تقدم الوقائع في فلسطين كل يوم، معطيات إضافية ذات مغزى، حول عمق المأزق الذي تتخبط ضمن دائرته المغلقة قضية الشعب الفلسطيني، بحيث لا يمكن التفاؤل القريب، بوضع قضايا الحل النهائي بين الفلسطينيين والاسرائيليين على"نار ما"... لا همّ إن كانت دافئة او حامية. في المنطلق، وكي لا يضيع النقاش، أو ينحرف عن جادته، أصل المازق السياسي الفلسطيني كامن في التعنت الاسرائيلي، ومفاعل المأزق الإضافي هو العجز العربي العام، أما"غذاء"الأزمة الوافد فمصدره الانقسام السياسي المتفاقم بين أبناء القضية أنفسهم... ومن هذا"الجديد"يخشى أن تهبّ"رياح السموم الخطرة"! لقد تراجع كثيراً التداول بالبرامج الفلسطينية المتقابلة، مثلما خفت نبض السجال الرحب بين المتنافسين، ظهر ذلك بوضوح بعد وصول حركة"حماس"الى السلطة، ومقاسمتها لحركة"فتح"سلطان النفوذ. ضمن هذه الأروقة، أروقة الصراع على السلطة، عادت الخطب تتمحور حول مادة وحيدة عنوانها: الإمساك بمسار القضية الفلسطينية، وذلك من خلال عنوانين فرعيين: التمسك بالحكم من جانب"حماس"، ومحاولة العودة اليه من جانب"فتح"الامر الذي يعني في حالة هذه الاخيرة، استعادة زمام الأمور كلها والانفراد بتصريف شؤونها. قدمت حركة"حماس"، منذ توليها رئاسة الوزارة وحتى اليوم، نموذجاً لطرح إسلامي أجاد المقاومة والقتال كشعار دائم، ولم يوفق في الرد على سؤال: ماذا نفعل سياسياً في اليوم التالي لتسلم الحكم؟ ومع أن"الدنيا"لا تغيب في العادة عن المتلفحين برداء"الدين"فإن سؤال السياسة المقلق، بما يفترضه من اشتقاق معادلات نسبية، يتعارض مع"الشعار"الذي يكفي الجمهور العريض مؤونة الشرح والتعليل والتأويل مع المرونة السياسية اليومية، وفي مواكبة المتطلبات الشعبية الملحة، ومع الحاجة الى برنامج حكم، ذي أهداف ومواقيت معينة،... مع كل هذا، تتراجع سياسة التعبئة الايديولوجية وشعاراتها الاختزالية، هذا لأن"للخبز ومتفرعاته"وقائعهما السياسية الأخرى. الاحتكام الى الوقائع، والانتقال من معالجة الشأن التنظيمي الخاص الى مداواة"الجرح الوطني العام"يتطلّبان انفتاحاً سياسياً واجتماعياً، بوجهة توسيع قاعدة المشاركة الشعبية، أي الاقتراب نحو شيء من"المعادلة الديموقراطية"حيث لا تعني"الهيمنة السياسية"إقصاء الشرائح الاجتماعية والسياسية المعترضة، بقدر ما تعني محاولة إنفاذ سياسات"كتلة غالبة"يرى فيها أصحابها تحقيقاً للمصالح العليا لشعبهم، من دون إقصاء للآخرين، على معنى الإلغاء، بل بقبول"المثول أمام انتقاداتهم"والاستجابة لشرح استفساراتهم، والرد على تساؤلاتهم بالقول وبالعمل وبالاحتكام، وهذا الاهم، الى معايير تجديد الشرعية، من خلال عمليات الاقتراع أو الاستفتاء، أو من خلال أية آلية ديموقراطية أخرى. هذا"الشرح"قد لا ينطبق في غالبيته على الوضع الفلسطيني تحت الاحتلال، الذي يمنع كل بلورة سياسية ناجزة في مسيرة الديموقراطية الفلسطينية، لكن ذلك لا يمنع من القول ان التوق الفلسطيني عارم الى الاخذ بوجوه شتى من الديموقراطية، وفي طليعة ذلك يأتي مبدأ التداول السلمي للسلطة، هذا الذي له إسم عند الشعب الفلسطيني هو"تحريم الاقتتال"و"الدم خط أحمر"و"الوحدة سلاح الفلسطينيين"الخ. وفقاً لهذه الوجهة"السلمية والتصالحية"الفلسطينية العامة، يمكن للمراقب أن يشهد في تطورات ما بعد حكم"حماس"تراجعاً في القيود التي تكبح"المحرمات العلائقية بين الفلسطينيين، بعض ذلك موضوعي، يجد أساسه في بنية حركة المقاومة الإسلامية، أي في تركيبها الاجتماعي، وفي منطلقاتها الفكرية، وفي حداثة تجربتها ضمن حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وفي قواهر ارتباطاتها الموجودة خارج فلسطين. انطلاقاً من ذلك، لا يصير مستغرباً استبعاد الآخر من العلاقة، طالما هو مستبعد من البيئة الخاصة، مثلما لا يصير مستهجناً إسقاط الآخر من السياسة طالما هو مسقط سلفاً من حسابات"الفكر"والمعتقد التنظيمي الخاص. والى ذلك كم يظل الرأي الآخر مسموعاً، او معترفاً به حتى إذا كان"فكر الحاكم"يفترض التنزيه والتقديس ويشتمل، في رأي صاحبه، على الصواب المطلق. نلامس في ذلك جانباً من"الأصولية"التي تزعم الإحاطة بكل شيء، بالتأسيس على كتاباتها واجتهادات منظريها، فتنسب