المصافحات هذه المرة لم تجر في حديقة البيت الابيض او في معبر اريز بين الرئيس الفلسطينيياسرعرفات وشركائه من قادة اسرائيل في عملية السلام بل داخل قصر الاندلس في القاهرة وبين عرفات وقادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وفي اطار حوار وطني فلسطيني، لكن حرص عرفات ومحاوريه من قادة الجبهة على إظهارها للعالم من خلال شبكات التلفزيون العالمية والمراسلين الصحافيين ذكّر من جديد بسلسلة المصافحات الاحتفالية التي بدأت في اوسلو عام 1993 والتي كان هدفها الاساسي، فيما يبدو، سيكولوجيا وهو دفع الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي ليكونا اكثر استعداداً لتقبل المرارة التي تنطوي عليها الجرعة السلمية التي تتطلبها عملية التسوية وايضا للانفكاك من عقد الماضي والرموز والمشاعر العاطفية التي فرضتها المئة عام من عمر الصراع العربي الاسرائيلي. قد لا تكون المقارنة هنا دقيقة حينما يحتج الطرفان بأن اللقاء لم يكن سوى عودة الى صفوف البيت الواحد للتهيئة لحوار يستهدف اعادة الوصل بين الفصائل الوطنية الفلسطينية ما انقطع بسبب ظروف شاذة لولا ان الامر يتعلق ايضا بأوسلو التي كان من بين نتائجها التشرذم الفلسطيني والذي ولد من جهته عقداً ومشاعر ورموزاً ربما احتاجت ايضا لمشاهد ذات دلالات سايكولوجية لتجاوزها. لكن السؤال الآن هو هل ستكون المصافحات الفلسطينية التي بدأت في القاهرة اكثر حظاً من مثيلاتها التي جرت مع الاسرائيليين على مدى السنوات الست الماضية في إنهاء المأزق الفلسطيني من خلال بناء الارضية التي على اساسها سيتم الشروع باعادة البناء الوطني الذي يقر الجميع بأنه مثلما كان ضحية اتفاقات اوسلو فإنه حجر الزاوية التي ينبغي ان يقف عليها الموقف الفلسطيني وهو يستعد لاتخاذ اخطر القرارات المصيرية حين يتم مواجهة استحقاقات قضايا الصراع الرئيسية الخاصة بسيادة الدولة الفلسطينية وحدودها ووضع القدس كعاصمة لها ومستقبل المستوطنات واوضاع اللاجئين وهي القضايا التي تم تأجيلها لمفاوضات الحل النهائي؟. من الملاحظ ان جهود البدء بالحوار تصاعدت منذ استلام يهود باراك السلطة في اسرائيل وتصاعد نغمة الحديث عن امكانات تطبيق الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية المتعثرة ومن ثم الانتقال الى مفاوضات المرحلة النهائية وكذلك تزايد احتمالات التوصل الى تسويات سلمية على المسارين السوري واللبناني كخطوات تتوج عملية السلام برمتها وانهاء الصراع على كل جبهاته. هذه الاحتمالات، او في المقابل عدم تحققها او تعثرها، لا بد وان تفرض تحولات جذرية في تفكير القيادات الفلسطينية بشأن برامجها ورهاناتها المستقبلية بعيدا عن اساليب الماضي سواء الانفراد باتخاذ القرار او التشنج وغيرها من الاخطاء الفادحة التي ارتكبها هذا الطرف او ذاك الا انها ساهمت جميعا في صنع اوسلو وتبعاته. فهل حدث حقاً ذلك التغير في اساليب التفكير والاداء لدى الطرفين المعنيين بالحوار لكي يكون بالوسع تخطي المحاسبة على اخطاء الماضي وخطاياه وتحويل الهواجس الى سياسات رشيدة تؤسس لمستقبل افضل مما سبقه؟. لو عدنا الى الوراء ست سنين لوجدنا ان القيادات