في دمشق، وكنت في حول السابعة من عمري، كانت جارتنا تدندن بعض الأغاني المحلية. لكن لا أذكر اننا حضرنا كعائلة أو كأفراد صغار شيئاً يسمى حفلة موسيقية أو حفلة غناء. بعد وفاة والدي رجعنا من دمشق الى الناصرة سنة 1916. لم يكن جدي لأمي على ما يبدو من عشاق الطرب. لا أذكر انني رأيت أثناء إقامتي في الناصرة أولاً ثم في زياراتي المتتابعة أحداً يغني أو يلعب على العود في البيت. لما استقر بنا الأمر في جنين سنة 1917 الى 1923 كانت الحرب العالمية الأولى لا تزال مشتعلة ولم يكن لدى الناس العاديين رغبة في الغناء أو الطرب. هذا لا يعني أن عدداً من العائلات والأسر كانت بلا حفلات غناء. لكن أنا أتحدث عن الجماعة التي عشت بينها ومنها. لما وضعت الحرب أوزارها وعاد بعض الجنود الى وطنهم وكثرت الاعمال لأن الجيش البريطاني المحتل كان بحاجة الى عمّال، أحس الناس بأن حجراً ثقيلاً رُفع عن صدورهم. ما الذي سمعته في جنين؟ في الواقع أنا الذي سمعته من الغناء كان ما يصلح للدبكة والسحجة في أيام الأفراح والليالي الملاح التي كانت تعقد في ساحات المدينة أو في ساحات أجزاء من المدينة تَبَعَا للعرس الذي يقيمه الشخص. لكن حدثاً واحداً أذكره في جنين سمعت فيه غناء شجياً. جاءت فرقة تمثيلية ومثلت في جنين رواية صلاح الدين تأليف نجيب الحداد. لما مُثلت هذه في القاهرة أصلاً كان المغني فيها سلامة حجازي. وكان سلامة حجازي في ذلك الوقت واحداً من أسياد الغناء في مصر. في هذه الرواية قطعة شعرية جميلة أصلاً. أذكر منها المقطع الأول: "إن كنت في الجيش أُدعى صاحب العَلَمِ/ وأنا في هواكم صاحبُ الألم". لما مثلت الفرقة هذه الرواية في جنين سمعت هذه القصيدة تُغنى غناء جميلاً. لم يخطر في بالي بطبيعة الحال ان المغني هو سلامة حجازي يترك مصر ليأتي يمثل في جنين والناصرة ونابلس وفي القدس حتى. لكن الصوت كان شجياً والغناء كان جميلاًَ وأحسب انه خطر في بالي في ما بعد وبعد سنوات طويلة ان الأغنية الأصلية كانت قد سُجلت على اسطوانة وان الاسطوانة هي التي لعبتها ولو أن ممثلاً كان يجلس على كرسي وبيده عود يحاول أن يدندن عليه ويبدو كأنه يغني الأغنية. هذه واحدة. الثاني كما قلت أغاني دلعونة، مشعلاني وما شابه ذلك. هذه كلها كانت تخص أنواع الدبكة المختلفة. فونوغراف وبيانو سنة 1921 دخلت دار المعلمين. خليل طوطح، مدير الدار، كان يُعنى في شؤون الطلاب خارج الصفوف التعليمية عناية اجتماعية فيها صداقة. أراد يوماً من الأيام أن يفاجئنا. جاء بشيء اسمه فونوغراف ووضعه في قاعة كبرى في يوم من أيام الخميس مساء وهو الذي لا يعقبه تعليم ولذلك يمكن أن يصغي إليه من يريد من الطلاب. كانت هذه الآلة غريبة عليّ، صندوق وعليه بوق متسع وعلى البوق صورة كلب يصغي اصغاء جيداً. أحسب ان غيري من الطلاب وهم أكبر مني سناً ولعلهم جاؤوا من مجتمعات أرقى من