تواجه القضية الفلسطينية أسئلة صعبة ومصيرية، تكاد تكون متماثلة مع الأسئلة التأسيسية التي طرحها الشعب الفلسطيني على نفسه، وأجاب عنها باعتماد الوسائل الكفاحية المتنوعة، التي شكل العمل المسلح الظاهرة الأبرز من ضمنها. تستمد الأسئلة صعوبتها من واقع وصول مسألة الصراع الفلسطيني مع إسرائيل إلى نقطة الاختيار الفاصلة، التي تحتم على الفلسطيني طرح سؤال: وماذا بعد؟ أي كيف يعالج المأزق الذي دفعت إليه حركة الشعب الفلسطيني التحررية؟ بعد أن «ارتكس» المشروع الإسرائيلي إلى ذروته التأسيسية الأولى، أي إلى استكمال «النواقص» التي لم يعالجها الاقتلاع الأصلي، الذي نال من المصير الوطني الفلسطيني، وأصاب سيرورته الطبيعية في الصميم. هي نقطة ختام، إذاً، من الطرفين، ومحطة محصلات تتوج عقوداً من الصراعات المريرة، لكن الختام هذا، لا يضع نقطة النهاية، بل يفتح مباشرة على بداية جديدة، بخاصة من الجانب الفلسطيني، الذي يمتنع عليه إسدال ستارة الصراع على نفيه من خريطة الأوطان والشعوب، وإسلاس قياده، لمن يريد إعلان هزيمته النهائية. في الراهن يختتم الفلسطينيون مسيرة اتفاق أوسلو، الذي علّق أسلوب الكفاح المسلح، رسمياً، ولم يتنكر له شعبياً، ويغادرون سياسة المزاوجة بين التفاوض والعنف المسلح، الذي انتقل من خارج فلسطين إلى داخلها، تلك السياسة التي أدارها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، بثبات، ووفقاً لحسابات وطنية عامة، وانخرطت فيها حركة حماس متكئة على حساباتها الخاصة. إلى ذلك، فإن الفلسطينيين يعلنون لا جدوى من التفاوض «الخالص»، التي ميزت حقبة تسلم الرئيس محمود عباس، مهماته الوطنية. لقد رافقت المراهنة الفترات كلها، لكنها لم تصل إلى حدود الأوهام، حتى في اللحظات التي بدا فيها «العالم» متفهماً لمعنى تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية. في الجهة المضادة، ينهي الإسرائيلي، عملياً، فرضية الكيان الفلسطيني المستقل، أي يعلن ما أضمره عند توقيع اتفاق أوسلو، وطوال الفترة التي أعقبته، وكانت حافلة بمنوعات المفاوضات. مع رفض الاستقلال الفلسطيني، ينتقل الإسرائيلي من تردده «الصهيوني» إلى إقدامه «اليهودي»، أي أنه يختم، بنفسه، الغموض الذي ادعى العلمانية والتعددية، بحسب وعود الصهيونية، وتختار إعلان هويته الدينية، بكل ما تنطوي عليه من تمييز عنصري، في الدين وفي الثقافة، وما إليهما من مجالات الحياة. الختام، الذي هو بدء في الوقت عينه، يعني تجديد الصراع في بعده الفلسطيني، وضمن المدى العربي، عليه، سيكون منطقياً القول: كيف تعيد الحركة الوطنية العربية تعريف اللحظة الراهنة من الصراع العربي – الإسرائيلي؟ وما برامجها في مواجهته؟ وما وسائلها حيال الخطاب الإسرائيلي؟ الذي لم يغادر مقولة إن حدود إسرائيل تمتد إلى حيث تصل أقدام جنودها! الوجه الآخر لهذا السؤال، هو: ماذا عن العرب وفلسطين؟ لن يكون الجواب مستنسخاً من حقبات مضت، فتلك الأزمنة فاتت، وذهبت الأيام بقواها وسياساتها، لكن الفراغ التاريخي مستحيل، والشغور يكون على شكل إرهاصات، تتخذ لذاتها سمة «الغياب»، لكنها تكون كامنة، وفي طور التبلور الذي يسبق الانبثاق. ضمن هذا السياق لا تفترض المقاربة السياسية الرجم بالغيب، لكنها تأخذ بالوقائع المتوافرة، وتنطلق منها. ما هو في مرمى العين يقود إلى استشراف مستقبلي، سمته الأساسية محاولة التفلت من أحكام الشروط القاسية، التي دفع إليها الوضع الفلسطيني، والسعي للانعتاق من «البلادة» التي فرضها النظام العربي الرسمي، على الاستجابة العربية، للنداء الفلسطيني، طوال العقود التي تلت حرب تشرين عام 1973. التفلت الفلسطيني يستعيد مشروعيته، كلما اشتدت قبضة الإحكام الإسرائيلية، وكلما تبلورت عوامل الإقفال على الحلول السياسية، المعقولة والمقبولة. لكأن الوضع العربي يعيد تعريف موقعه حيال الوضع الفلسطيني، أي يستعيد لغة الاحتضان لقضية العرب الأولى، مع ما يواكب ذلك من إرهاصات سياسية. ليس لنا أن نقول بنسخة مكرورة عن الماضي، لكن لنا أن نتوقع لوحة عربية – فلسطينية جديدة، تحضر فيها كل الدروس والخلاصات، التي أفرزتها عقود الصراع الطويلة، وفيها كل الابتكارات التي تعلن جهاراً، أن الإسرائيلي لن يقوى على كتابة «نهاية التاريخ». في الطريق إلى ذلك، يحضر مطلب المراجعة السياسية والنظرية، بإلحاح. في هذا المجال، تسقط سلفاً كل ادعاءات الصواب المطلق، وتفلت الحياة من كل نظرية تدعي أن الحياة أثبتت صحتها. العناوين التي يمكن أن تطاولها المراجعة كثيرة، لكن الأبرز منها هو الوقوف أمام المنطلقات النظرية، التي تناولت مفاهيم التحرر وأدواتها العملية، وبرامج التقدم ومسالكها الاجتماعية، ومطلب الوحدة العربية وممراتها الواقعية، وسبل التحرير وإمكاناتها الحقيقية، ومسائل بناء القوة العسكرية والتوازن مع العدو الإسرائيلي، كتمهيد لا بديل منه، لوضع أسس فعلية لحل الصراع، حلاً تاريخياً، تحضر فيه فلسطين بقوة، وبوضوح وبثبات، وتحدد فيه «القضية اليهودية» ضمن إطار لا يستعيد لغة «الرمي في البحر» أو «شذاذ الآفاق»، وما سوى ذلك من أدب الحماسة العربية. * كاتب لبناني.