الفلسطينية انقسمت، حينئذ، الى ثلاثة اتجاهات. الاول وضع كل رهاناته على اوسلو. بينما حاربه الثاني بضراوة ودعا الى اسقاطه. ووقف الثالث بين بين وادعى انه يريد تحسين شروطه والعمل على التقليل من سلبياته. ما شاهدناه في القاهرة سواء بلقاء عرفات قادة الشعبية او باجتماعات مركزية فتح التي سبقته، وكذلك اللقاءات المحتملة الاخرى، هو ان الاتجاهات الثلاثة القابلة بمبدأ الحوار قد توصلت الى قناعات فحواها ان القضية الفلسطينية تقف الآن على مفترق طرق يرتكز على الوقائع التي افرزتها اوسلو على الارض وهي وقائع قد يختلفون في شدة قبولها او رفضها الا ان ما يجمعهم بعد ذلك هو قناعتهم بضرورة تجاوزها والانطلاق الى أمام بهدف ايجاد حل وسط يفضي الى استراتيجية مشتركة للتعامل مع استحقاقات الحل الدائم. لكن هذه القناعة لا بد وان تستدعي التفحص الجيد للوقائع التي انتجتها اتفاقات اوسلو على الارض، وحين نفعل ذلك فاننا لا بد وان نصطدم بحقيقة ان الذين راهنوا على انجازات اوسلو قد قبلوا ايضا ان تكون وقائعها من القوة والرسوخ بحيث انها ضيقت من الخيارات المتاحة امام الفلسطينيين للانفلات من قيودها عند محاولة تحسين شروط الوضع النهائي. فالصورة التي أمامنا تشير الى ان اسرائيل ومن خلال سلسة الاتفاقات التي وقعتها قد خلقت واقعاً جديدا تماما، وبما في ذلك التحولات في نمط القيادة الفلسطينية واسلوب اتخاذ القرار، الذي اصبح يخضع لضغوطها وتأثيراتها إن لم يكن لمواصفاتها، ما ساعد سلفاً على تحجيم ومحاصرة القدرات الفلسطينية التي كان من المؤمل ان تبلور موقفاً داعما للمفاوض الفلسطيني في مفاوضات المرحلة النهائية. ولذلك، اذا ما كانت هذه هي الوقائع التي خلفها اوسلو والتي يبدو ان بعض الاطراف التي رفضتها سابقا اصبحت تقبل بالتعايش معها الآن، باعتبارها حقائق قائمة على الارض، فان السؤال المنطقي هو ما هي الرهانات التي تستند اليها والاوراق التي في حوزتها التي تمنحها الامل والثقة بامكان ان تنجز مهمتها في اخراج الوضع الفلسطيني من مأزقه الحالي ووضعه على المسار الذي يمكنه من مواجهة تحديات المستقبل واستحقاقاته؟. في الواقع ان المتابع لتصريحات وكتابات قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، وهما الفصيلان الاكثر تفاعلاً مع دعوات الحوار حتى الآن، يجدهم يركزون على ان الهدف من عملية الحوار هو التمسك بالثوابت الوطنية والضرورات الوطنية والمصلحة القومية والقواسم المشتركة وغير ذلك من العموميات التي سبق ان أشبعوا مرحلة اوسلو بها اتهاماً بأنها مرت عليها دون كثير من الاستجابة والاكتراث. وفي احسن الاحوال فان البعض اشار صراحة بأن السبب وراء الدعوة الى الحوار هو استشعارهم الاخطار التي يمكن ان تؤثر على القضية الفلسطينية في حال تقديم السلطة الفلسطينية تنازلات تجاه القضايا الرئيسية في مفاوضات المرحلة النهائية. فهل بالامكان بعد ذلك اعتبار هذه التمنيات الحماسية الصادقة برنامجاً عمليا يستجيب لدوافع مشاركة المعارضة الفلسطينية المهمشة والمستبعدة في مسعى إعادة البناء الفلسطيني تفادياً للكارثة؟ وهل تمتلك السلطة بدورها برنامجاً لتحقيق الانفراج يستوعب المعارضة ويقبل بدورها الفاعل والايجابي في تقرير المصير دون إقصاء واستبعاد أم أنها ستنظر الى الحوار كونه عودة المعارضة الى بيت الطاعة أو على أفضل تقدير مخرجاً لإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية؟ وعموماً فما هي المنطلقات التي سيبني عليها الطرفان أهداف الحوار ووسائله لتحقيق الحدود الدنيا من الاتفاق على مشروع وحدة وطنية يبلور موقفاً فلسطينياً متماسكاً من موضوع الصراع يغلب التشبث بآمال المستقبل على إحباطات الماضي ومخاوفه والأهم تفادي إجهاضه مع تجارب سابقة؟. لذلك فإن ما هو مطلوب لمواجهة تحديات المرحلة ربما يتجاوز الطموحات المبنية على الحوار بين السلطة الفلسطينية وبين فصائل معينة الى عمل وطني شامل قد يكون اطاره الاوسع هو مؤتمر سياسي عام يجمع فصائل منظمة التحرير مع الفصائل الاخرى والمستقلين يتجاوز الأداء البائس السابق والخطابات المتشنجة وينعقد على أرضية وضع استراتيجية فلسطينية شاملة لإدارة ما تبقى من عناصر الصراع بالشكل الذي يحفظ لكل الفلسطينيين داخلاً وخارجاً حقوقهم وأهدافهم الوطنية. إن القول بالدفاع عن الثوابت الوطنية والبحث عن قواسم مشتركة هو كلام جميل ويعبر عن الالتزام بالضمير الوطني والاخلاقي، ولكن ألا ينبغي أن نسأل اولاً كم مرة ضاعت الفرصة للتمسك بهذه القواسم لا لقلة الوعي بالشعار ذاته وانما لفقدان البراعة السياسية والتأريخ الحافل بالأخطاء؟. إن هناك قناعات متزايدة بأن اوسلو ووقائعها لم تخلق استراتيجية ايجابية للنهوض الفلسطيني، وهناك مخاطر من انها ستكرس ذلك اذا لم يتم سد الثغرات التي فتحتها في الجدار الفلسطيني. كما ان الاتجاه لعقد تسويات على المسارين السوري واللبناني والاستحقاقات المترتبة على ذلك فلسطينياً سيعقّد من المأزق الفلسطيني حين يضعف او يشل من قدرة الكتلة المعارضة فيها. وبمقدار ما سيكون مفيداً التوصل الى ارضية مشتركة بين فتح وبعض الفصائل الموجودة هناك الا ان ذلك لا ينبغي ان يكون مشروعا محدوداً للتقاسم الوظيفي للنفوذ والغنائم سواء في اطار المنظمة او السلطة ويغفل المشروع الاهم للانقاذ الذي يمكن تحقيقه من خلال مؤتمر وطني جامع يستهدف بالنهاية تحقيق حل عادل للقضية الفلسطينية. لقد قيل دائما إن القضية الفلسطينية هي قضية الفرص الضائعة، وتلك حقيقة مرة لم يصنعها تفويت ما لاح من حلول تتناسب مع موازين القوى بقدر ما صنعها الفشل المزمن في الإمساك باللحظات التاريخية المواتية واللعب الحر بالخيال والقدرة على تحديد الصياغات المبدعة كما عمقتها جولات الهزائم والرهانات الخاسرة وخيبات الامل. وليس من المبالغة القول ان ليس ثمة فرص اخرى من الممكن هدرها بعد الآن ما يتطلب من الفلسطينيين الكف عن تكرار اخطاء الماضي وحشد الامكانات بهدف المحافظة على انجازاتهم، مهما كانت، بنظر البعض، متواضعة، والأهم من ذلك الالتفات الى المستقبل المحفوف بالتحديات والمخاطر. لكل ذلك من اجل ان يكون الحوار مجدياً لا مجرد مصافحات وعناق لتسويق حملة علاقات عامة جديدة في مسيرة العلاج السيكولوجي التي تتطلبها التسوية لا بد ان يكون جامعاً وشاملا والأهم ان يكون مقدمة لاستراتيجية بديلة. * كاتب عراقي.