوهمة ما ينبغي نقده وإبطاله، بل الكذب الوقح والصارخ. ولا داعي يدعو الى إرجاء النقد إلى غداة انهيار الشيوعية. فالنقد كان أكثر إلحاحاً قبل انهيارها وتحولها أنقاضاً. وهو كان متاحاً من قبل، وفي أطوار الشيوعية كلها، ولا امتياز لهذا النقد، اليوم، على ما يشبِّه دعاة "تمام التاريخ" أو نهايته ويتمنون. فهل كان شهود حظر الأحزاب السياسية التي أسقطت القيصرية، ثم إعدام قدامى البلاشفة، واغتيال المناضلين بإسبانيا، و معاهدة هتلر وستالين عشية الحرب الثانية، واقتسام بولندا، وتقسيم مقاومة النازية - هل كان شهود هذه الحوادث المعروفة طوال عقدين ونصف العقد من "الملحمة" الشيوعية، ضحايا ميولهم "المثالية" أو ضعف علمهم بما "يبنى" فعلاً تحت ستار الشيوعية؟ وكان الكاتب والناقد الأميركي هارولد روزنبرغ أجاب، منذ 1959، فوصف هؤلاء الشهود المتعامين ب"حثالة البورجوازيين الإنتهازيين، الموصدي العقول على المناقشة وعلى البدائه، المضطغنين على الفكر، وفُصاميي المحافظة الثورية". وأما حادي هؤلاء على التشيع للأحزاب الشيوعية وأمميتها السوفياتية فلا يعدو الهذيان بالإضطلاع بدور "عظيم" على "مسرح التاريخ". وهم امتثلوا للفظائع الفكرية والإعلانية التي طلب إليهم ارتكابها، وأعينهم على "المكانة الدولية" التي يلوح لهم بها، ومؤخراتهم مسمرة إلى مقاعدهم في الإدارة، أو الجامعة، أو هوليود والصحافة. والمثقفون لم ينقادوا وحدهم إلى دواعي الحزب وصورته ومثاله. فهم كانوا نواة المنقادين والمسلِّمين وكتلتهم الصلبة والمتغيرة في آن. فالمثال الحزبي كان يتوجه على أذهان ضروب من الناس متباينين ومختلفين. وهو كان يمزج، في المثال الواحد والصورة الواحدة، معاني لا يتفق واحدها مع الآخر. ويحصي لوفور أربعة معانٍ متنافرة يجمعها مثال الحزب النظري والعملي: الأول يدخل تحت باب فلسفة تاريخ مثالية، تحمل التاريخ كله على السعي في تحقيق غاية توحد متفرقة وتتوجه" وينتسب المعنى الثاني إلى عقلانية وضعية وعلمية تزعم ضبط الفعل التاريخي على علم ثابت" ويرسي المعنى الثالث "ديكتاتورية البروليتاريا" على أحكامَ عمل خلقية وإرادوية تنيط بالغاية اليقينية تسويغ ما يخالف ظاهرُه بلوغ هذه الغاية، وهي المساواة في الحرية" أما المعنى الرابع فهو التسليم" بقداسة الرسالة والتصديق فيها تصديقاً لا يداخله الشك ولا الإرتياب. وتقود هذه الكثرة، وهي كثرة الاختلاط وليست كثرة التركيب، إلى السؤال عن السبب في نجاح البلشفية، وإرسائها "نظاماً جديداً"، حيث أخفقت حركات ثورية أخرى، يمينية ويسارية. فلا شك في أن إرساء نظام جديد، مستقرٍ أو مُوهم بالإستقرار لا فرق - فالسياسة لا تنفك من الوهم، وإن على مقادير مختلفة منه - إنما تدين به البلشفية اللينينية إلى استجابتها رغبات وميولاً وحاجات ظهرت في مجرى الحوادث التاريخية والإجتماعية، ولم تنقطع في أثناء استتباب الأمر للشيوعية، على قدر ما تدين به إلى صرفها تيارات رأي وحركاتٍ سياسية إلى وجوه ناجعة. ويعود لوفور، مع أحد كبار مؤرخي الثورتين الروسيتين وهما تجمعان وتختصران "بلشفياً" وتعسفاً في واحدة، مارك فيرّو، إلى الحادثة الثورية نفسها، ويتصفح في سياقها انعقاد الحوادث والمعاني التي أدت الى الإستيلاء الشيوعي. فثورة شباط فبراير 1917 ولّدت حالاً "ديموقراطية برية"، على