علاقة المثقف مع الحاكم، علاقة ملتبسة على مر العصور، فيها منافع وولاءات وميول، فكرية وثقافية، والمأساة، ضمن تلك الفصول، تغلب احياناً على ما عداها، فالمغريات ضخمة، مثلما ان المغامرة قد تقود الى الموت او الفضيحة، والتمثلات لا تحصى، اذ كشفت قضية الروائي المصري جمال الغيطاني، واتهامه بكتابة رواية "زبيبة والملك"، المنسوبة الى الرئىس العراقي المخلوع صدام حسين، الازمة الكامنة بين المثقفين العراقيين وعدد من المثقفين العرب، ممن ربطتهم علاقات معينة مع النظام، او دافعوا عن توجهاته السياسية وحروبه. الازمة تلك، لا علاقة لها بالابداع، والرؤية الثقافية. الاختلاف والتشنج وتبادل الاتهامات، مردها الى خلفيات سياسية، او على وجه الدقة، الموقف من الانظمة العربية الحاكمة. سقط نظام صدام حسين وبدأت الاوراق السرية لثلاثين سنة من حكم البعث في العراق تظهر الى العلن. المؤتمر الوطني العراقي وضع يده على ارشيف وزارة الاعلام العراقية، ويحتوي على كل الصحف والمجلات التي كان النظام يمدها بالأموال كي تروج لوجهة نظره، وتدافع عن سياسته القائمة على البطش والارهاب وقمع حرية الرأي وتهميش الثقافة الجادة ودفع المثقفين العراقيين والمفكرين الاحرار الى الهروب نحو المنفى، وتبرير الحروب المغامرة بأبشع الذرائع عنصرية وفجاجة. وفضلاً عن الدفوعات المالية للصحف والمجلات، تكشف ان عدداً لا يستهان به من المثقفين العرب والصحافيين، وبعض ذو مكانة مرموقة في عالم الثقافة، يقبضون مرتبات شهرية من سفارات العراق، عدا المنح المناسباتية التي اثروا من ورائها. وقضية جمال الغيطاني، لم تكن الاولى في ملف الثقافة العراقية، ومعاركها السياسية ضد النظام، سبق ذلك الكثير، تركزت كلها على رفض المثقفين العراقيين لأي مثقف عربي يتعامل مع نظام صدام حسين، لا يهم ان كان مبدعاً كبيراً او صغيراً، بل ان العتب اجلى وأضخم على المبدعين العرب الكبار، فالأعظم بينهم هو الذي احتل مساحة الحديث او النقد والادانة. السوري شوقي بغدادي، دعي قبل سنتين الى امسية شعرية في المنتدى الثقافي العراقي في دمشق. تكلم عن معاناة المثقفين العراقيين مع النظام الديكتاتوري ورأسه صدام حسين، فوجئ المثقفون اياهم بسفر شوقي بغدادي الى آخر مؤتمر للمربد، ملبياً دعوة وزارة الثقافة العراقية، متمثلة برموزها المعروفين حميد سعيد وسامي مهدي ورعد بندر، "شاعر ام المعارك"، ومتهم الروائي الكبير جمال غيطاني بكتابة "زبيبة والملك"، وعبدالرزاق عبدالواحد. خصصت له سيارة، من قبل وزارة الثقافة العراقية، هو ويوسف الخطيب. القصائد التي ألقيت كانت آخر طراز لنصرة الشعب العراقي الذي رقد تحت عباءات الغازات الكيماوية في حلبجة والنفط خالة وأهوار الناصرية. مداميكها، ومفرداتها، من عظام الشعب العراقي الذي رقد بسلام، قبل سنوات طوال، في مقابر جماعية. صحافيون وشاعرات جميلات وأشباه روائيين ظلوا حتى اللحظة الاخيرة يتبجحون بانتصاراتهم على خمسة ملايين عراقي في الشتات وعشرين مليوناً كانوا، كما اخبر الرواة، يضعون اكفهم على قلوبهم خوفاً من موت جورج دبليو بوش، قبل ان يطيح صدام حسين. حدثت طرائف وفضائح في هذا المجال، ابطالها لا يزالون يعيشون بيننا في الساحتين العربية والعراقية. ولعل مشاركة الشاعر الكبير محمود درويش في مربد 1986، ظلت خير مثال على ذلك. الحرب مع ايران كانت في اوجها، وطاحونة