بعث اغتيال جورج حاوي، امين عام الحزب الشيوعي اللبناني في حقبته"الفلسطينية"الزاهرة، روايات وأخباراً عن حوادث تاريخية وعادية ماضية تعود الى ثلاثة عقود او عقدين من السنين. وتؤرخ جماعات من اللبنانيين وبعض العرب بهذه الحوادث، وبمعانيها وتأويلاتها، لنفسها، أي لأخص خاصها او خصوصيتها، ولأعم ما"في"هذه النفس ومنها. وعلى هذا، فجورج حاوي، مناضلاً حزبياً وسياسياً من صنف اقران لبنانيين وإنساناً او فرداً عرفه بعض من ألفوه وألفهم، جورج حاوي هذا، بعد مصرعه اغتيالاً في وقتنا اللبناني، مرآة. وينظر في المرآة هذه بعض من ينسبون انفسهم الى حوادث ومعان تسوغهم في عين انفسهم، وتصل حاضرهم بماضيهم بحبل قوي ومتين. فلا يضيع شيء من الماضي، ولا يخسر ناسبو انفسهم وواصِلو حاضرهم بماضيهم"مرحلة"من مراحله ماضيهم او منعطفاً من منعطفاته. فيستوي الحاضر"المجيد"، على ما يراه العاكفون على نسبة انفسهم ودوام حبل نسبها، تتمة وافية وشافية لحوادث كانت على الدوام ترهص به، وتقود إليه ولو من طرق غير مقدرة وعصية على التقدير والاستباق. وسلكُ الحاضر في الماضي وجمعهما في معنى واحد ومتصل، سمة يشترك فيها مناضلون على معنى ناشطين لا يجدون معنى او استقامة لحيواتهم وسيرهم وتواريخهم إلا بالتوارث من طريقه أصلاب الآباء الصريحة. فإذا اضطروا الى تجديد، ردوا جديدهم و"متحولهم"الى أصل قديم وثابت. وحملوا جديدهم على اصل"كثير"كان كامناً او خفياً، او مهضوم الحق ومغموط المكانة قبل ان يميطوا هم الستر عنه. وهم لا يهنأون بجديدهم ومحدثهم إلا اذا استولدوه ولادة شرعية من سلف عظيم. والعروبة، ثقافة وسياسة و"روحاً"على قول احدهم، هي مثال هذا النهج في الانتساب، وفي حمل الحاضر على الماضي واستيلاده منه. ولا تخرج المراثي في جورج حاوي ومدائحه، في معرض"التأريخ"له وسرد سيرته تأريخاً وسرداً تقريريين ومجردين من الهوى، عن المثال هذا. فلا ضير في لبنانيته، وفي وطنيته"الكيانية"وبعضهم مدحه بإثباته صنواً لكيان مقصود بالتهديد، ما دامتا صادرتين عن عروبة سابقة. وهذه، العروبة السابقة والمقيمة الثابتة، يقوّي نسب حاوي بها انتهاؤه إليها، واعتناقه إياها، في ختام معركة"تصحيحية"مع"الأممية"السوفياتية، بحسب الرواية الرسمية التي صاغها الراحل طوال عقدين 1969 - 1990 تقريباً. والحق، على زعم اصحاب السيرة، ان اللبنانية والوطنية المقبولتين والمرضيتين الوحيدتين ، في هذه الدائرة من الرواة والمخبرين ، هما اللتان خبرتا العروبة ولابستاها وطهرهما مطهرها. وأما اللبنانية والوطنية اللتان استقتا من معين مستقل هو تاريخ الجماعات المحلية، وعلاقاتها المتوترة والمتنازعة بالسلطنات والإمارات والممالك الكبيرة او الصغيرة، المضطربة على تخوم الصحارى وطرق القوافل وأرباض المدن، فهاتان ينفر منهما اهل العروبة وعصبيتها او عصبياتها الكثيرة التي تنصب واحدتها نفسها معياراً وميزاناً. وزاد نفرة اهل العروبة من اللبنانية والوطنية إقرار هاتين بقوة الروابط والأواصر الناشئة عن تاريخ متغير وكثير ، وإنكارهما، تالياً، ثبات الرابطة العروبية على معنى واحد يتعالى عن التاريخ والفرق والتباين، وتتصرف فيه عصبية قوية. وتحولت النفرة عداء مراً وضغينة حين استثمرت الوطنية