حتى الماضي القريب، كان العسر لعنة يصاب بها الولد وتجعل كل من حوله يستميت من اجل تخليصه منها، نظراً إلى ارتباط مفهوم العسر بارتدادات دينية متطرفة، جعلت كثيرين يعتقدون أن الأعسر مسكون، خصوصاً أنّ مفهوم"الأيمن"إيجابي فيما العسر سلبي في كل اللغات. وكانت ذراع الأعسر تربط تارة وراء ظهره ليكتب باليد اليمنى، وطوراً تضرب باستمرار كي يلتقط الأشياء باليد اليمنى فقط. أما اليوم فمفهوم العسر بات علمياً محضاً... وطبيعياً. العسر حالة جسدية تجعل الشخص يستعمل تلقائياً يده اليسرى بدلاً من اليمنى لأسباب لم يكتشفها العلم بعد، وإن عزاها لأسباب جينية وراثية تجعل الجينة المسؤولة عن العسر تظهر مرة من عشر مرات. فشخص واحد من اصل عشرة هو اعسر، فيما الرجال مرة ونصف المرة اكثر"حظاً"لأن يكونوا عسراً. ومنذ ان سأل الفيلسوف اليوناني افلاطون لماذا هناك اعسر وأيمن، ظهرت عبر التاريخ نظريات عدة بررت شيوع استعمال اليد اليمنى لدى الغالبية السكانية، منها نظرية المحارب التي قضت بحمل السلاح باليد اليمنى من اجل ترك اليسرى حرة لحماية جانب القلب. كما برزت نظرية الوراثة التي جعلت الدراسات تثبت ان الوالدين الأعسرين لديهما 26 في المئة من الحظوظ ليكون ولدهما أاعسر. الا ان اياً من النظريتين لم تثبت صحتها مئة في المئة، على رغم ان دراسة علمية اجريت على 270 جنيناًَ من عمر 3 اشهر الى 9 ابرزت ان 92 في المئة منهم يضع اصبعه الايمن في فمه حتى قبل ان يرى النور. مما جعل العسر يشكل عبر التاريخ مشكلة حقيقية مملوءة بالاعتقادات الخرافية: فالنساء النيجيريات لا يحركن الطعام باليد اليسرى خوفاً من التسمم. كما ان المرأة من قبيلة الماوري تُقتل اذا لمست الثياب الرسمية باليد اليسرى نظراً الى انها ستجلب النحس الى قبيلتها. ويكفي البحث في غالبية اللغات الاوروبية لاكتشاف ان العالم برمته مخصص لمن هو ايمن، خصوصاً ان معنى اليمين right يرادف الصحيح فيما المصيبة وعدم الاتزان والخبث ترادف الجهة اليسرى... وحتى القانون الياباني كان يسمح للزوج بالطلاق اذا كانت زوجته عسراء. اما الكتابة باللغة الصينية فهي أمر شبه مستحيل باليد اليسرى. يبدو العسر مشكلة حقيقية متى اصطدم بالحياة اليومية التي قد تبدو عادية للغير. يكفي التفكير بكيفية تعليم الولد الأعسر ربط حذائه او استعمال الشوكة والسكين على المائدة للشعور بالعجز التام، بحيث ان الامر يتطلب تعليماً خاصاً قد يجعل الكثير من الاهل يشعرون باليأس حياله، خصوصاً انهم يحاولون تعليمه الحركات نفسها... انما بالمقلوب، في حين ان المطلوب ان يكون الوالدان مرآته ليحسن تقليد كل الحركات المطلوبة. من هنا ربما بروز مشكلة الكتابة بالمرآة، اي ان الولد يكتب نصوصاً كاملة لا تُقرأ، الا اذا وضعت امام المرآة لأنها تكون مقلوبة... كما كان يفعل ليوناردو دا فنتشي الذي كتب كل ملاحظاته الخاصة بهذه الطريقة. كما تبرز ايضاً مشكلة"اليد الصنارة"بسبب اتخاذ وضعية خاطئة للكتابة تجعل اليد التي تكتب تبدو كالصنارة