الموت قائمة، لا على الحدود الايرانية - العراقية فقط، انما في الداخل العراقي. حزب الدعوة اقتلع من جذوره، الشيوعيون صاروا وباء في انوف اجهزة النظام، الاكراد جربت فيهم آخر منجزات التصنيع العسكري، بقيادة حسين كامل، الذي جز رأسه من قبل علي حسن المجيد. جاءت مشاركة محمود درويش مؤلمة للمثقفين العراقيين الذين دافع ووقف درويش معهم، ومع نضالاتهم في اقامة حكم وطني، وثقافة وطنية لا تمجد احداً، كل ذلك في اوقات ماضية من ازقة بيروت وتل الزعتر ومخيمات الفلسطينيين. العراقيون، مثقفين وقراء، يكنون لدرويش مودة استثنائية من بين الشعراء العرب، فهو ليس شاعراً فقط، بل مدافع عن حقوق شعبه الفلسطيني. مجدد القصيدة العربية، ساحر الكلمات، مغني احمد العربي في بغداد، كيف اذن؟ شن المثقفون العراقيون هجوماً واسعاً على درويش، سواء في مجلة "الثقافة الجديدة" التي يديرها الحزب الشيوعي العراقي، او في الصحف العربية، منطلقين من ان درويش، رمز مقاومة الصهيونية والارهاب الاسرائىلي، والشاعر الذي تتجسد فيه قيم النضال الفلسطينية التي دعمها ولا يزال معظم مثقفي العراق، لم يوفق بتغزله بقمر بغداد المطل على البصرة؟ الفترة ذاتها، شارك الشاعر السوري الكردي سليم بركات في احد المرابد. الشاعر العراقي خالد المعالي المقيم في ألمانيا، الذي عانى ما عاناه في اروقة الأمن، وأسس دار الجمل لاحقاً، وجّه له على عنوانه في قبرص، وكان سليم وقتها سكرتير تحرير مجلة "الكرمل"، طرداً بريدياً مملوءاً بالعظام. حكم قاس يطلقه المثقفون العراقيون، بحق او من دونه، على كل من يمد يده الى النظام. فالعلاقة مع النظام العراقي معضلة. قضية دالة، لم يساوم عليها اي مثقف، سواء من اليمين او اليسار، من الاكراد والعرب والتركمان او غيرهم، ممن يعيشون خارج العراق. بل في داخل العراق. روى محمد مظلوم، الشاعر العراقي الذي غادر بغداد في 1991 انهم كمثقفين وشعراء طالما دانوا المثقفين العرب في خلواتهم، بسبب مجيئهم الى المرابد او المهرجانات. دانوهم بصمت طبعاً، فمايكرفونات الاستخبارات مزروعة في كل فندق وقطار وحافلة. كيف تأتون الى بغداد وخيرة مثقفيها مطاردون؟ ظل معيار المثقف العراقي مع رديفه العربي، شدة عدائه للنظام البعثي في العراق. قضية الابداع كانت تأتي في المقام الثاني. لا يهم ان كان محمد عابد الجابري عبقري الفكر العربي، وجمال الغيطاني فذّ الرواية التراثية، وجمال باروت مفكر القومية المخلّد، وميشيل كيلو داعية للمجتمع المدني في سورية، اذ ان قسوة الساحة العراقية لم تترك اي هامش امام المثقفين، فكل من بقي تحت جناح السلطة اجبر او اغري على التعاون معها، او صمت على الاقل. كل من لم يقبل ذلك سافر خارج العراق، بطرق سوريالية، حفاظاً على حياته وابداعه. كثير من المثقفين العرب كانوا يقيّمون النظام العراقي ليس على اساس عقلاني، فثمة اتجاهات تجعل منه حارساً للبوابة الشرقية، اي ضد ايران الفارسية الطامعة في ارض العروبة، وتجعل منه بطلاً قومياً سيقيم دولة عظيمة تهدد اسرائىل، ألا يمتلك برنامجاً لصنع قنبلة نووية؟ ألا يصنع الانثراكس والسيانيد والمحاليل الكيماوية والقنابل البيولوجية؟ وصفوه في مصر وسورية والمغرب بالمستبد العادل، الذي جلب البحبوحة المعيشية للشعب، وجعل من العراق مصدر رزق لملايين العالم العرب، المصريين منهم خصوصاً، إضافة الى ان السلطات العراقية كانت في الحقيقة تغدق الاموال والهبات على اي مثقف عربي يزور بغداد حتى لو كان يختلف قليلاً في الرأي معها. وقف قسم من المثقفين والصحافيين العرب مع العراق بفجاجة في حربه مع ايران، وحادثة توزيع النظام لسيارات خاصة لبعض الصحافيين معروفة، خصص كذلك رواتب لقسم منهم، لم تتوقف حتى سقوطه. النظام لا يطلب من المثقف العربي اكثر من بيان تأييد للقائد، او اشادة بحروبه واضفاء مشروعية عليها، او على الاقل السكوت عن مظالمه. فخ محكم، لم يسقط فيه إلا طلاب الجعالات. في كتاب مهم اسمه "حوارات مع المثقفين العرب حول القضية الكردية"، للكاتب الصحافي سالار اوسي، ذكر ان بعض المثقفين العرب الذين اتصل بهم للادلاء بدلوهم في الموضوع رفض المشاركة. فسر اوسي الرفض بخوف المثقفين العرب من الجهر برأيهم حول قضية شائكة كالقضية الكردية. ألم يتهم البارزانيون في السبعينات باقامة صلات مع اسرائىل؟ ألم ينتفض الاكراد ضد نظام صدام حسين ابان الحرب مع اميركا؟ ما هي الفيديرالية؟ انها تقسيم العراق! الوطن العربي آلة مصمتة لا تضم بحسب آرائهم النقية لا الامازيغ ولا الاكراد ولا الاقباط ولا الشركس ولا الاحيائيين في السودان ولا السواحيليين ولا الطوارق ولا ولا ولا؟ كلا فنحن أمة مصمتة، اسسها ميشيل عفلق، ونظّر لها، شعراً، سليمان العيسى، تمرد عليها ادونيس ومحمد شكري الامازيغي وشيركو بيه كس الكردي. بطلها صدام حسين، قائد أم الحواسم والمعارك والتشرينات والقوميات، وكاتبها الأوحد، متنبينا، الذي كتب ترنيمة الطفولة: بلاد العرب اوطاني، من الشام لبغدان. كانت القضية الكردية واحدة من نقاط الخلاف مع المثقفين العرب، القوميين بالذات. المثقفون القوميون، كعبدالرزاق عيد وجمال باروت ويوسف القعيد والغيطاني وميشيل كيلو وعبدالباري عطوان ومئات غيرهم، يعتبرون اي تأييد لحقوق الشعب الكردي في الفيدرالية، خصوصاً، تهديداً لوحدة العراق، وتقسيماً له. ظلت المعارك مشتعلة على صفحات اخبار الأدب، بعد ان قام مئات المثقفين العراقيين والعرب بزيارة كردستان العراق للاحتفاء بمئوية الجواهري، ونصب تمثالين له في مدينة السليمانية وأربيل. كيف يحتفل المثقفون العراقيون والعرب بالجواهري، شاعر العرب الأكبر، في مدن كردية؟ لمَ لا يتم الاحتفال في بغداد؟ وهذا سؤال يوسف القعيد، القاص والروائي المصري الذي يعرف اكثر من غيره ان قائمة عدي صدام حسين، نقيب الصحافيين ورئىس اللجنة الاولمبية وقائد منظمة فدائيي صدام ورائد الرفق بالحيوان في العراق، كانت تضم اكثر من ثلاثمئة مثقف وفنان، رقابهم لن تصمد امام سيفه، وألسنتهم أرق من أن تقطع. كيف يحتفلون بالجواهري في عاصمة الرشيد اذاً؟ السوريالية العربية في بعدها القومي وحدها تعرف ذلك. الاحتفاء بالجواهري في كردستان العراق التي غنى مآثرها، عد تمهيداً للانفصال، او على الاقل تأييداً للروح الانفصالية الكردية. ان الحصار الذي عاناه الشعب العراقي، وليس النظام، لامس ضمير كبار الكتّاب والمثقفين والصحافيين، ودعا الجميع الى رفع ذلك الحصار. قامت حملات تضامن مع الشعب العراقي، وارتفعت اصوات نقية، دانت عسف النظام مثلما دانت الحصار، الا ان قسماً من المثقفين العرب جيّر حملات التضامن تلك لمصلحة رأس النظام، وإن بكلمات مواربة. رأينا اوسع مشاركة عربية في آخر مؤتمر لاتحاد الكتّاب العرب عقد في بغداد، وإن ظلت الاسماء