يتمنى الأكراد في كل مكان أن يكون وصف"العصابة"الذي أطلقه رئيس الوزراء الفلسطيني اسماعيل هنية على قوات الفدائيين الأكراد البيشمركة زلة لسان أو نتاجاً لنقص معلوماتي يمكن تعويضه بالعودة إلى مراجعة الذات وتقويم الرأي من خلال التزود بما يعين على إعادة التوازن الى الميزان الفكري الذي جعل ممثلاً رفيع المستوى للثورة الفلسطينية يطلق من دون مبررات وصفاً شنيعاً ومستهجناً على قوات كردية دخلت المعجم السياسي النضالي العالمي كرافد لمكافحة الظلم والطغيان والتمرد المشروع على نظام القهر والقمع في بغداد، وهي القوة التي برهنت أن هويتها النضالية بقدر ما هي كردستانية، فهي عراقية أيضاً، وبدا ذلك من دورها الأساسي والمحوري في اسقاط الديكتاتورية في العراق. إن"البيشمركة"، وتعني بالعربية الفدائي أو الإنسان المتأهب للموت من أجل قضية عادلة لا تقل قيد شعرة عن عدالة القضية الفلسطينية، هي قوة تتمتع في الضمير الجمعي الكردي بأسمى معاني الشجاعة والبطولة والنبل واقتحام الصعاب واستصغار ملذات الحياة والزهد فيها لأجل شعب تواق إلى الحرية. إن الأمر يهون لو أن رئيس الوزراء الفلسطيني انتقد موقفاً كردياً معيناً أو تحفظ على هذا القيادي الكردي أو ذاك، فذلك من سنن الحياة ومن بديهيات الاختلاف في الآراء والتنوع في طبيعة النظرة إلى الأمور السياسية. أما أن يلجأ الى تخوين وتحقير خميرة الثورة الكردية وحامل همومها ومعاناتها، فإن ذلك أمر عسير على الفهم وعصيّ على الهضم، ولا يمكن للإنسان الكردي في كل مكان إلا أن يضعه في خانة تجاهل حقيقة الثورات وتجارب الشعوب الأخرى التي لا تقل مكانة ومنزلة عن تجربة الشعب الفلسطيني الذي يتحدث اليوم اسماعيل هنية باسمه. فالثورة كفعل تمرد إنساني مشروع والمقاومة كمشروع لإدامة وجود وتنمية الشعوب هما سجل عامر بالمآثر الثرية، وهما تاريخ تراكمي مكتنز بالعبر والتجارب وليستا ابتكاراً من حركة"حماس"التي يبدو أنها لم تقرأ التاريخ أبداً، لذلك تراكم الأخطاء والخطايا على الساحة الفلسطينية وتأتي الآن لتشويه نضارة الثورات الأخرى ومنها الثورة المستديمة للشعب الكردي الذي يعيش قاب قوسين أو ادنى من الشعب الفلسطيني. إن مصطلح"بيشمركة - فدائي"ولد عام 1946 ابان قيام جمهورية"مهاباد"الكردية في كردستان إيران وظلت هذه اللفظة في القاموس السياسي الكردي تعني الثبات والطهارة والنقاء الثوري والمقاومة ورفض الخنوع والاستسلام، مثلما تعني البعد الكلي عن العمليات الانتحارية والسيارات المفخخة وخطف وقتل الأبرياء والمدنيين أو تدمير البيوت وتلويث سمعة ثورة تهدف بالاساس إلى الخلاص من القمع وانتزاع الحرية. لذلك لم يسجل على قوة الفدائيين الأكراد منذ تفجيرها لأكبر ثورة كردية في 11 أيلول سبتمبر 1961 في كردستان العراق أي حادث إرهابي بالمعنى المتعارف عليه اليوم، وعلى رغم فظاعة الجرائم التي ارتكبها النظام السابق والتي وصلت حد الإبادة الجماعية. لم يلجأ الأكراد وقوة"البيشمركة"الى مواقف انتقامية ثأرية تجاه الإخوة العرب والعراقيين عموماً، وظل نضالهم وتثقيفهم المعنوي موجهين فقط ضد الأجهزة القمعية للنظام العراقي السابق واحتفظوا بردة فعل عقلانية على لاعقلانية النظام الديكتاتوري الذي دخل الذاكرة الكردية بجرائم تسجل في التاريخ كمحطات عميقة الأثر تترك تداعياتها الكارثية المعنوية على أجيال بكاملها، ومنها جرائم أصبحت"ماركة"مسجلة، ونعني لجوء نظام صدام حسين الى قصف مدينة حلبجة الكردية بالسموم المدمرة للإنسان والبيئة، وحينها صرح أقطاب النظام السابق - بحق - أن اتفاقية جنيف لعام 1925 حول تحريم السلاح الكيماوي لا تنطبق عليهم. لأن الاتفاقية المذكورة تطرقت لحالات قصف"العدو"وليس قصف نظام لشعب بلاده، فالمشرع الدولي لم يكن قد تخيّل هذه الحالة الفريدة في التاريخ. فهل يمكن اطلاق وصف"عصابة"على مقاتلين وضعوا أرواحهم على أكفهم لحماية شعب ونصرة قضية هي واحدة من أعدل قضايا التحرر في العالم، ومع ذلك فقبل اسماعيل هنية كان كاتب فلسطيني آخر