الملتوية بعدما يستقر القلم والورقة في شكل خاطئ عليها وتحتها. وغالباً ما يكون العسر عاهة حقيقية بالنسبة الى صاحبه الذي يجد نفسه محاطاً بأدوات وقطع مصنعة خصوصاً للأيمن، مما يجعله عاجزاً امام ابسط الحركات مثل استعمال المقص او حتى الكتابة بقلم الحبر المخصص اساساً ليكتب باليد اليمنى، لأن الضغط عليه من الجهة اليمنى يجعل الحبر يتدفق نحو الريشة ليكتب. اما في المدرسة فالمشكلة اكبر لأن كل الادوات مخصصة للأيمن: من المكتب الذي يجلس وراءه، خصوصاً اذا كانت الكرسي مزودة طاولة صغيرة مدمجة فيها... الى الآلات الموسيقية التي لا يمكن أي اعسر العزف عليها. لذا، عمدت شركات عدة اخيراً الى ابتكار ادوات تحمل عنوان:"مخصص للعسر". اما تعليم الأعسر الكتابة او القيام بالأعمال اليومية العادية، فلا يقتصر على استعمال اليد اليسرى فقط، انما يندرج ضمن وضعية عامة لكل الجسم تتعلق بالعنق والظهر والقدمين ايضاً. وربما كان من الافضل تعليمه الكتابة على اللوح الاسود وقوفاً في البدء كي يبقى جسمه مستقيماً ولا يعاني اي وضعيات خاطئة. في مقابل الفرضية التي كانت تصف العسر بالعاهة، برزت نظرية اخرى تكلمت عن عبقرية العسر انطلاقاً من سيطرة اكبر للقسم الأيسر من الدماغ، وهو المسؤول عن الميول الموسيقية والفنية والابداع والاحساس والابتكار... اي كل ما يمت الى العبقرية بصلة. من هنا بروز عباقرة كثر كانوا عسراً: من ليوناردو دا فنتشي، الى مايكل انجلو وبيتهوفن وبنجامين فرانكلين وازاك نيوتون وألبرت ايشتاين وتشارلي شابلن... وصولاً الى بطل الشطرنج بوبي فيشر، والمغني بوب ديلان وبول ماك كارتنيه، كلهم لم يستعملوا يوماً يدهم اليمنى. وحيال ازدياد حالات العسر في العالم، تحول الثالث عشر من آب اغسطس من كل سنة عيداً سنوياً للعسر. وبات عدد العسر في العالم يشكل نسبة تراوح بين 10 و15 في المئة من مجمل عدد السكان، ربما لأن الامر لم يعد عيباً منذ ان اوصى العلم بترك الأعسر وشأنه من دون العمل على تبديل استعمال يديه. الطفل الأعسر كيف نكتشفه؟... سؤال قد تسأله كل أم منذ اليوم الذي ترى فيه طفلها يضع إصبع يده اليسرى في فمه بدلاً من يده اليمنى، خصوصاً ان الموضوع يتحول حيوياً في اللحظة التي يتعلم فيها امساك القلم بيده... وبأي يد؟ فالمطلوب أولاً عدم إخبار الولد بأنه يخضع لاختبار قبل الطلب منه القيام بسلسة من الحركات وفق الآتي: - توضع لعبة على الطاولة ويطلب منه ان يضعها بيده لاكتشاف اي يد يستعمل تلقائياً. - يوضع قفل على خزانة ما وبالقرب منه مفتاحه، ويطلب منه فتح القفل واحضار غرض ما من داخلها. - يطلب منه وضع مسامير ما في خشبة او ثقوب ملائمة. - يطلب منه اقفال زجاجات عدة بقياسات مختلفة، توضع اغطيتها جانباً. - توضع كرة على الأرض ويطلب منه التقاطها ورميها بعيداً. - يتم الانتباه اليه بأي يد يلتقط الشوكة او الملعقة اثناء الطعام. - يطلب منه قص ورقة ملونة بأشكال طويلة ورفيعة، ويراقب بأي يد يلتقط المقص واذا كانت القطع المقصوصة متناسقة.