المشاركة رسمية عموماً. لكن ما فاجأ المثقفين العراقيين بيانات التضامن مع النظام، بعد وقوفه في وجه الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية وتأسيس جيش القدس الذي سيعبر، بحسب الذهنية العربية الخرافية، صحراء الرطبة، مجتازاً الاردن ليدخل ارض فلسطين ثم يؤم تل أبيب بلمح البصر. القضية في الحقيقة لا تعدو ان تكون ضحكاً على ذقن المواطن العربي من الخليج الى المحيط. لا احد يسمح بتجاوز حدود الاردن، ولا احد يسمح اطلاقاً بالدخول الى ارض فلسطين. فالتوراة وحماتها المدججون بالأسلحة النووية واقفون على الأبواب. والستة ملايين فرد ليسوا سوى اكذوبة لتمتين كرسي الحاكم. خلط الأوراق واضح، وإن لم يميزه بدقة سوى العراقيين. العراقيون يعرفون ويمتلكون الخبرة بنظامهم، وكيف يجيّر أهواء العرب المساكين، الى مصلحته. الأصوات القومية العالية، التي بدأت تصرخ بتقسيم العراق اذا سقط النظام، او ان الدماء ستسيل في الشوارع دفاعاً عن العراق، وان اسلحة الدمار الشامل ستحيل المنطقة الى جحيم، لم تكن، وكما تبين لاحقاً، الا رغبة غير مباشرة، او حيّة، في التعبير عن رعب ازالة نظام فاشي عنصري دموي لا يمت الى العروبة بصلة مثل نظام صدام حسين. لم يتصوروا عراقاً من دون صواريخ العباس، والانثراكس والمدفع العملاق، وبرنامج الاسلحة النووية وتجييش ستة ملايين لتحرير القدس. لم يتصوروا عراقاً من دون حزب، حوّل البلد الى سجن كبير ومقبرة جماعية للشعب. عراق مثل ذلك لن يوزع شيكات ولا دولارات ولا ناقلات نفط لفنانات مترغدات. واحد من العراقيين ذكر انه ناقش مثقفاً سورياً، يكتب الرواية، حول قضية صدام حسين وقوة العراق وقتل الناس وتشريد المثقفين. قال ذلك المثقف، وصلعته تتنور بعرق التاريخ العربي، المملوء بالرعب، ان صدام حسين يمتلك مشروعاً قومياً حضارياً، ومن يمتلك مشروعاً مثل ذلك لا يهم ان يضحي بمليون مواطن، ثمناً لذلك المشروع. عمر شبانة الكاتب الفلسطيني، المشهور في عمان، وفي ذلك المساء المخمور على حافات مخيم اليرموك، استشاط غضباً، وأنحى على بوذا باللائمة. ثم ترك الموضوع الى ضمير التاريخ، تاريخ العرب المضمخ بالدماء، منذ ايام محمد علي باشا. ظل المثقف العراقي المعارض فاغراً فمه دهشة، في ضوضاء مخيم بائس، وسط دمشق، وقد انتصب امامه هتلر صغير، وعدد من افران الغاز، والمقابر الجماعية، ومدينة حلبجة الكردية، وسلام عادل وصفاء الدرة ومئات من اصدقائه الاكراد والعرب والشيعة والمسيحيين والقوميين والصابئة ودراويش عبدالقادر الجيلي، ومن هب ودب في سهوب ما بين النهرين، وفي ما بين البحرين. والمثير للتساؤل هو: لمَ كان المثقفون العرب والمفكرون يعلقون احلامهم على صدام حسين كلما دخل في مواجهة خاسرة مع أميركا والغرب؟ ولمَ يقفون دائماً معه حتى لو حارب ضد الجميع؟ ثمة مثقفون كانوا يكيلون النقد الخفيف او الحاد احياناً للنظام العراقي، لكن ما إن بدأت وتيرة الاستعدادات الاميركية لاسقاط النظام حتى ألقوا بثقلهم كله خلف قيادته، واعتبروا نصرته على الأميركيين نصرة للعراق، وتلك أكذوبة لم يتمسك بدحضها، حتى النهاية، سوى العراقيين، ونفر قليل من المثقفين العرب المتماسكي الروح والضمير والثقافة. لا يمكن القول ان المثقفين العراقيين كانوا على صواب دائماً، في علاقتهم مع المثقفين العرب، بمختلف تلاوينهم. كلا، فهناك عدد منهم تطرفوا