عندما بدأت عروض فيلم "ماري انطوانيت" العالمية في الدورة الأخيرة لمهرجان كان، حضرت المخرجة صوفيا كوبولا الى صالة العرض برفقة والديها. الوالد الذي انشغل بتصوير ابنته بكاميرا فيديو عادية ابتعد باصرار عن عشرات الصحافيين الذين أحاطوا به وبابنته راغباً أن تكون الأضواء متجهة اليها وحدها. الأب الفخور لم يكن طبعاً غير المخرج الأميركي فرانسيس كوبولا. صاحب"العراب"و"القيامة الآن"يعتبر أحد أكثر المخرجين الأميركيين شهرة ومن المخرجين الذين بنوا سمعتهم في سلسلة من الأفلام الكبيرة التي أنتجت في بداية السبعينات من القرن الفائت. المشهد المعبر للمخرجة صوفي مع والدها لم يكن فقط لقاء بين جيلين سينمائيين أميركيين، صادف أن تجمعهما قرابة عائلية، بل هو أيضاً احتفال بمخرجة سينمائية موهوبة تتأكد شخصيتها السينمائية مع كل فيلم جديد لها. فيلم صوفيا كوبولا الأول"العذراء المنتحرة"حظي باهتمام نقدي كبير ساهم في جزء منه اسم كوبولا الذي تحمله. مع نجاح فيلمها الثاني"ضاع في الترجمة"لم يعد كثر يهتمون بقرابة المخرجة للمخرج الكبير، بل بالتركيز على الفيلم والاتجاه الذي سلكه في تصوير وحدة مشتركة بطلي الفيلم الأميركيين في مدينة طوكيو. المخرجة نجحت في تحويل الأشياء السطحية التي تحيط ببطلي فيلم"ضاع في الترجمة"والقادمة من عالمها عالم السينما والميدي الى شيء محسوس يزيد من كشف الوحدة وتغرب البطلين. ليست فقط المواضيع هي ما ميز فيلمي صوفي الأخيرين بل اسلوب المخرجة المتمكن والحساس والواعي في شكل كبير بعوالم شخصيات الأفلام واضطرابها النفسي المتكثف والمتحدد بزمن زائل وغير مطمئن. شخصية المخرجة القوية كانت واضحة منذ فيلمها الأول"العذراء المنتحرة"يومها أوحت معالجة المخرجة الشاعرية لقصة الفيلم الغريبة بشخصية سينمائية نافذة لا تتكاسل أمام حلول انتاجية أو اسلوبية جاهزة. فيلم صوفيا كوبولا الثالث والذي يعرض الآن في أوروبا هو أيضاً تأكيد على رغبة المخرجة في انتاج سينما لا تشبه السائد الهوليودي وتؤكد على هوية المخرجة صاحبة العمل. فيلم"ماري انطوانيت"على رغم الاعتراضات عليه قد يكون واحداً من أكثر الأفلام التاريخية جرأة وتميزاً، وقد يؤسس لمنهج جديد لأفلام تتناول قضايا التاريخ وشخصياته البارزة. الفرنسيون الغاضبون على الفيلم والذين وصفوه بالسطحية ومخالفاً الحقيقة التاريخية قد يملكون بعض الحق فالفيلم الذي توقف عند ثورة الجياع الفرنسية والقبض على ماري انطوانيت والملك لم يتعرض لفترة المحاكمة والتي طالت فترة طويلة جداً وفيها تكلمت ماري انطوانيت بصورة علنية ودافعت عن زوجها. داخل الابواب قصص التاريخ الأخرى والتي يقول بعض الفرنسيين ان الفيلم أهملها تبقى قصصاً قد يختلف الكثيرون على حدوثها أو دقتها؟ ما حل داخل الأبواب المغلقة لقصور الملك الفرنسي يبقى في كثير منه الألغاز لأسباب ترتبط بذلك الزمان وتقاليده. ويبدو أنه ليست هناك أدلة خطية أو مرئية كان يمكن للفيلم أن يستعين بها، ما كتب عن الملكة وحياتها واستخدم لنقد الفيلم كتبه أشخاص ومؤرخون نعرف من نماذج"ملكية"معاصرة انه يبقى دائماً موضوعاً للطعن والريبة. ما نجحت فيه المخرجة هو قراءة قصة الملكة"انطوانيت"قراءة نفسية واجتماعية نسوية. فهناك في الفيلم اشارات تؤكد على أن خبرة المخرجة الحياتية قد أثرت في وجهة الفيلم ومقاراباته. هذا الاتجاه المبكر للعمل يجعل تصنيفه كفيلم نسائي ممكناً بل مشروعاً. الفيلم في النهاية يتعاطف مع"ماري انطوانيت"ليس بسبب خطة مبيتة لكنه ينسجم مع معالجته القصة وحياة الملكة. فالأميرة الصغيرة والتي لم يتجاوز عمرها 16 عاماً والقادمة من النمسا لتصبح زوجة لأحد الأمراء قبل أن تصبح ملكة فرنسا، لم تعش حياة عادية لأسباب بيّنها الفيلم بإسهاب. فماري انطوانيت التي أصبحت جزءاً من علاقة سياسية مضطربة بين النمساوفرنسا وجزءاً من علاقات معقدة داخل البيت الملكي الفرنسي عاشت حياة زوجية غريبة وحتى عندما أصبحت ملكة وحظيت بحقوق جديدة بقي عالمها خاصاً متفرداً بعزلته وخصوصيته. الفيلم مرّ على محطات مختلفة من حياة"ماري انطوانيت"مثل ادمانها لعب القمار وصرفها الكثير من أموال الخزانة المتعبة اصلاً، كذلك خيانتها الزوجية مع أحد الضباط الفرنسيين. لم يدن الفيلم تلك التصرفات ولم يرتج التعاطف، بل قدمها كما هي ضمن سياقها الزمني والدرامي والنفسي للشخصية، حتى ان حادثة"لماذا لا يأكلون البسكويت"وهي القصة الأكثر انتشاراً عن الملكة والدليل المستخدم لوصف حماقتها بقي بلا تأكيد ولا نفي حازم، لم يهتم الفيلم بما يجري خارج قصور الفرساي ولم نشاهد أي وجود لناس باريس وفقرائها، فقصور الملكة والناس المحيطون بها هما الحياة الوحيدة التي ملكتها وهي الحياة الوحيدة التي تستحق أن تحاسب عليها. موسيقى حديثة سينما صوفيا كوبولا هي من السينمات القليلة عالمياً، التي يكاد نفس المخرج واسلوبه يكون واضحاً وقوياً على امتداد الفيلم. لفيلم"ماري انطوانيت"اختارت صوفيا كوبولا استخدام أغاني البوب الحديثة كموسيقى مردافة للفيلم! هذه الجرأة الكبيرة نجحت في ابقاء العمل غير فاقد الصلة تماماً بالزمن الحالي وأعطته بذلك طابع المعاصرة الذي تماشى مع ما حاولت المخرجة تحقيقه. شخصية المخرجة الكبيرة تظهر أيضاً في التكرار غير المتردد لبعض الطقوس الحياتية لماري انطوانيت في الفيلم، هذا التكرار كان مهماً لفهم أكبر لتلك الحياة التي يشكل التكرار المنتظم أحد ركائز دوامها. هناك أيضاً كما في فيلمي صوفيا كوبولا السابقين مشاهد جميلة جداً يمكن أن يطلق عليها"الاحتفاء بالجمال الأنثوي الغامض والبريء"، منذ الفيلم الأول تبدو المخرجة مفتونة بتصوير لقطات تقترب من الشاعرية لبطلات افلامها في لحظات حميمية خاصة من حياتهن. بطلة فيلم"العذراء المنتحرة"النجمة كريستين دينست تعود بعد سبع سنوات لتمثل دور"ماري انطوانيت"والمخرجة تبدو واعية بالتطور الذي لحق بالممثلة والمرحلة العمرية التي وصلتها، بخاصة في المشاهد المنفردة التي تصور فيها"ماري انطوانيت"في حدائق بيتها الريفي والتي تذكر بالمشاهد نفسها للبطلة نفسها في فيلم"العذراء المنتحرة"مع اختلاف جوهري يبدو أن مخرجة مثل صوفيا كوبولا قادرة بمهارة على لمسه.