يقف أري دي لوكا، اليوم، في صف أقطاب الرواية الإيطالية الحديثة. وهو لا ينفك يحتل مكانة تتعاظم من مساحة الأرض الإبداعية في إيطاليا. وليس ذلك إلا لأن نصه الروائي يختزن قدراً كبيراً من الأصالة والجمال. ومن هذا لم تكبت دار فلترينيلي في ميلانو، رغبتها في احتضان مؤلفات هذا الروائي وإعادة طبعها عاماً بعد عام منذ 1998. جاء أري دي لوكا متأخراً إلى الكتابة. وهو جاء إليها من السياسة. لقد خرج من تحت معطف مقولة الإلتزام ولكن بعد أن نزع عنها قشرة الإيديولوجيا الصارمة وأكسبها جاذبية سحرية. ولد في نابولي عام 1950 في عائلة متوسطة الحال. انخرط في منظمة la lotta continua النضال يستمر اليسارية المتطرفة، وفي عام 1976 انطلق إلى الانخراط في الأعمال اليدوية ليكون في صفوف" البروليتاريا". عمل في إيطاليا وفرنسا وأفريقيا: سائق قطارات، سائق شاحنات، عامل سكك حديد، عامل بناء. في حرب البوسنة عمل سائقاً لمنظمة إنسانية. صدرت روايته الأولى بعنوان: non ora ,non qui ليس الآن، ليس هنا عام 1989. ومعها بدأت الثيمة الأساسية لكتابته تظهر للقارئ: العزلة والقلق والحب والإيمان والانخراط في مسؤوليات العيش. يمنح أري دي لوكا الأشياء الصغيرة من يوميات العيش جمالية هادئة وآسرة. هو يقارب مسائل عميقة تمس الروح والوجدان وتلامس الفلسفة والدين والشك والبحث السيزيفي عن معنى الوجود. لكنه يفعل ذلك بلمسة شاعرية بسيطة ومرهفة. بلا حبكات درامية معقدة ولا سعي في أثر مادة قصصية مثيرة. نصه الروائي أشبه بقصص قصائد متباعدة ومع هذا فإنها تمسك بالقارئ وتسحره. وفي حين تبدو شخصيات الرواية بسيطة، عادية، عاديين، من دون خلفيات فكرية أو فلسفية فإنهم يتحلون بحكمة عميقة في مقاربة الحياة. لهم رؤيتهم الخاصة التي لا تخلو من فلسفة يواجهون بها أفراح العيش وأتراحه. لهم منظورهم الفريد للحب والصداقة والسعادة والحزن والشقاء والموت. وبعكس ما يلوح في الظاهر فإنهم يتأملون في كل شيء من حولهم ويبنون فلسفتهم الخاصة والعميقة. أصدرت دار فلترينيلي أخيراً الطبعة الرابعة لرواية أري دي لوكا المعنونة"montededio". الكلمة تعني جبل الرب. وهذا في الواقع هو اسم حي شعبي فقير في نابولي. الرواية هي يوميات فتى في الثالثة عشرة، تنفتح نوافذ جسده وعقله وروحه أمام الحياة. يدون الفتى في دفتره ما يدور من حوله ولكن ما يدور في أعماقه أيضاً. هي يوميات العيش اليومي المرهق ومتاعب الجسد المراهق الذي بدأ للتو يتعرف إلى معاني الحب والصداقة والشغف بالوجود. بداية الستينات في إيطاليا حيث الواقع الإجتماعي والإقتصادي يهيمن بثقل صارخ على الناس ويلوح هذا الثقل بأوضح ما يكون في نابولي التي تكتظ بالفقراء والمعوزين ممن يلتهم العمل الشاق وقتهم وجهدهم ومشاعرهم. في هذه الأجواء يتعرف الفتى، الذي لا نعرف اسمه، إلى الناس المحيطين به وإلى نفسه معاً. يتعرف إلى سلوك الناس وأفكارهم ورغباتهم ومشاعرهم مثلما يتعرف إلى رغباته ومشاعره. تنكشف له هويات الناس مثلما تنكشف هويته هو أيضاً. هوية جسده وعواطفه وتوقه إلى الحنان والحميمية. فتى بريء، طيب القلب، ساطع الذكاء، يحفر طريقه بصعوبة في هامش العيش داخل الأزقة المهملة لحي مونتي ديديو المهمل في نابولي. هو يعمل في محل النجارة التابع للسيد أريكو. في عيد ميلاده الثالث عشر يتلقى هدية تأسر لبه: لعبة البومرانغ. ذلك القوس الذي يرتد إليه كلما قذفه في الهواء. يتعرف إلى رافانييلو، اليهودي الأحدب الذي نجا من الهولوكوست. كان رافانييلو اختبأ في مكان سري ولم يعرف كم طال به الوقت قبل أن ينطلق إلى القدس. ولكن الرحال حط به في نابولي. تنعقد عرى صداقة آسرة بين الفتى ورافانييلو. يغدو رافانييلو بمثابة أب روحي، يعلمه الحكمة والصبر والأمل. يقول رافانييلو أن الحدبة التي في ظهره ليست سوى مقدمة لجناحين يأخذان بالنمو حتى يحين الوقت ليطلعا فيطير بهما ويذهب إلى حيث يشاء. ماريا، فتاة الجيران التي في عمر الفتى، تظهر لتكمل المشهد وتملأ عالم الفتى. معها يدرك الفتى اشتباك الروح والجسد. الخيوط الأولى لحب رقيق وشفاف تنعقد وتؤلف نسيجاً ناعماً يمد الفتى بقوة تعينه على مواجهة المصاعب. الآن بات الفتى