قلّما حدث أن تمكّن فيلم واحد أن يجمع بين أذواق النقّاد والجمهور معاً في"مهرجان البندقية السينمائي الدولي"، كما حدث في الدورة الثانية والستين التي أُختتمت السبت الماضي في جزيرة الليدو في مدينة البندقية فينيسيا الإيطالية. مع فيلم جورج كلوني"عمتم مساءً وحظاً سعيداً". وإذا ما كان الحكّام قرروا عدم منحه جائزة الأسد الذهبي فإن أهمية هذا الشريط لن تتناقص أبداً. جائزة الأسد الذهبي مُنحت إلى التايواني الأصل"آنغ لي"عن فيلمه"جبل بروكباك". ويعرض الشريط قصة صداقة خاصة وعميقة بين شابين جمعتهما الصدفة في العمل كرعاة أغنام بين حنايا ذلك الجبل النائي. صروف الحياة والعمل الموسمي أن تفرّق بينهما وتشاء الأقدار إلى لم شملهما من جديد. فيلم جميل متقن الصنعة، لكنه لن يخلد في ذاكرة المهرجان كشريط ممّيّز. على العكس من شريط جورج كلوني الذي سيدخل تاريخ السينما كمحطة مهمة من محطات السينما الجميلة والهادفة . وإذا كانت جوائز المهرجانات مهمة لشريط ما فإن بعض الأشرطة يمتلك أهمية لا تقل عن أهمية تلك الجوائز. كان في إمكان المحكّمين السبعة الذين ترأسهم مصمم الديكور الأوسكاري الإيطالي دانتي فيرّيتّي أن يخلّدوا الدورة الثانية والستين باعتبارها الدورة التي عمّدت جورج كلوني مخرجاً رصيناً سيمنح السينما العالمية في المستقبل القريب من الأعمال المتميّزة ما يفوق أداءه كممثل. إلاّ أن"الحكماء السبعة الكبار"لم يتفّقوا في ما بينهم وتدّخلت أذواقهم، أو ربما حسابات البعض منهم في تحديد النتائج التي آلت إليها قراراتهم. فجورج كلوني تقدّم إلى المهرجان باعتباره مخرجاً ومنتجاً مستقلاً الشريط أنتج من قبل سيكشن 8 و2929 إنترناشنال التي يديرها كلوني نفسه مع المخرج ستيفن سوديبيرغ، ومن خلال تناوله لحياة الصحافي الأميركي إدوارد مارّو مسّ موضوعة حسّاسة للغاية لها صلاتها وتداعياتها المعاصرة وهي"مهنة"الإعلامي و"ضمير"الصحافي وأخلاقياته اليوم في وقت أصبح الإعلام سلاحاً أمضى من السكين أو الطلقة، إلاّ أن فيلم كلوني، كما أسلفنا، كان إنتاجاً مستقلاً لذا لم يقوَ على منافسة الإنتاج الأكثر ثراءً ولم يكن من بد في أن ترجح كفة"جبل بروكباك"في الميزان فخطف"الأسد الذهبي". بقرارها ذاك، إنّما أرادت لجنة التحكيم الدولية"صيد ثلاثة عصافير بحجر واحد". فهي أولاً منحت الجائزة لفيلم متقن الصنع على رغم كونه فيلماً في غاية الاعتيادية، ثانياً، منحت الجائزة لإنتاج أميركي ضخم، وثالثاً جمعت الجائزة تثميناً مشتركاً للسينما الأميركية والآسيوية معاًً. وكان هذا التثمين أمراً ضرورياً بعد أن خرجت السينما الآسيوية من هذه الدورة من المهرجان خالية الوفاض بجميع المعاني، فهي فشلت في نيل جائزة مهمة وفشلت أيضاً في شحذ اهتمام الجمهور على رغم الجهد الكبير الذي بذله مدير المهرجان المختص بالسينما الآسيوية ماركو موللر في تقديم السينما الآسيوية في هذه الدورة من خلال الاحتفاء بالسينما اليابانية وبالسينمات الصينية. يضاف إلى هذا كله سبب آخر ليس أقل أهمية، بالنسبة الى الغرب، من هذه الأسباب الثلاثة السابقة. فشريط"جبل بروكباك"يتناول موضوعة حسّاسة للغاية يتعامل معها الغرب بقدر كبير من الحساسية والجدل في آن، وتلك هي موضوعة العلاقات الخاصة بين الرجال. إجماع وغالبيات وفيما جاء قرار لجنة التحكيم الدولية بخصوص الأسد الذهبي"بالغالبية البسيطة وبعد نقاش بنّاء"، على حد قول رئيس اللجنة دانتي فيرّيتّي، فإن قرار منح"كأس فولبي لأفضل ممثل"جاء بالإجماع المطلق