ما يسميها فيرو. وهي ديموقراطية على معنى شيوع الإقرار، في أنحاء عموم الروسيا، بمبدأ الإنتخاب، ومبدأ المناقشة والمطارحة الحرة" وهي برية دلالة على قصورها عن الإنتظام في منظومة هيئات ومؤسسات سياسية واجتماعية متماسكة وقادرة على جمع القوى والطاقات المتمردة على القسر والضبط في جسم سياسي تمثيلي وشرعي. وأفلح الحزب البلشفي الشيوعي في صيد جزء من القوى والطاقات المتحررة هذه من طريق توظيفها وتثميرها في جسم الحزب نفسه. فكان نجاحه العظيم، وهذا ليس مبالغة، تطمين هذا الجزء من القوى والطاقات الغائرة، والشعبية، الى استقرارها في وسط الثورة المائجة والهائجة. والحزب، المتحدر من منشور لينين، "ما العمل؟"، في 1902، هو آلة التطمين والإستقرار هذين. وهذا ما يصفه مارك فيرّو وصفاً دقيقاً. فهو يميط ستر "سوفيات" لجنة أو مجلس المندوبين والجنود عن عدد كبير من اللجان والمجالس المحلية والمستقلة. وتتربع هذه، بدورها، على رأس معامل وأحياء حارات ووحدات عسكرية وقرى. وإلى هذه الشبكة نشأت حركة تعاونية قوية تدعو الى الديموقراطية الليبرالية ويتقدم برنامجها توزيعُ الأرض على الفلاحين والمزارعين وتمليكهم إياها. ونشأت في أوساط الشبان والنساء والقوميات حركات شبابية ونسائية وقومية كثيرة ومستقلة المشارب. ويذهب فيرو وهو قرأ سجلات اللجان المخطوطة ومحاضرها المدونة إلى ان كل هيئة من هذه الهيئات، وهي لا تحصى عدداً، كانت تعتقد مذهباً سياسياً واجتماعياً قائماً برأسه، وتدعو إلى اجراء التدابير الإدارية والإقتصادية والسياسية بناءً عليه. فلم يكن يجمع بينها، وهي على هذا القدر من الإختلاف "البري"، إلا رغبتها في صرم حبل النظام القديم وقطعه. وبرزت السياسة اللينينية على السياسات المنافسة بتوزيعها اصحابها ومناضليها على اللجان والحركات المستقلة، وضمها إليها الناشطين المبرزين في اللجان والحركات. وبرز لينين على غيره بتنقله بين البرامج والمطاليب المتباعدة: فهو دعا الى توزيع الأرض على الفلاحين متأخراً، وأبطأ في الإقرار بحق القوميات في تقرير المصير، ولهث حزبه وراء الرقابة العمالية والحق ان ارتداده على البنود الثلاثة هذه كان ساحقاً. وعلى حين بقيت ثورة شباط، وحكم المناشفة معها، أسيرة التردد، ولم تحسم مسألة ألقت بظلها الثقيل على الأشهر التسعة الطويلة في أعقابها - وهي مسألة جواز العودة عن اجراءات الثورة أو استحالة هذه العودة وامتناعها - ، سعت سياسة لينين في حسمها على نحو قاطع، وصورت كل إجراء بصورة الخطوة صوب غاية تقع من النظام السابق على طرف نقيض. وفي هذا السبيل، أولاً، تبنت السياسة البلشفية كل اجراء لا يترك تبنيه شكاً في قطع دابر النظام القديم وطيِّه، مهما كان ما تضمره هذه السياسة مخالفاً للإجراء. فالغاية هي الإستيلاء على القوى والطاقات، الكثيرة والقلقة، التي حررتها الديموقراطية الجديدة، ولم تنجح في تطمينها الى دوامها، ولا في تثبيتها في شبكة هيئات تمثيلية وتنفيذية ومسألة مصدر التطمين والتثبيت الفعليين والحقيقيين، والمقدرة عليهما، معلقة، وهي تتصل بنسيج القوى والحركات الإجتماعية المتحددة وب"ثقافتها" السياسية وتراثها. ومكانة الحزب الشيوعي اللينيني، حزب الثوريين المحترفين، في هذا المجرى، مكانة عالية وحاسمة. فهو ضوى إليه كل الذين أخرجتهم شبكات