يدرك أن الإنسان المعزول، الذي يفتقد الحب، هو أقل من كائن إنساني. والد الفتى رجل فقير وأمي. هو لا يستطيع التكلم باللغة الإيطالية، كما يقول، بل يتكلم النابولية وهو يعتمد على ابنه في قراءة الفواتير والأوراق التي تأتيه. يورد الكاتب مقاطع عدة بالنابولية في متن الرواية. يقول الوالد للفتى:"نحن في إيطاليا ولكننا لسنا ايطاليين، نحن نابوليون. نتكلم النابولية ولكننا مجبرون على تعلم الإيطالية. نتعلمها كلغة غريبة مثل أي أجنبي... أنت ستتعلم الإيطالية، أما نحن، أنا وأمك فلن نفعل. سنموت من دون أن نتعلمها وسنبقى على لغتنا النابولية". يقول بالنابولية:nue nun puttimo بدلاً من القول بالإيطالية:noi non possiamo. أي لا نستطيع. تمضي الحياة في نابولي بطيئة ومملة. وهكذا يمضي السرد الذي يتغلب على الملل بالحيوية الطافحة التي يكتب بها الفتى يومياته. الأحداث الصغيرة والأحاسيس النابضة بالشوق إلى حياة جميلة والعلاقات البسيطة ولكن الحميمة بين الأشخاص المعدودين الذين يرد ذكرهم في سرد الفتى تلتحم وتؤلف مشهداً شاعرياً. تبدو المقاطع الصغيرة والباترة لليوميات، والتي تؤلف فصولاً بذاتها، كقصائد ملونة في ديوان شعري. سرد هادئ لحياة هادئة. عين شاعرية لفتى نبيه يراقب الزمن يمضي بالجميع إلى الأمام فيتعلم ويحب ويتأمل ويكتسب الحكمة وشهوة الحياة. كان أري دي لوكا أصدر رواية tre cavalli ثلاثة أحصنة عام 1999. الآن تعيد دار فلترينيلي طبعها للمرة الثالثة. بطل الرواية ليس مراهقاً بل هو رجل في خريف العمر. يقول: حياة الإنسان تعادل حياة ثلاثة أحصنة. الحصان يعيش ما يزيد قليلاً عن 25 سنة. إنه الآن في مرحلة الحصان الثالث فهو تجاوز الخمسين سنة. رجل إيطالي يعمل بستانياً يعتني كل الوقت بالأشجار والزهور. عاد من الأرجنتين بعد أن قضى فيها ما يساوي عمر حصانين. هناك عاش في ظل الديكتاتورية العسكرية وتعرض هو وزوجته للقمع والسجن والتعذيب. ماتت زوجته تحت التعذيب. وحيد هو الآن يقلم الأشجار ويثقفها ويهذبها ويتكلم معها ويتأمل من خلالها الناس الذين يعبرون من حوله. بات مثله مثل شجرة راسخة في الأرض."الأشجار تصغي للنجوم والشهب والحشرات. تحس بالأعاصير التي تحدث في ما وراء الشمس مثلما تحس برفرفة أجنحة الفراشات بالسرعة ذاتها". حين يتعرف ذات يوم على ليلى، صاحبة البيت الذي يضم حديقة رائعة. تدعوه ليلى إلى بيتها، تتكلم معه، توقظ الرغبة في أعماقه وتعيد إليه البسمة التي كانت ذبلت. تعود إليه حياة البشر ولكن معها تعود الذاكرة أيضاً. يستعيد الأيام التي قضاها مع زوجته في ظل الحكم العسكري في الأرجنتين. يختلط الحاضر والماضي بحيث يصعب التمييز بين ما يعيشه الآن وما عاشه في ما مضى. مع ليلى يصير قلبه ينبض بالحب ولكن ذاكرته تنبض بالحنين إلى ما كان. يبدو أري دي لوكا وكأنه يتأمل في مفاهيم الزمن والحب وأحوال الناس من خلال عيني البستاني. في سرد شاعري، مرة أخرى، يتكلم بطل الرواية في مونولوغ أبدي قافزاً من الحاضر إلى الماضي وبالعكس. قصيدة نثر طويلة هو هذا النص الجميل، يسكب فيه أري دي لوكا الصور والعبارات قصيرة، رشيقة ومحمولة بالحكمة والفطنة." نحن نتعلم اللغات ولكننا لا نتقن قراءة الأشجار". لوكا بشاعرية ولكنه يكتب أيضاً بمسطرة هندسية. دقة وضبط وانسجام وتوازن. الاقتصاد الكثيف في الجمل والتعابير حتى تبدو الكتابة وكأنها صيغت دليلاً لترتيب هندسي لزهور مختلفة في حديقة صغيرة. في رواية nocciolo dolivo نواة الزيتون يعود أري دي لوكا إلى الكتاب المقدس ليقرأه ويكتب عنه تأملات عميقة. في أعماله الأخرى، مثل:"رحلة السندباد الأخيرة"و"نقيض الواحد"و"رسائل من مدينة محترقة"الخ، يمضي أري دي لوكا باضطراد نحو الغوص أعمق وأبعد في الجانب السري، الغامض، المجهول من النفس والإحاطة بأحوال الذات المعزولة. لا غرابة أن أري دي لوكا يحتل مكانة عالية في المسرح الإبداعي الإيطالي اليوم فهو يعيد كتابة النص الروائي الإيطالي بلغة جديدة. يستخرج ذلك الكنز الكتابي الممتد من ماركو بولو ودانتي وصولاً إلى أليساندرو باريكو ويصوغه من جديد جاعلاً إياه مزيجاً من القصة القصيرة والشعر والسينما والخاطرة والتأمل.