وضعت الأوراق أمامي لأكتب مقالاً عن هذا الكتيب الصغير وتاريخه، فإذا بجريدة "السفير" تُحمل إليّ وفيها كتاب الشهر وهو "معروف الرصافي - على باب سجن أبي العلاء". وأنا معجب بالاثنين فأخذت الكتاب فإذا ثمة مقدمة عن معروف الرصافي وضعها محمد علي الزرقا، بغداد في 1946/12/19، قرأتها فوقعت فيها على العبارة التالية: "وطبع له في القدس مجموعة أناشيد مدرسية نظمها الشاعر في أوقات مختلفة". ذكرتني هذه العبارة بمواقف كثيرين ممن يمسكون القلم ويشار اليهم في الهامش كاتب أو صحافي أو أستاذ فلسفة أو مؤرخ، ولكن عند الحاجة لا يمتنع الواحد منهم عن أن يضع للقضية أو للحادثة تاريخاً من هذا النوع لهذا الكتاب. أنا أعرف تاريخ هذا الكتيب بالضبط. كان معروف الرصافي في سنة 1920 أستاذ اللغة العربية وآدابها في دار المعلمين بالقدس. ترك في مطلع 1921 إذ دعي الى العودة للعراق فلبى النداء ليقوم بدوره في بلده بعد انشاء الملكية هناك. كان مدير دار المعلمين الدكتور خليل طوطح يجيد لعب البيانو، وله، كما يقولون، إذن موسيقية، وكان يعنى بالنواحي التهذيبية في دار المعلمين. اقترح طوطح على الرصافي أن ينظم شعراً يتسق مع أنغام موسيقية. بل انه ركز اقتراحه على قطع موسيقية لها دلالات سياسية أو اجتماعية وكان بين ما تم الاتفاق عليه أن ينظم الرصافي شعراً يتفق الى درجة ما مع ما هو موضوع أصلاً بالانكليزية مترجم اليها. فكانت هناك قطعة على نغم المارسيليز وهو النشيد الوطني الفرنسي، مطلعها أوطاننا وهي الغوالي - أرواحنا لها ثمن. ونظم قطعة غنائية على أساس الأنشودة المعروفة باسم سانتا لويزا. وهناك سواهما، لكن النشيد الأول في الكتاب هو نشيد دار المعلمين. طبع الكتاب في القدس كان يحتوي على النص الشعري للرصافي والنوطة الموسيقية رسمها خليل طوطح وزوجته الأميركية، ومقدمة قصيرة بعنوان "كلمة مستجيد لناظم هذه الأقاصيد" لإسعاف النشاشيبي. كان الكتاب صغيراً لكنه كان يحتوي على عدد من القطع الشعرية الأنيقة هي كلها من وضع الرصافي. في أيلول سبتمبر 1921 دخلت دار المعلمين بالقدس طالباً داخلياً. كان خليل طوطح مديراً لدار المعلمين وظل على رأس المؤسسة مدة دراستي فيها التي انتهت سنة 1924. أما الرصافي فكان بالنسبة إلي اسماً. أعطى كل منا - الطلاب الجدد - نسخة من الكتيب وثمنه خمسة قروش مصرية كان النقد المصري هو الذي استعمل في فلسطين بعد الاحتلال البريطاني، وظل رسمياً حتى سنة 1927 إذ أصدرت حكومة فلسطين نقداً خاصاً بالبلاد - لكن سمح للناس أن يستمروا باستعمال النقد المصري الى سنة 1928، إذ عندها يكون القوم قد بدلوا ما معهم من نقود مصرية. كانت الأنشودة الأولى، بطبيعة الحال، نشيد دار المعلمين والمقطعان الأولان منها، وما زلت أذكرهما، هم: "أوطاننا وهي الغوالي/ أرواحنا لها ثمن/ وانما أحيا المعالي/ من مات في حب الوطن". "دار المعلمين لا/ زلت مقراً للعلا/ فإن داء الجهلا/ تشفيه من تخرجين". وما أكثر ما شفت دار المعلمين وخليفتها الكلية العربية بدءاً من 1927، من الجهل. لا أذكر بقية النشيد. وقد ظل الكتاب أو الكتيب عندي مدة طويلة. وأذكر انه لما أصبح اسعاف النشاشيبي مفتشاً رئيسياً الى جانب خليل السكاكيني للغة العربية، في مدارس فلسطين، وكنت أنا أعلم بعكا 1925 - 1935 تحدثت اليه مرة عن هذا الكتيب فأظهر سروراً كبيراً لأنني تذكرت عنوان المقدمة - كلمة مستجيد مجامع هذه الأناشيد. كان بين القطع الوطنية تلك التي نظمت على وزن المارسيليز، على ما ذكرت. في مدرسة عكا الثانوية اعتدنا أن ننشد كل صباح أنشودة وطنية. بلاد العرب أوطاني، أيها الملك العظيم الخ. وكنت أنا معجباً بعبارة الرصافي في قصيدته هذه. فعلمتها للتلاميذ، فكانت تنشد على قدر الحال في أوقات مختلفة. حدث ان الإدارة - القائمقام - أراد أن ينظف مدخلاً كان قد نقب في سور عكا الشمالي، وترك على حاله" وكان من المألوف أن يعهد الى المساجين القيام بهذا العمل. فجاءت فرقة منهم وكان يشرف عليها رجال شرطة ومعهم واحد بريطاني. لما أنشدنا أوطاننا وهي الغوالي: ... تنبه الى النغم، وظن اننا ننشد ترجمة للمارسيليز - النشيد الوطني الفرنسي في بلد يقع تحت الانتداب الانكليزي. حوالى الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم استدعاني مدير المدرسة لمقابلة ضابط بريطاني في شرطة عكا. المراقب على العمال نقل الخبر، كما ظنه، الى رئيسه، وهذا اهتم بالموضوع وأصل ضابطاً الى المدرسة ليحقق في الأمر. رويت له القصة كما هي وطلب مني الكتيب. أحضرته معي في اليوم التالي. طلبت الى مديرية شرطة عكا. أوضحت لهم نهج الكتاب الكتيب بكامله، وأشرت الى قطع أخرى مع نوطتها الموسيقية. وطلب ترجمة للأنشودة العربية، فترجمتها بقدر ما كانت لغتي الانكليزية تسمح يومها. وانتهى الأمر بأن اقتنع مدير الشرطة الكابتن بربانت بالتبرير، وأقفلت القضية. لكنني ربحت صحبة هذا الضابط، الذي كان يسألني عندما يلقاني وعكا صغيرة والالتقاء فيها متيسر فيما إذا كنت مستعداً لخلق مشكلة تشغلنا لأننا لا نعرف العربية. هذا الخبر كتبته أنا قبل سنوات ولكن لا أظن ل"الحياة". على كل ليس الأمر نقلاً عن ذلك المقال. ذلك كان بخصوص النشيد فقط، أما هذا فهو تاريخ صحيح للكتيب. وأول صلة أدبية بالرصافي، الذي قرأت له كثيراً من المسموح والممنوع. ذكريات عمرها بالنسبة إلي نحو ثمانين سنة، فأنا بلغت السابعة والتسعين يوم 2 كانون الأول ديسمبر سنة 2004 .