المجتمعات التي جئت منها لا بد من أنهم سمعوا غناء. لكن أنا نظرت الى هذه الآلة فإذا بها تصدح"كم بعثنا مع النسيم سلاماً"لأم كلثوم. وكانت أم كلثوم في بدء حياتها الغنائية يوم كانت تغني قصائد جميلة. ثم أراد الدكتور خليل طوطح أن يُدخل ثقافة موسيقية الى دار المعلمين فابتاع بيانو صغيراً وجاء بمدرس للموسيقى نمسوي الأصل كان يقيم في القدس. يبدو ان الرجل كان معروفاً في أوساط البلد على انه موسيقي. أما بالنسبة إلي أنا فكان الأمر جديداً. يكاد يكون كل شيء أمر به في ذلك الوقت جديداً بالنسبة إلي. جاء هذا الرجل وجاء البيانو. تقدم الذين يريدون ان يتعلموا الموسيقى وبدأ التعليم لكن هذا التعليم ليس حفظ قصيدة وليس كتابة مقالة. انه شيء يحتاج الى صبر وعناية واهتمام. ولذلك الذين سجلوا أسماءهم ليتعلموا البيانو لم يكونوا في الواقع جادين وأدركوا ان هذا المعلم الأجنبي ضيق الخلق ولذلك بدأوا"ينكرزونه". وأذكر في أمسية من الأمسيات انه قام ولبط البيانو الصغير فكاد يكسره وخرج لا يلوي على شيء. ولم يودع أحداً لا من الطلاب ولا من سواهم. وكان هذا آخر العهد في محاولة إدخال ثقافة موسيقية الى دار المعلمين. في هذه الأثناء كنت أقضي العطلة الصيفية في الناصرة في ضيافة جدي لأمي لا أذكر انه كانت هناك حفلات غناء نُدعى اليها. دعينا الى حفلات خطابية كثيرة وأكثر من هذا فكرنا نحن بعض الشباب المبكر أن نحوّل رواية"خليل الكافر"لجبران خليل جبران الى تمثيلية ونمثلها في الناصرة لكن المشروع لم ينجح. عكا 1925 السنة الأولى من عملي في التعليم كانت في ترشيحا. هناك تعرفت الى شباب كان منهم من يحسن الغناء فكنا أحياناً نستمع له، لكن هذا كان على الماشي. سنة 1925 نُقلت الى عكا وقضيت فيها عشر سنوات. في عكا بدأت أحضر حفلات غنائية. حفلات للرجال فقط كان الأساس فيها اللعب على العود. كان المغني يغني وهو يلعب على العود والباقون يطيبون له ويشربون. لا أذكر اسماء الذين سمعتهم يغنون. لم يكونوا أكثر من عدد أصابع اليد ولم تكن هذه الحفلات التي ذكرتها متعددة ولا كثيرة، كانت مجموعة من الشباب يجتمعون فإذا كان لي بينهم أصدقاء دعوني اليها. ولم تكن أوقاتي تسمح لي بالكثير من القبول لهذه الدعوات لأنني كنت أعد الدروس في المساء كي أعلمها في صباح اليوم التالي لمدة سنة أو سنتين. لكن في عكا كان لي أصدقاء أجانب منهم من كان يلعب البيانو ومنهم من كان يحسن اللعب على الكمنجة. وقد أعجبت بالآلة الموسيقية وصوت الموسيقى سواء كان ذلك على أساس العود أو الكمنجة أو البيانو، لكن لا يمكن القول انه تكوّنت لدي ثقافة موسيقية. كانت لقطات من هنا وهناك. أذكر ان إحدى الأسر الأجنبية جاءتها ضيفة أقامت عندها بضعة أيام وكانت تجيد لعب الكمنجة. وفي ليلة أقامت حفلة خاصة ودُعيت إليها أنا ولم يكن مدعو من خارج أهل البيت سوى أربعة أو خمسة. أعجبني