ومُنح إلى بطل فيلم"عمتم مساءً وحظاً سعيداً"ديفيد ستارثيرن الذي كان وضع يده عليها عن أدائه دور إيد مارّو في فيلم جورج كلوني ولم ينافسه في ذلك أحد حتى النهاية. أما جائزة"كأس فولبي لأفضل أداء نسائي"فقد مُنحت، هي الأخرى، بالتصويت وبالغالبية البسيطة. ففيما كانت النجمة الفرنسية إيزابيل هوبير هيمنت على هذا الموقع منذ لحظة عرض شريط"غابرييل"للمخرج الفرنسي باتريك شيرو، فإن أداء الإيطالية الحسناء جوفانّا ميتزوجورنو عن دورها"سابينا"في شريط"وحش في القلب"للمخرجة الإيطالية المبدعة كريستينا كومينتشيني إبنة المخرج الإيطالي الكبير لويجي كومينتشيني، لم يكن ليمرّ من دون أن يشار إليه، إلاّ أن هذا"التعادل"لم يكن ليُفضّ بمنح الجائزة إلى الممثلتين معاً أو بتجاهل الممثلة الأصغر من هوبير مما دفع لجنة التحكيم الدولية إلى الاستعانة بفقرة شبه منسية من قانون"بيينالة فينيسيا"وسحبها من الدُرج. الفقرة المذكورة تمنح لجنة التحكيم الدولية حق استحداث جائزة"أسد ذهبي خاص"تُمنح لفنان ما لتميّزه. وكما حدث قبل عشرين عاماً عندما مُنحت جائزة مماثلة للمخرج البرتغالي المخضرم مانويل دي أوليفييرا فقد مُنحت إيزابيل هوبير"الأسد الذهبي الخاص لمجمل إنجازها السينمائي". رئيس لجنة التحكيم دانتي فيرّيتّي أكد أن"هذه الجائزة لم تكن تسوية أو مَخْرَجاً من أزمة أو جدل، بل اعتراف من لجنة التحكيم بأداء ممثلة كبيرة في فيلم كبير"غابرييل"لم يحظ بالاهتمام المناسب". واعتبرت إيزابيل هوبير الجائزة استكمالاً لجائزتيها السابقتين عن أفضل أداء نسائي في المهرجان نفسه في دورتي 1988 و1995 عن دوريها في شريطين من إخراج معلّمها الأساس كلود شابرول. كلوني أفضل كاتب سيناريو على رغم أهمية الجوائز الكبرى، إلاّ أن بعض الجوائز الجانبية تكون، في حالات معيّنة، أكثر دلالة وأهمية على إنجاز ما. وعلى رغم الحيف الواضح في إقصاء جورج كلوني من منطقة الجوائز الكبرى في المهرجان فإن الجائزة التي منحتها إيّاه لجنة التحكيم، جائزة أفضل سيناريو، تبدو أكثر دلالة على إنجاز كلوني. ففي السيناريو، قبل الإخراج وضع هذا النجم بصماته ومواقفه ومعاناته"لأكثر من ثلاثين سنة"من خلال" معاناة والدي الصحافي إبان مرحلة الماكارثية وما بعدها". كلوني فاز بالجائزة برفقه صديقه وزميله غرانت هيسلوف الذي كتب معه سيناريو الفيلم وعاصر أداءه مذ كان شاباً. كلوني كشف عن الدور الذي لعبه هيسلوف في حياته الفنية قائلاً:"عندما كنت شاباً يافعاً وأردت أنجاز بعض الصور الفوتوغرافية الشخصية لإرسالها إلى المخرجين استدنت من هيسلوف مئة دولار وأنجزت تلك الصور وكانت مهمة بالنسبة لمساري الفني". إعتراف كلوني دفع صديقه إلى ممازحته قائلاً:"لم تُعدْ إلي ذلك الدين وبإمكانك الآن إعادته إليّ". وربما كان يعني أن"بإمكانك أن تعيدها إليّ بالفوائد المترتبة عليها". وبعيداً من المزحة لم يَبْدُ جورج كلوني منزعجاً من الجائزة التي مُنحت له، أو بالأحرى لم يُبد انزعاجاً من حجب"الأسد الذهبي"عنه وتعامل بروح رياضية عالية مدركاً أنه حقق جائزته من خلال استقبال الجمهور والنقاد معاً لشريطه. وعلى رغم مرور ما يربو على أربعين سنة فإن انتفاضة الطلبة والشباب في باريس في عام 1968 لا تزال تثير مخيّلة مبدعي السينما، فكما كانت الحال بالنسبة الى الإيطالي الكبير بيرناردو بيرتولوتشي الذي أنجز قبل عامين شريطه"الحالمون"وتحدث فيه عن جيل ربيع 68 تناول المخرج الفرنسي فيليب غارّيل الحقبة نفسها بشريطه"عشاق