اللبنانية موارد الدول الأوروبية، الفاتحة والمستعمرة، في خدمة منازعها، واستقوت بها على المحافظة و"الممانعة""القوميتين". وجاء جورج حاوي، وحزبه الشيوعي، من كنف الوطنية اللبنانية، ومن فروقها وتبايناتها الأهلية والاجتماعية والسياسية والثقافية، الى عصبية فلسطينية خلفت العصبية الناصرية على ميول المحازبين والناشطين و"احلامهم"? على قول يفاخر برد السياسة الى حلم. وأخرج انتقالَه، وحزبه معه، على نحو لم تنضب آثاره المدمرة والمميتة الى اليوم. فهو رد على دسائس"رفاقه"الهرمين "الخيول الهرمة"بحسب شاعرهم المتزمتين والمنكفئين الى حضن"جبهة وطنية"قوضها انسحاب كمال جنبلاط منها، فبات الحزب الشيوعي اللبناني من غير مرسى محلي، رد على دسائسهم لدى"القيادة السوفياتية"بدعوة ملحة وهوجاء الى ركوب موجة عروبية ناشئة، بؤرتها الأردن ومخيماته ثم المخيمات الفلسطينية في بلدان المشرق العربية الأخرى. وحدس جورج حاوي ، ومعه لفيف من الشيوعيين المكبلين بقيادة وحزب باليين يعودان الى وقت سبق"التجديد"الخروتشوفي و"التوسع"البريجنيفي ، حدس في الموجة الفلسطينية الفتية حاجتها القوية الى انواع الوساطات كلها: الوساطة بينها وبين المعسكر السوفياتي الشيوعي، والوساطة بينها وبين"الشعوب"العربية وجماعاتها الأهلية وأحزابها المحلية، والوساطة اخيراً بين الجماعات الفلسطينية، نفسها. ولم يكن الحزب الشيوعي اللبناني غير وسيط او واسطة بين سياسات دولية وبين بعض قطاعات اهلية ومهنية اجتماعية محلية. وهو انشئ وسوّي جهازاً يتولى الوساطة هذه، ويؤلف بين مقتضياتها وبين تظاهرات ناجمة عن"تحديث"الدولة السلطة والمجتمع الجماعات المحليين. وأقام الجهاز على منطقه ووساطته ودوره. ولم يعرقل المنطق والدور هذين الأمر الوحيد الذي كان في وسعه عرقلتهما وخربطتهما، وهو ظهور حركات شعبية قوية. فظهور هذه الحركات كان اوجب مطاليب اجتماعية، وأبنية علاقة سياسية، وكان ندب الى بلورتها أناساً من داخلها. فكان استحال، والحال هذه، على الجهاز الحزبي الهزيل، وعلى قياداته الناشئة في حضنه الضيق، تصدر الحركات. ولا ريب في ان الجهاز السوفياتي الشيوعي صنع على النحو الذي صنع عليه, وزرع في عدد كبير من المجتمعات المتفرقة، ومدّ بپ"الكوادر"والمحترفين الذين مد بهم، ليكون بديلاً من حركات اجتماعية وسياسية شعبية تفترضها"النظرية"وتوجبها. ولكن حظوظ هذه في النشوء والظهور، في مجتمعات تقليدية تغلب عليها الجماعات وعصبياتها وعداواتها الأهلية، ضعيفة لكي لا يُقطع في ان لاحظ لها البتة. وسرعان ما تفتق الجهاز المركزي، الروسي واللينيني ثم الستاليني، عن رسم"نظري"مُتخيّل تناول الأحزاب الشيوعية وبعض"الهيئات"المسايرة ، وهي اقتصرت على"شخصيات"نسبت الى التقدم والتحرر، او الى الوطنية ، تناولها على انها وليدة حركات شعبية فعلية وكامنة، او على انها تستبق مثل هذه الحركات، وتتمتع تالياً بمرتبتها من الحقيقة، ولها ما لهذه ما كان ليكون لهذه من الحقوق التاريخية والسياسية. فذهبت الأجهزة الشيوعية اللينينية - الستالينية، وذهب دعاتها الى الزعم انها ما دامت تقوم مقام مصالح الحركات الشعبية العمالية و الفلاحية و"الوطنية"، وتحل محل اصحابها ، وهم بعدُ في طور النشوء