اليها كل الحقيقة، التي لا يخالطها ريب ولا يدانيها شك أو ظنون. هنا لا بد من استطراد منصف للقول، إن كل الأصوليات متشابهة، يستوي في ذلك أصحاب النظريات الشمولية، ذات المنشأ العلماني، مع أقرانهم من أصحاب المنطلقات الدينية على اختلافها. على صعيد ملموس، نكاد نتحدث عن انغلاق حركة"حماس"على واقعها، وهي تتصدى لقيادة شؤون الشعب الفلسطيني أما مظاهر الانغلاق فشتى، ومجالاتها الداخل الفلسطيني وما يحيط به، دولياً وعربياً. رفض مقاربة المأزق من بوابات"الوصفات"الحكومية، تكنوقراطية كانت أم سياسية، هو مسلك انغلاقي ومثله الرد على التذمرات الشعبية الموظفون والشرطة مثال بالتشكيك في أهداف أصحابها، ثم بقمع بعضها، هو طريق لسد الآفاق، والتحذير من الاستفتاء، من خلال انتخابات مبكرة، والتحذير من أي توجه نحو حلّ الحكومة المقبلة، بدعاوى الخوف من حرب اهلية، هو سبيل ابتزازي وقمعي وإكراهي بوسائل"خطابية". ولا ينجو الانغلاق من التبسيط، من مثل الردّ على الأزمة المعيشية الخانقة بالدعوات الاخلاقية، ومن شاكلة مواجهة الضغوط المسلطة على الفلسطينيين باستثارة الهمم وبشحذ المعنويات، بديلاً من ابتكار الأساليب الآيلة الى التخفيف من حدة المعاناة الشعبية وشدّتها. من كل ذلك، يصح التخمين ان حركة"حماس"غير قادرة على الحكم، إلاّ بشروطها، لذلك تتمسك بأولوية"نقاء خطابها"وبأولوية إضفاء طابع"الضحية"على بقائها في دائرة العجز، او على اضطرارها لمغادرتها. اما الغائب عن كل ذلك، فهو مبادرة"حماس"الى اقتراح تسويات معقولة وواقعية على"شركائها الآخرين"او إشراكهم في البحث عن الحلول للمأزق الفلسطيني الراهن، ثم إبداء الاستعداد للانخراط في مسيرة الحلول، لدى التوصل اليها. ثمة معوقات خارجية تضاف الى اتفاقات تعقد مع"فتح"تتم العودة عنها. لكن الحساسية لا تكمن هنا، حيث"للشارع"احكامه وللبيئات التي تحتضن بعض قادة"حماس"اشتراكاتها أيضاً. بل إن الحساسية الخطرة تطل برأسها من استسهال"حماس"التعاطي مع مسألة الاستقلالية الوطنية الفلسطينية، وبعض المسلك على هذا الصعيد يوحي وكأن تفريطاً ما حصل على صعيد هذا الإنجاز الفلسطيني. لقد عرف الفلسطينيون دائماً كيف يميزون بين التحالف والالتحاق، بل هم كانوا دائماً ومازالوا طلاب تحالف، يضيف الى الاستقلالية الفلسطينية جوهرياً، ولا يأخذ منها، وهم لم يتوانوا عن خوض معارك سياسية وعسكرية عدة، دفاعاً عن هذه الاستقلالية، التي استعادوا بسببها زخم حضورهم الخاص، بعد ان غيّب هذا الحضور لسنوات في"الأدراج القومية". ثمة خيط رفيع بين الائتلاف والاختلاف، وللخيط نظيره بين التعاون والاتباع. هذا الخيط يبدو مكتنفاً برؤية ضبابية من قبل"حماس"، مستندها استعادة لأطروحات سقطت حول"قومية القضية"التي شكلت مستندا لشرعيات عربية وشعبية عدة، ومحاولة استبدال الصفة القومية بالصفة الإسلامية هذه المرّة. قد لا تقع"حماس"من استنجادها"بعمقها الجديد"إلاّ على استقواء على شركائها في الوطن، وهي ستكون محكومة حكماً"بالتناغم"مع الداعمين الجدد، قوميين او إسلاميين، حتى إذا حان موعد القطاف، عبّأ المتحاورون من فوق رأس القضية الفلسطينية سلالهم، وظلّت السلّة الفلسطينية أسيرة فراغ النجدة الحقيقية. تستحق القضية الفلسطينية نقلة متقدمة على طريق تبلورها واحتضانها، مثلما توجب حركة التحرر في فلسطين مساهمة مخلصة جادة في نقاش مأزقها، من ضمن المأزق العربي العام، ومحاولة لاقتراح مخارج مستقبلية لها. هذا يفترض ان المرحلة الحالية، تشكل نقطة تراجع في المسيرة الفلسطينية، التي قامت على الحشد والانفتاح والمرونة ودق كل لأبواب، ودائماً من موقع الاستقلالية النضالية والوطنية. عليه نستطيع القول ان كل انغلاق فئوي هو ارتداد بالمسيرة الفلسطينية، وكل إضاعة"لعصب التفوق الفلسطيني"الاستقلالي هي خسارة مستقبلية. لا تحتل"حماس"كل المشهد، بل إن الصورة"الفتحاوية"تتطلب تظهيراً واضحاً، هي الأخرى، لجلاء ما الذي بقي منها منتسباً الى محصلة مسيرة"فتح"العامة، وما الذي صار غريباً عنها، خاصة بعد غياب قائدها ورمز فلسطين التاريخي، الرئيس ياسر عرفات، إذ بين انغلاق"حماس"وانفلاش"فتح"، يخشى على القضية الفلسطينية من كل الاحتمالات الخطرة. * كاتب لبناني