إعتياديون". وربما كان"حالمو"بيرتولوتشي هم الذين أوحوا لفيليب غارّيل شريطه هذا لا سيما وأن ابنه، فيليب غارّيل، أدى بطولة فيلم بيرتولوتشي وعاد ومثّل البطولة في شريط والده. الحدث كبير لكن المقارنة والمقاربة ما بين العملين مجحفة، إذ لم تتمكن ساعات العرض الثلاث من تحقيق ما حققه بيرتولوتشي في قراءته الجريئة وال"الحالمة"لتلك الأحداث. فيليب غارّيل منح جائزة"الأسد الفضي لأفضل مخرج"وفاز مصوّره ويليام لوباتشانسكي بجائزة أفضل مدير تصوير. يُذكر أن فيليب غارّيل كان فاز بالجائزة ذاتها في الدورة الأربعين في عام 1991 عن فيلمه" لم أعد أسمع الجيتار". جائزة لجنة التحكيم الخاصة لجنة التحكيم الدولية منحت جائزتها الخاصة،" جائزة لجنة التحكيم الخاصة"إلى فيلم"ماري"للمخرج الأميركي آبيل فيرّارا، ويُذَكّر الفيلم بعددٍ من الأعمال التي تماهى فيها الممثلون مع الشخصيات التي يؤدّونها وبلغ بهم ذلك التماهي إلى درجة هجر الحياة التي كانوا يعيشونها والتمثّل بالشخصية. يحدث ذلك ل"ماري باليسي"- أدتها النجمة الفرنسية جولييت بينوش- التي تقرر بعد انتهاء تصوير فيلم تؤدي فيه دور"مريم المجدلية"هجر عالمها السابق والرحيل إلى القدس لتعيش في الأماكن التي تقرّبها من حياة المجدلية والسيّد المسيح. وبدلاً من الوقوف على الحالة الصوفية المثيرة للاهتمام للمجدلية غرق المخرج فيرّارا في حياة الشخصيات الأخرى وفي لحظة ما من لحظات الفيلم بدت شخصية ماري، وكأنها تحوّلت، من دون أي تبرير درامي، إلى مرآة عاكسة لحالة الندم وطلب الغفران المسيحي لشخصية أخرى هي الصحافي تيد يونغير الذي أدّاه بجمود يدفع للتثاؤب فوريست ويتيكير. الجائزة التي مُنحت إلى آبيل فيرّارا لم تكن مُستحقّة على الإطلاق، ذلك لأن الفيلم لا يُمثّل أية خصوصية تبرر"جائزة لجنة التحكيم الخاصة"، وكانت أكثر استحقاقاً فيما لو أنها مُنحت إلى المبدع البرازيلي فيرناندو ميريّيس، الذي قدّم ومضة أخرى تضاف إلى ومضته المبدعة في"مدينة الرب". فقد سجّل ميريّيس بشريطه الجديد"البستناني الصامد"إدانة توثيقية ومشهدية لتورّط بريطانيا واستخباراتها في الكثير من الملفّات القذرة في أفريقيا السوداء. الشريط، الذي أدى بطولته رالف فاينس وراشيل فايس، أقتُبس عن رواية للكاتب جون لي كارّيه. أخيراً، حالة إيجابية باتت تميّز مهرجان البندقية منذ عامين، فبعد أن أقصى برنامج"أسبوع النقّاد"نفسه عن مضمار التنافس وأصبحت اختياراته أقل أهمية باطراد متواصل، ترسّخ برنامج"أيام فينيسيا"في هذه السنة أكثر فأكثر. وعلى رغم أن عمر هذا البرنامج ليس إلاّ سنتين أصبح برنامجه حافلاً بأسماء كبيرة وبأعمال جميلة وبدت تلك الاختيارات في بعض الحالات أكثر جدارة من الأفلام المختارة للمسابقة الرسمية، وتلك هي حال أعمال من قبيل"إنتظار"للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي و"دافع العربة"للأميركي الإيراني الأصل رامين بهراني و"بارابول"للمغربي الأصل كريم بيلحاج. ولا يُستبعد أن يتحول برنامج"أيام فينيسيا"إلى صنو ل"برنامج نصف شهر المخرجين"في مهرجان"كان"الذي قدّم إلى السينما العالمية العديد من الأسماء اللامعة. مدير البرنامج جورجو غوزيتّي أكد ل"الحياة"أن"اختيار الأفلام لم يخضع لاعتبارات جغرافية أو توازنات سياسية. في برنامجنا نمنح حق المواطنة الأولى للإبداع، وهذا ما فعلنا مع عمل رشيد مشهراوي الرائع"إنتظار"الذي يفتح، في رأينا، ملفاً من أهم وأعقد ملفات الصراع في الشرق الأوسط. وقد فعل ذلك برؤية إبداعية".