لعراقيتهم اكثر مما ينبغي. في مقال للشاعر العراقي عواد ناصر كتبه في "الشرق الاوسط" دعا الى تسمية الجنود البريطانيين والأميركيين الذين قتلوا في حرب العراق بالشهداء. فكرة تستفز، من دون شك، الكثير من المثقفين العرب، وتستفز المسلمين كذلك، وفيها تطرف غير مبرر في العراقية المتعصبة. على رغم ان هذا المصطلح يتطلب اعادة النظر، فالجلاد والضحية صارا يوصمان بذلك مع افتقاد المعايير. رجل أمن يمكن ان يصبح شهيداً بتوقيع من رئيس الجلادين، وارهابي يقتل الابرياء يحصل على اللقب بآية قرآنية فسّرت في غير محلها. الشاعر جمال جمعة، المقيم في الدنمارك، وجّه رسالة غاضبة الى الشاعر عباس بيضون، في جريدة "السفير"، لأن الأخير دعا في واحدة من مقالاته الى التسامح، ونسيان الماضي الأليم في الواقع العراقي، والبدء بتأسيس ثقافة وطنية حرة. طالب جمال جمعة جميع المثقفين العرب بالكف عن الحديث عن وضع العراق والعراقيين، بل هدد الجميع بالويل والثبور، إن ابدوا اي رأي حول وضع العراق. وهذه نظرة، اقل ما يقال عنها انها تعيد خطاب البعث العراقي السابق وفاشيته في التعامل مع الرأي المخالف، فالعراقي يبقى مركباً في محيط عربي، لغة وثقافة وانتماء وروحاً. لا يختلف في هذا عرب وأكراد وتركمان وصابئة وتلكيف ومسلمون. تلك من دون شك، حالات لا يمكن فصلها عن القسوة التي عاشها المثقف العراقي المنفي، الذي حرم رؤية أهله ووطنه عشرات السنين من جانب نظام بربري ما زال قسم من المثقفين العرب يمتدح افضاله. تطرف المثقفين العراقيين اخيراً، نتج، في جانب منه، من تطرف بعض المثقفين العرب في الدفاع عن النظام. تطرفهم في اغماض العين عن بؤس الواقع العراقي في ظل صدام حسين. بدأ المثقفون العراقيون يأملون في قرب سقوط النظام، وذلك قبل اشهر من الحرب، وراح عدد كبير من المثقفين والفنانين العرب يدخلون العراق بحجة اقامة دروع بشرية، تبيّن لهم لاحقاً انها كانت دروعاً للنظام، اذ اشرفت على تلك الدروع اجهزة الاستخبارات العراقية وفدائيو صدام حسين وأجهزة الحزب. ولم يتجرأ احد من المدرعين الا ان يقول انه ذهب للدفاع عن الشعب العراقي، لكن حقيقة الأمر، او على الأقل كانت تلك مشاعر غالبية العراقيين، انهم ماضون للدفاع عن النظام. عن ديمومة الجزار البشري في الحكم، وهذا ما اجج التطرف لدى المثقف العراقي. الشعب كله يحلم بسقوط النظام، ومساعدة الشعب هي بالامتناع عن ابداء اي تضامن مع النظام. قسم من المدرعين البشريين راح يخوّن المثقفين العراقيين علانية، سواء شفهياً او في الجرائد والمجلات. صوِّر المثقف العراقي المعارض عميلاً ل"سي آي إي"، ومرتبطاً بالسياسات الانكلو-أميركية وعميلاً ضد بلده وشعبه. وحين يفتقد العقل منطقه، يصعب على المتحاورين الوصول الى نتيجة، فكيف تقنع شخصاً برداءة صدام حسين ونظامه وحزبه، وهو لم يقتنع بذلك بعد كل تلك الدلائل والمآسي التي جلبها الى المنطقة لا الى الشعب العراقي فقط؟ وضع المثقف العربي، الرسمي او المتطرف قومياً، العربة قبل الحصان. تناسى كل قيمه التحررية وحقوق الانسان وغيرها. كانت الحجة ان الوطن يتعرض الى غزو، وينبغي الدفاع عنه حتى لو تطلب الامر الوقوف مع نظام بائس مثل نظام صدام حسين. وتلك حجة عرفها العراقيون منذ الحرب الايرانية - العراقية. لم يأخذ العراقيون بحجة مثل تلك. تمثلوا بالحكمة القائلة: أهل مكة ادرى بشعابها.