تشكل محطة عام 1965، المعلَم الأبرز في مسيرة استعادة القرار الوطني الفلسطيني، من ردهات ورفوف السياسات العربية. ذلك العام، اخترقت انطلاقة الكفاح المسلح، بقيادة حركة فتح، السقوف العربية الرسمية، وأعلنت شرعية خط آخر، لاستعادة فلسطين، هو خط «الحرب الشعبية الطويلة الأمد». كانت «الرصاصات الأولى»، يومها، مخرجاً فلسطينياً من مأزق «اللامبالاة العربية»، ومن ثقل القيود الرسمية، التي قيدت الشخصية الفلسطينية المستقلة، وصادرتها. من التاريخ أيضاً، انتقال ثقل الجسم الفلسطيني المسلح، من الأردن إلى لبنان، بعد الصدامات الدامية هناك. كان الانتقال خروجاً من مأزق ثانٍ، بعد أن بلغ التناقض بين «الدولة والثورة»، حدوده العنفية الإلغائية. أي بعد أن ظهر جلياً، المستوى المقبول، أو المسموح به، من قبل «النظام الرسمي» العربي، لظاهرة الكفاح الفلسطيني المسلح. الخلاصة الأهم، في هذا المضمار، كانت: أن الفعل الفلسطيني فاض عن حدود وقدرات احتمال النظام الرسمي، فكان لا بد من اصطدام النظرتين، والنهجين والأسلوبين... فترة السماح اللبنانية، للحركة الفلسطينية، كانت الأطول، وما بدا أنه حل «تاريخي موقت للإشكالية الفلسطينية»، فوق الأرض اللبنانية، تكشف، عام 1982، عن أنه إعادة إنتاج للمأزق الفلسطيني، الأصلي، وليس حلاً له. أعاد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، واحتلاله العاصمة بيروت، تشتيت «الجمع الفلسطيني»، ليعود بلا قواعد انطلاق خلفية. بعد الحرب تلك، عادت إشكالية «الثورة من خارج أرضها»، لتلقي بقواها في وجه قيادة الحركة الفلسطينية، وعادت الصعوبات التأسيسية إلى الواجهة: شعب يقاتل من خارج أرضه. استعارة أرض الآخرين، سياسة موقتة. شعارات تثوير المنطقة العربية، بالاستناد إلى البنادق الفلسطينية، فقدت مقوماتها. استعادت الوطنيات المحلية عصبيتها، في وجه عاصفة نظرية الساحات القومية. بانت أكثر من أي وقت مضى، حدود قومية الآخرين، القتالية، عندما يتعلق الأمر بإعادة تشتيت القوى الفلسطينية. بعد عام 1982، انطبق على الوضعية الفلسطينية حكم غالب قوامه: أرجحية الوطنية الفلسطينية، الخاصة، على بقايا الأطروحات القومية، العامة. العوامل التي تشكل منها هذا الحكم، كانت وقائع فلسطينية وعربية متداخلة، والمسؤوليات مشتركة. اتهم «الفلسطيني» بالانفراد، ولم يكن الأمر صحيحاً، وإن كان الفلسطيني لا ينفي «تهمة الاستقلالية» التي تعني، في ما تعنيه، التعامل على قدم المساواة، والتشاور بين حلفاء، والدعم المتبادل، بين أصحاب الهموم الواحدة. في نفس الوقت اتهم «العربي» بالتخلي، وكان في الاتهام حشد من العناصر التي تؤيد ذلك. مظهر التخلي، هو انفراط عقد التضامن العربي، والجلوس في مقاعد المتفرجين على فلسطين، وانتداب النفس لوساطات بين الفلسطينيين، وبين الإسرائيليين... أي اتخاذ وضعية الحياد، حيال «فريقين خارجيين»... وأحياناً خرج المحايدون عن موقفهم، فلجأوا إلى ممارسة الضغوط على «الأخوة» في القومية، وفي التطلعات والأهداف!! ضمن خط، وسياق، «قلع الشوك الفلسطيني بالأيادي الفلسطينية»، اندلعت انتفاضتان، وعقدت اتفاقيات، أبرزها اتفاقية «أوسلو». شكلت الاتفاقية مخرجاً استراتيجياً، وخطوة أولى على طريق إنهاء تشتت الشخصية الفلسطينية، وعلى طريق استعادة الأرض لأبنائها... الاتفاقية تلك، المجحفة والظالمة، والمختلة