سمى فاجعة حلبجة"قميص عثمان"وتوج كاتب فلسطيني آخر حصيلة مخزونه المعلوماتي القاصر بالقول إن الأكراد عملاء ولا شأن لهم في هذه الدنيا الا انشاء"اسرائيل ثانية". وربما يكون مألوفاً ان يتقبل الأكراد سهام النقد من بعض الكتاب العرب على امتداد رقعة العالم العربي، ولكن أن يكون رمي السهام هذه المرة من قبل رئيس الوزراء الفلسطيني فانها الطامة الكبرى، لأن تخوين الفدائي الكردي يعني ضمناً تخوين الفدائي الفلسطيني فالطغيان واحد سواء كانت هويته اسرائيلية أو عربية. فالقاتل لا يحدد أو يعرّف حسب الانتماء الديني أو القومي، كما يرى المسؤول الفلسطيني، بل وفق طبيعة الفعل الجرمي الذي ارتكبه، ولذلك فإن صدام حسين سواء كان عربياً أو كردياً وسواء كان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً فهو مجرم وديكتاتور وفق معايير القانون الجنائي الدولي، اما المقاتلون الأكراد فهم الحصن المنيع الذي أجهز على فيضان الحقد الشوفيني وكانوا رأس الرمح لحماية ليس الأكراد فحسب وانما كل العراقيين الأحرار الذين أحرقت نيران الديكتاتورية أصابعهم فلجأوا منذ عام 1963 الى جبال وسهول كردستان المحررة. سيكون مفيداً ان نقول لاسماعيل هنية ان اول طيار سقط شهيداً في سماء تل ابيب عام 1967 كان كردياً اسمه حسين بيداوي ونذكره ايضاً أن بارزاني الراحل اوقف كل العمليات العسكرية ضد الجيش العراقي عامي 1967 و1973 كي يتفرغ لمهامه في الساحة الفلسطينية، وان دماء اكراد سورية نزفت بغزارة على التراب الفلسطيني. ولو راجع المسؤول الفلسطيني الرفيع المستوى سجلات المقابر الفلسطينية سيدرك حجم التضامن الكردي مع شعبه، اما لو نبش اسماعيل هنية في ارشيف كل الأحزاب الكردستانية وقصائد بعض الشعراء الاكراد ومنهم رائد الشعر الكردي المعاصر كوران الذي كتب منذ الخمسينات من القرن الماضي قصيدة"أخي العربي الاسود العينين"، فإنه سيحتاج لأيام لقراءة كل تلك البيانات والتصريحات التضامنية التي لا يمكن ان تصدر عن"عصابات"، بل عن فصائل ثورية كردية ادركت منذ البدء ان الحرية لا تتجزأ وأن هويتها واحدة. ان كل من يدافع عن حريته وينكرها على الآخرين فإنه يبقى عاجزاً عن فهم أبجديات الثورة وانني استحضر الآن كلام الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أواخر سبعينات القرن الماضي في صوفيا عاصمة بلغاريا وكان كاتب هذا المقال حينذاك طالب دراسات عليا في مجال القانون الدولي العام حين زار الزعيم الفلسطينيالمدينة الجامعية وقال في ندوة سياسية ان ملايين الأكراد في العراق هم قوة دعم وتضامن اضافية للشعب الفلسطيني، فأين منطق اسماعيل هنية من منطق عرفات الذي دخل الوجدان الفلسطيني وسكن فيه، مثلما دخل بارزاني الراحل، وهو بالأساس مقاتل كردي، في وجدان شعب كردستان؟ ان حركة"حماس"الفلسطينية لن يعيبها اذا راجعت آليات عملها السياسي والاعلامي فالذين انتخبوها يطالبونها الآن بالعقلانية والنضوج لأن مناخ فنادق السلطة يختلف كلياً عن مناخ خنادق الثورة ولكل مرحلة شروط وفروض يعني عدم التمسك بها الانتحار الذاتي. وبانتظار ان يراجع اسماعيل هنية تصريحاته التي اطلقها يوم 6 / 10 / 2006 والتي نكأت جراح الأكراد، أتوجه للشاعر الفلسطيني المبدع محمود درويش ان يعيد الى"أعماله الشعرية الكاملة"قصيدته الرائعة"كردستان"التي كتبها عام 1965 وانتشرت بين الأكراد حينها انتشار النار في الهشيم. فقد قرأت الأعمال الكاملة للشاعر ولم اعثر - بكل أسف - على هذه القصيدة، اذ لا يصح ان يخضع لمنطق النظام الرسمي العربي فهو شاعر المقاومة التي تتوزع عناوينها في فلسطين وكردستان وكل بقعة تعاني من حرائق القمع وخرائب الظلم. ختاماً نقول ان عراق صدام حسين انتهى وعقارب الساعة لن تعود الى الوراء، والعراق الجديد الآن برئيس كردي هو جلال طالباني الأكثر تضامناً وانصافاً للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة من ديكتاتور عربي ما زال وهو خلف قضبان السجن يتاجر بالقضية الفلسطينية. * كاتب كردي