اللجان والهيئات المنتخبة، والحركات الناشطة، من معاملهم وثكنهم ومدارسهم وإداراتهم وقراهم، وصرفتهم عن أعمالهم ومعاشهم إلى "النشاط" الثوري، فامتهنوه واتخذوه حرفة. فهؤلاء طمأنهم الحزب البلشفي، إن من طريق سياسته الثورية المغالية والمتطرفة، أو من طريق بنيانه العملي ومسوغات البنيان النظرية والسياسية والإجتماعية السوسيولوجية، إلى ثباتهم على حالهم الجديدة إذا انتصرت "الثورة"، وألقت مقاليدها الى يدي "الحزب". فوحَّدت سياسةُ الحزب البلشفي حالَ محترفي الثورة الجدد، ومعتَقيها من العمل والخدمة والدونية، في حال الثورة و"نظامها" السياسي، في حال واحدة. وقد يصح الكلام على "أنموذج"، وهو ما يسميه الشيوعيون "دروس أوكتوبر"، في ضوء ربط السياسة اللينينية بين حركة سياسية واجتماعية، كثيرة الروافد والمصادر، ومجمِعة تلقائياً على غاية سالبة مشتركة، وبين تعاظم حزب أنشىء على قصد التعويض عن ضعف الحركات السياسية والإجتماعية الروسية وقصورها عن انتهاج طريقة مستقلة وفاعلة - وقد يفضي التعويض الى الحلول محل الحركات السياسية والاجتماعية إذا انقادت له هذه الحركات. ويضطلع الحزب اللينيني الشيوعي في هذا الرسم العملي والسياسي بالدور الأول والمتصدر، بحسب "دروس" الثورة الروسية و"علمها". ومصادر فقه الحزب وأحكامه ليست بنات "فكرة" لينينية أو ماركسية أو تنويرية، على ما يكرر النفي كلود لوفور. وهذا من معاني "تعقيده" التعليلي الذي باشره منذ عقود ويتمه في كتابه هذا. فالانضباط الفولاذي مصدره مقالات مبثوثة في هيئات كثيرة منها الشرطة والجيش والمصنع والبيروقراطية. أما إناطة قيادة "الطبقة العاملة"، والإرتقاء بهذه إلى إدراك مهماتها التاريخية، بحزب من خارجها، فمرجعها كارل كاوتسكي، الإشتراكي الديموقراطي الألماني. ولكن المرجع لم يبنِ على مقدمته النتيجة التي بناها عليها المريد: فلم ينفِ حق أحزاب أخرى في العمل، ولم يجعل الحزب والطبقة والشعب واحداً. وهذا قرينة على اتصال قوة "الفكرة" بمجرى الحادثة الإجتماعية والسياسية. ولا يَسوغ من هذا القولُ إن الحزب اللينيني، وهو نواة النظام الكلياني، نشأ عن جملة مصادفات، إذا هو لم ينشأ عن منطق فكرة محكم. فليس إخفاق الهيئات المستقلة والذاتية، بين شباط وتشرين الاول أوكتوبر 1917 بروسيا الى سلسلة طويلة من الإخفاقات في المجتمعات الصناعية، والأنظمة الشيوعية وفي عدد من بلدان العالم الثالث، وقصورها عن إرساء علاقات ديموقراطية مستقرة، مصادفة. كذلك يستقيم الجمع بين السعي في ثورة سياسية واجتماعية غايتها إجلاء الإنقسام وصوره عن المجتمع، وأول هذه الصور الفرق بين الدولة وبين المجتمع، وبين إنشاء حزب يوجب الإنضباط الحديدي على مناضليه، ويلزمهم ب"الذوبان" في قيادتهم ومركز حزبهم، وينفي كل تباين أو فرق من الحزب وصفوفه المرصوصة. ولا يستقيم الجمع، على خلاف زعم تعللت به بعض الأحزاب الشيوعية الأوروبية، بين طلب الديموقراطية وانقسامها في المجتمع وبين التزام "المركزية" الطاغية في الحزب. وتحمل معالجةُ هذه المسألة الحزبَ الشيوعي اللينيني على نَسَب أوروبي، ديموقراطي، ولكنها تنفيه من النسب والتراث الديموقراطيين هذين، في آن. فسياسة الإرهاب الثوري التي انتهجها اليعقوبيون الفرنسيون، وعلى رأسهم روبيسبيير، في أثناء المرحلة "الجليدية" من الثورة الفرنسية الكبيرة، وزعم التأريخُ الشيوعي تحدر الارهاب اللينيني والتروتسكي والستاليني منها، تختلف عن الإرهاب الشيوعي. وهي تبين منه ب"إخلائها محل السلطة" وتركه شاغراً من غير صاحب أو نزيل - "ويد الحزب الحديدية" لينين هي صاحب المحل ونزيله. وحين أراد روبسبيير ضم سياسة الإرهاب، وبناءها بنياناً متماسكاً في جسم يملأ المحل الذي شغر بإجلاء لويس السادس عشر وسلطانه عنه، تصدعت وحدة أصحابه وأصحاب سياسة الإرهاب، وقام عليه بعضهم وقتلوه. فكان تصدع وحدة الإرهابيين، حين أراد مقدَّمهم الهيمنة الكاملة على السلطة وإرساء الدولة على هذه الهيمنة، قرينة على تجاذب المجتمعات الديموقراطية نزعات عفَّت عن تجاذب النظام الشيوعي والتعاور عليه. فالنظام الشيوعي ليس أسير النزعات المتضاربة التي تنشب فعلها في المجتمعات الديموقراطية بين الإستبداد والحرية، وبين الهيئة الإجتماعية وبين الفرد، أو بين المساواة وبين الإمتثال لأوامر رئيس. ومرد سلامة "المجتمع" الشيوعي، أو مثاله، من تجاذب نزعات مختلفة ومتدافعة، ومن عملها الجوهري فيه، هو إقصاء الإحتكام إلى قانون أو حدٍ موجب، يتعالى عن علاقات القوة وموازينها، واستبعاد مثل هذا الحد ونفي جوازه وجواز تحكيمه في العلاقات بين الطبقات الإجتماعية، وفي منازعاتها. فإذا أقصي الإحتكام إلى حد مشترك، يحتكم إليه المتنازعون ولا يلحقونه بميزان القوى، لم يمتنع القسر على الرضوخ إلى قوة القوي المستولي، ولم تمتنع نسبة هذا القسر إلى "قانون" التاريخ وإلى "علمه". فانتصب الحزب - الدولة علماً على وحدة الدولة، وعلى وحدة المجتمع، ووحدة الشعب، وانتصب علماً على جمع هذه الدوائر في دائرة واحدة، ونصاب واحد، ودمجها في الدائرة أو النصاب. ويشبِّه انتصاب الدولة - الحزب، والأحزاب الشيوعية المحلية وكالاته، على هذا النحو، القوةَ والجبروت. وليس أثر هذين في النفوس عموماً، وفي نفوس المثقفين خصوصاً، قليلاً. ومعظم المثقفين الأوروبيين وغير الأوروبيين من الذين استمالتهم الأحزاب الشيوعية، قبيل الحرب الثانية وفي أثنائها وبعدها، قلما تستروا على تعبدهم للقوة، أو على إعجابهم بالمراوغة والمخاتلة الشيوعيتين. ولا يستثنى من الملاحظة هذه رجل مثل سارتر، أو آخر مثل آراغون، إلى جيش جرار من الجامعيين والكتاب. فهؤلاء لم يكتموا، في علاقاتهم بقادة الأجهزة الحزبية، إكبارهم ما ينمّ به القادة "البروليتاريون" - ولم يكن احد منهم عاملاً حقيقياً - من إرادة ودالّة وسلطان. وإكبار القادة، وهم أنصاب القوة والسلطان وتماثيلهما، قد يتصل بإكبار مثال المجتمعات التي يتصدى هؤلاء القادة إلى تشييدها وبنائها. فهي، بدورها، خالصة من الإنقسام، ومتطهرة من "السياسة" وخلافاتها الصغيرة والضيقة، وتنهض عَلماً على القوة والوحدة الظاهرتين. فإذا تصورت الدولة - الحزب في صورة الدواء الشافي من انقسامات السياسة الديموقراطية ومجتمعاتها، وفي صورة الجواب القاطعِ اضطرابَ هذه المجتمعات على أركانها - ويلازم الإضطرابُ صدور المجتمعات الديموقراطية عن نفسها وفعلها وتاريخها، وليس عن "طبيعة" أو عن علة تمامية وغائية - لم يهُن المثقفون، ولا هان عامة الناس وجمهورهم، إذا هم صدقوا مزاعم هذه الأنصاب في الحرية، وفي صناعة مصائر البشر على مثال جميل ومفهوم. * كاتب لبناني.