يغذي الفشل الذريع للآليات الموضوعة لتحقيق أهداف التعاون الدولي منذ عقود، جدلاً يبدو بلا نهاية. فعدد البلدان الأعضاء في منظمة الأممالمتحدة يقارب المئتين، منها الكبير والصغير، والغني والفقير، والمتقدم والنامي، تقيم في ما بينها علاقات تعاون متنوعة. لكن ليست كل هذه البلدان أطرافاً معنية بالجدل المطروح هنا. فالعلاقات الداخلية بين البلدان المتقدمة, وتلك التي بين بلدان متقدمة وأخرى تسمى" متحولة"البلدان الشرقية لا تعنينا هنا. اذ إن مدار بحثنا ينحصر في علاقات التعاون بين البلدان المتقدمة وتلك النامية، وفي ما بين البلدان النامية ذاتها. لا يزال التعاون الإقليمي شمال - جنوب، أو بالأحرى بين تكتلات متفاوتة الأهمية لبلدان تنتمي إلى مناطق غنية وأخرى فقيرة، متواضعاً نسبياً، لكنه يتضمن مشاريع متفاوتة التقدم. وأهم برامج التعاون الإقليمي شمال ? جنوب قيد الإنجاز اثنان: منطقة التبادل الحر لبلدان أميركا الشمالية ALENA الولاياتالمتحدة وكندا والمكسيك، والشراكة الأورومتوسطية أو شراكة برشلونة الاتحاد الأوروبي - بلدان جنوب المتوسط. ومن بين المشاريع الجاري تنفيذها يمكن ذكر"التعاون الاقتصادي الآسيوي الباسيفيكي"APECپويضم بلداناً آسيوية نامية وصاعدة، والولاياتالمتحدة وكندا واليابان، والمشروع بين الاتحاد الأوروبي وأميركا اللاتينية البرازيل والأرجنتين والأوروغواي والباراغواي ميركوسور، ومشروع الأميركتين أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية، والمشروع بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون لدول الخليج العربي، والمشروع بين الولاياتالمتحدة والمغرب العربي ايزنستات. أما التعاون الإقليمي جنوب - جنوب فهو أكثر اتساعاً وفي ازدياد خصوصاً منذ إنشاء منظمة التجارة العالمية عام 1995. ويتعلق الأمر بتكتلات شبه إقليمية بين بلدان نامية أو صاعدة، مقامة على شكل اندماج اقتصادي متفاوت العمق، نجد منها أمثلة في أفريقيا المتاخمة للصحراء وفي أميركا اللاتينية ميركوسور وفي العالم العربي مجلس التعاون الخليجي، المنطقة الكبرى للتبادل الحر العربي، اتحاد المغرب العربي، مجموعة أغادير وفي آسيا آسيان. وفي ما يتعلق بالتعاون المتعدد الأطراف الذي يناهز عمره اليوم نصف قرن، فمن رموزه منظمة الأممالمتحدة وتوأما برايتن - وودز صندوق النقد والبنك الدوليان ومنظمة التجارة العالمية. وينبغي التذكير هنا بدور الأممالمتحدة التأسيسي في مجال التعاون المتعدد الأطراف وتقديم الإعانات والتمويلات لفائدة التنمية ومكافحة الفقر. يمكن لدى درس طبيعة الآليات المعتمدة في مجال التعاون الدولي وتطورها عبر الزمان تبيّن ست مراحل: - الأولى حُصرت في تحويلات رسمية من طرف واحد لمساعدات وهبات وتعاون فني، من الشمال إلى الجنوب عبر قنوات ثنائية وإقليمية ومتعددة الأطراف، بهدف مقاومة التخلف والفقر المستشري في العالم. - واتسمت الثانية بتحويل المساعدات العمومية"التنازلية"أو بشروط ميسرة ونصف تنازلية أو بشروط نصف ميسرة، من أجل تمويل مشاريع البنية الأساسية ومشاريع تنموية أخرى مجموعة البنك الدولي على وجه الخصوص. - وشهدت الثالثة التحويلات المالية التي منحها البنك وصندوق النقد الدوليان الى بلدان الجنوب بعنوان برامج"الإصلاح الهيكلي"منذ مطلع الثمانينات. - الرابعة كانت للمساعدة المخصصة لمواجهة أزمات المديونية، أولاً في البلدان"الصاعدة"ثم في البلدان الفقيرة الشديدة المديونية مبادرة البنك وصندوق النقد الدوليتين تحت اسم PPTE. - والخامسة غلبت عليها تحويلات المساعدات تحت عنوان مكافحة الفقر. - واتسمت المرحلة السادسة بانفتاح الأسواق الاستثمارية العالمية على بلدان الجنوب، وجاء ذلك على أرضية تزايد مناطق التبادل الحر الثنائية والإقليمية ونصف الإقليمية شمال - جنوب وجنوب - جنوب والمتعددة الأطراف منظمة التجارة العالمية، والتبادل الحر والتخصيص والمناولة في إطار الاقتصاد الجديد المعولم. ماذا كان أداء مختلف تلك الآليات والأدوات على مدى العقود الستة المنقضية من التعاون الدولي؟ أولى ملاحظة نسوقها في هذا الصدد: استشراء الفقر وتفاقم المديونية والأمراض والجهل، والإقصاء والبطالة والهجرة، ومشكلة اللاجئين والحروب والنزاعات والكوارث الطبيعية، و... الفجوة الرقمية في العالم. ولا شيء يبين مظاهر الضعف والعجز في التعاون الاقتصادي الدولي أفضل من نظرة تلقى على حقيقة الوضع في 2004 عن الأهداف المرسومة لأفق 2015، من جانب قمة الألفية لمنظمة الأممالمتحدة المعقودة في أيلول سبتمبر 2000. وكما هو معلوم تتلخص تلك الأهداف أساساً في الآتي: الحد من الفقر في العالم إلى النصف، وخفض وفيات الأطفال بمقدار الثلثين وتأمين التعليم الابتدائي للجميع. إنّ واقع الأمر اليوم، بعد مرور خمس سنين، هو كالآتي: - في شأن التأخير المسجل في الآجال المحددة، فإنه يقدر ب 135 عاماً على الأقل، ويعني ذلك أن تحقيق الأهداف التي أقرتها قمة الألفية سيكون في أفق 2150 بدل 2015. - في شأن المساعدات العمومية للتنمية APD يلاحظ ركود التحويلات في حدود خمسين بليون دولار سنوياً مقارنة بالحاجات المقدرة ب100 بليون دولار سنوياً، مع خفض من جانب المساعدات العمومية للتنمية APD في التحويلات المالية إلى بلدان الجنوب من 56 في المئة عام 1990 إلى 18 في المئة عام 1998. - في ما يتعلق بمكافحة الفقر أسوأ أسلحة الدمار الشامل بحسب الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، فإن 1.1 بليون شخص أو 23 في المئة من سكان العالم ما زالوا يعيشون بدولار واحد في اليوم. وفي أفريقيا جنوب الصحراء التي تعد 29 في المئة من فقراء العالم عام 2001 مقابل 11 في المئة في عام 1981، فإنّ النسبة قد تبلغ عام 2015 نحو 50 في المئة من مجموع المهمشين على الكرة الأرضية، إذا بقيت الأمور على حالها. وبخصوص تخفيف الديون الخارجية للبلدان الأشدّ فقراً أو إلغائها باستثناء ديون العراق 120 بليون دولار التي هي موضوع حملة أميركية - بريطانية دؤوب من أجل إلغائها أصلاً، لم يبرم أي اتفاق في قمة مجموعة الثماني في سي آيلند حول إلغاء الديون الخارجية للبلدان الأشدّ فقراً. يفهم مما سبق، أن التعاون المتعدد الأطراف خير مترجم عن مدى التزام المجموعة الدولية وتضامنها في حل مشكلة التنمية غير المتكافئة بين الشمال والجنوب. وكان من المفترض أن يشكل"وفاق واشنطن"كذلك مرجعاً لسياسات التعاون الإقليمي والثنائي، تأكيداً لأساسه الأميركي الليبرالي. لكن، بعد نصف قرن، أصبح فشله شبه تام وأضحت الحاجة إلى إيجاد بديل له أشدّ إلحاحاً من أي وقت مضى. وصحيح أن المشاريع متوافرة ولن نذكر منها إلا أحدثها جميعاً والذي أطلق عليه اسم"وفاق كوبنهاغن"المبني على عشرة تحديات وأربع أولويات. وتعرّف تحديات التنمية العشرة الجديدة على النحو الآتي: النزاعات الأهلية، التغيرات المناخية، الأوبئة المستشرية، التربية، الجوع وسوء التغذية، الهجرة، تحرير التجارة الدولية، الماء وحفظ الصحة. أما الأولويات الأربع الكبرى المتفق عليها فهي مرتبة ترتيباً تنازلياً لجهة الأهمية: مقاومة الأيدز، القضاء على سوء التغذية، إلغاء الدعم للتصدير، اجتثاث الملاريا. لا شك في أن أحداً لا يطعن في وجاهة هذه التحديات والأولويات أو في كونها مستعجلة، لكن ما الذي يمكن أن نرجو من"وفاق"يغفل أن يدرج في جدول أعماله دعم المساعدة على التنمية والقضاء على الفقر ومشروع التربية للجميع وإلغاء ديون البلدان الأشدّ فقراً والتوفر الشامل لفرص العمل والحد من الفجوة الرقمية وحل مشكلة اللاجئين؟ لا نرجو شيئاً سوى أن التعاون الدولي من أجل التنمية سيظل مفتقراً الى هذه الرؤية للتحديات وذاك التضامن بين الشعوب وأيضاً ذلك الوعي على الصعيد الكوني، ما يفسر إلى حد بعيد المأساة الكبرى المتمثلة بالفشل المستمر الذي تردّى فيه التعاون الدولي. وزير الإقتصاد التونسي السابق، عميد كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية سابقاً.