لعبها على الكمنجة وأذكر الى الآن انني كتبت رسالة الى إسحق فانوس وصفت فيها الحفلة وقلت له فيها لا أدري هل كانت تلعب هذه على الكمنجة أم ان قلبها كان هو الكمنجة. لكن كما قلت كل هذه كانت من هنا وهناك. إنما بدأ شعوري يتجه نحو الآلة الموسيقية في الدرجة الأولى أكثر من الغناء. في سنة 1935 ذهبت الى لندن. وقضيت أربع سنوات منها تسعة أشهر قضيتها في ألمانيا. أنا في لندن كنت أحضر أمرين حضوراً منتظماً: المسرح والحفلات الموسيقية التي فيها آلة في شكل خاص. والأمر نفسه كان يجري معي في ألمانيا. يمكن أن أقول ان شيئاً من الذوق أو الحس الموسيقي نما عندي في هذه الفترة. خطر لي أن أتعلم لعب البيانو. كنت أسكن عند أسرة في لندن وكان ثمة معلم للبيانو بيته عبر الشارع من البيت الذي أسكنه. ذهبت اليه وطلبت منه ان يعلمني فقال لي الفترة الأولى كانت 12 ساعة وتدفع لي الرسم مقدماً. دفعته. لكنني بعد ثلاث أو أربع ساعات من الدرس أدركت ان هذه الساعة الواحدة بحاجة الى تمرين لا يقل عن ثلاث ساعات أو أربع وهذا الوقت لم يكن في إمكاني أن أصرفه على الموسيقى. فأنا طالب وكان همي أن أتعلم اللغة الانكليزية فضلاً عن متابعة الدروس في كلية الجامعة جامعة لندن. تركت التعلم جانباً وسامحته بالنقود ولم أجرب بعد ذلك تعلم اللعب الموسيقي لكنني ظللت أطرب للآلات الموسيقية الثلاث: العود والكمنجة والبيانو. وأنا أحب أن أسمع موسيقى بهذه الأشياء من دون أن يصحبها غناء بقطع النظر عن اللغة التي يُغنى بها. عدت الى فلسطين وسكنت القدس ثماني سنوات. كانت أجمل الحفلات الموسيقية هي التي كانت تقام في جمعية الشبان المسيحية في مبناها الجديد الكبير. وكنت أحرص على أن أحضرها. كانت تقام فيها حفلات عربية بالعود وأجنبية بالبيانو والكمنجة. لكن ظللت بالنسبة الى هذا شخصاً متأثراً بالموسيقى ولم أغطس في تعلمها أو دراستها. كنت أطرب وكنت أعجب وكنت أتلذذ وكنت أتخيل وكنت أتصور لكنني ما جربت يديّ ولا أصابعي في أي آلة بعد تلك المحاولة التي بدأتها في لندن. عدنا الى لندن أنا وزوجتي مرغريت وابني رائد في هذه المرة سنة 1947، بمناسبة وجودي مع أسرتي ولأن ابني رائد مرض اضطررنا ان نحتفظ به في البيت بضعة شهور. في أول الأمر لم يكن ثمة مجال في مثل هذه المناسبات كي أحضر الحفلات الموسيقية وحتى المسرح الذي كنت مغرماً به وحضرت فيه الكثير من قبل لم أذهب اليه سوى بضع مرات. كنا مسؤولية عائلية ومسؤولية ودرس وعمل. وفي بيروت جربت ألا أفوت حفلة موسيقية أو غنائية وخصوصاً الغناء الشعبي الزحلي. أنا أطرب له كثيراً. لكنني الآن قلما أسمعه لأن أذني لا تساعدني على ذلك. لكن استعيض عن ذلك بتذكر ما مر بي. وأطرب لذلك. { ترك المؤرخ نقولا زيادة 1907 - 2006 في مكتبته في بيروت ملفاً كتب عليه"مقالات للحياة". هذه المقالات غير المنشورة ننشرها تباعاً.