لمصلحة الطرف المحتل، أعطت العبارة الأولى الجدية، لخطاب حل الإشكالية الفلسطينية الأهم: نضال الشعب من خارج أرضه. وقدمت الأمل التاريخي: تجسيداً للشخصية الوطنية للشعب الفلسطيني، وتجديد هويته واجتماعه وثقافته واقتصاده... ضمن دولة مستقلة. حملت اتفاقية أوسلو، مثلما حملت الاتفاقيات اللاحقة، غموضاً ووضوحاً، لكنها كانت كلها محكومة بميزان القوى، المحلي والإقليمي والدولي. على هذا المعنى، أعادت الاتفاقيات إنتاج المأزق الفلسطيني، في صورة مواضيع قديمة وجديدة. كان واضحاً للجميع، (إلاّ من أعوزته الدراية السياسية) أن السمة الصراعية تخترق كل الاتفاقيات، وأن الملفات النهائية سيطر عليها تحويرات وتعديلات، وسيتعرض بعضها للإلغاء، بحكم الوقائع... لذلك، كان التحدي – المأزقي الذي واجه الفلسطينيين، وما زال مستمراً الآن، هو كيفية إدارة العملية الصراعية. أما الأسئلة في هذا المجال فكثيرة، وهي تطرح على بساط البحث كل القضايا، وتتناول الإداء الفلسطيني الخاص وشعاراته وقواه، مثلما تتناول أوضاع العدو الإسرائيلي، وما يتحكم بخياراته السياسية من نوازع واستهدافات. التصدي لنقاش سؤال: ما أفضل السبل الكفيلة برفع الظلم، ولو نسبياً، عن الوضع الفلسطيني، يطرح على طاولة التشريح كل المقولات الفلسطينية أولاً، والعربية القومية والإسلامية، التي ما زالت تجرجر أذيالها، ثانياً. في هذا المجال، تواجه من يتنكب عناء البحث، مسؤولية المراجعة عن كل المحطات التي وردت، لقول رأي في محصلاتها. الرأي الذي يرد كخلاصة، لا ينتمي إلى عالم الماضي، بل هو راهن ومستقبلي، في آن معاً. لقد خاض الشعب الفلسطيني تجربة كفاح مسلح، طويلة، اعتبرها القيمون عليها، أنها السبيل الوحيد لتحرير فلسطين. ما الرأي اليوم في خلاصة تلك التجربة؟ أي ما كلمة الحق التي يجب أن تقال، لقراءة تلك الأحداث قراءة تاريخية موضوعية؟ لماذا الإلحاح على ذلك؟ لأن ثمة من ما زال يعتقد أن لا سبيل لاسترداد «ما أخذ بالقوة إلا بالقوة». في نفس السياق، كان للفلسطينيين انتفاضتان، ما الخلاصات الواجب اعتمادها، خاصة أن الانتفاضتين اختلفتا على صعيد السياق السياسي الذي أطلق كل واحدة منهما، مثلما اختلفا على صعيد الأساليب المتبعة. إذ من المعلوم، أن الانتفاضة الثانية زاوجت بين وجهي «الاحتجاج» السلمي والقتالي... وبالغ الجناح الإسلامي في الحركة الفلسطينية، في التشديد على الأسلوب القتالي فقط، مما صارت له يومياته ووقائعه ونتائجه... مرّة أخرى ما هي الأحكام حيال الظاهرتين، ونتائجهما؟! دون استطراد، يتناول كل محطة بذاتها، تقتصر الدعوة على نقاش كل قضية فلسطينية، ضمن شروطها العامة. من هذا المنطلق، من الصحي والصحيح، الإدلاء بدلو نقدي، لدى استعراض السياسات والتكتيكات والتحالفات والتحركات... ومن ثم التمييز بين ما هو صحيح منها، وما هو خاطئ... وما كان الإقدام عليه ممراً إجبارياً، وما كان يمكن تفاديه... بعد ذلك، يصير منطقياً، بل مطلوباً، التقدم باقتراحات، يعتقد القائلون بها بأنها ذات مردود سياسي ناجح، يساهم في دفع قضية الشعب الفلسطيني أشواطاً إلى الأمام. بين التحليل والتبرير «شعرة»، حسب القول الشائع، وبين التعليل والعدمية، خيط رفيع، وبين سلطة العقل وتسلّط النقل، لا مجال للانحياز إلاّ للحسابات العقلانية، التي لا تعير أذناً للشعارية، وللفظية الثورية. * كاتب لبناني.