جراء"تأخر"الرأسمالية المحلية وتبعيتها وقصور وعيها مصالحها الحقيقية ، فهي، أي الأجهزة، والمصالح والطبقات واحد احد. وحكم الأجهزة، وقياداتها، هو حكم المصالح والطبقات، لا فرق بينهما. وسمي لغو هذا اللاهوت الاستعاري والمجازي عِلْماً ماركسياً في التاريخ. ولغا بهذا اللغو حسن حمدان مهدي عامل. وتابعه على لغوه"إيديولوجيو"الحزب ، الجهاز. وفي الأثناء، كان جورج حاوي وأصحابه يتقدمون صفوف انصار المنمات الفلسطينية المسلحة وتظاهراتهم، ويستدرجون قوات الأمن اللبنانية والجيش اللبناني الى اطلاق النار عليهم على ما جرى في تظاهرة 23 نيسان/ ابريل 1969 ثم بجوار يارون وعين ابل وبنت جبيل في صيف 1969 وصيف السنة التالية، وإردائهم شهداء. وجرت السياسة، وهي في هذا المعرض دعاوة وتحريض وتنظيم، على المثال المجازي والاستعاري نفسه. فنصبت"النضال الوطني"محل"الصراع الطبقي". ووحدت الاثنين في"الطليعة"المزعومة. وأوكلت الى السلاح الفلسطيني، وحلفه المتعاظم مع القيادة السوفياتية، مهمة حل"التناقض الرئيسي"، وطرفاه"الشعب"و"الامبريالية". وجاز في هذا السبيل التحالف مع من تدعوهم مصالحهم الى مناهضة هذه، ولو غمض"وعي"مصالحهم عليهم، وغشت بصيرتهم صورُ"وعي"متخلفة او زائفة، مثل الطائفية او العصبية العائلية. ولم يكن هذا متوهماً كله ، ولا مصطنعاً اصطناعاً محضاً. فالتضامن مع الفلسطينيين، غداة 1967، وعد لبنانيين كثراً، مقيدين بأفق الجماعات الأهلية وسياساتها الضيق، بأفق رحب يخرجون إليه بحاجاتهم ورغباتهم وأفكارهم ومطاليبهم. وصوّر اندراجُ الفلسطينيين المقاتلين في السياق العالم ثالثي ، الفيتنامي والكمبودي والصيني والكوبي الغيفاري والسوفياتي الروسي خصوصاً، بعد تجريده"النظري"والانفعالي من ملابساته الدولية والقومية والمحلية ، صور معركتَهم، والتضامن معهم، في صورة زاهية الألوان والمعاني. وحسب شيوعيون او"تقدميون"متعلمون "مثقفون"مهنة وطموحاً كثر ان فرصتهم حانت، وأن عليهم ألا يفرطوا في زواج او قران منازع ومشارب محدثة ومعاصرة عزلتهم الى وقت قريب عن"الجماهير"، بمنازع ومشارب جماهيرية وشعبية اصيلة وثابتة، على قول اصحابها في انفسهم وفي جماهيرهم. فغفلوا، في حمى القران، عن تغليبهم مصائرهم الفردية، ومسرحتها الفاضحة والمبتذلة، على تدبر المصائر المشتركة وثمراتها. ولعل هذا هو السبب في السيَر التي يروونها الى اليوم، ويمْثل فيها جورج حاوي على شاكلة علي الزيبق أو الشاطر حسن. فاعتنق الشيوعيون و"التقدميون"هؤلاء، وفي مقدمتهم وعلى هذه المقدمة"العسكرية"امراً وقيادة جورح حاوي، اكثر صيغ العصبية القومية والشعبوية هلهلة وسذاجة وإسفافاً. وأعمى"العداء"-عداء الامبريالية، عداء الرأسمالية، عداء البورجوازية، عداء العصبيات الأهلية والطائفية، عداء الدولة والسياسة والبرلمانية، عداء النفس المنقسمة وغير المتجذرة...- بصائرهم وبصائر امثالهم. فحسبوا ان تقويض هيئات الدولة اللبنانية، والمجتمع اللبناني، من طريق المنظمات الفلسطينية الجالية عن الأردن، مفضية لا محالة الى"ثورة ديموقراطية"على منوال"1789"، على قول احدهم. ومثّلوا على الطليعة الحاكمة الجديدة برشيد الصلح في فناء قصر بعبدا. ومهّدوا بكيرينسكي هذا الى"لينين"جنبلاط اللهم ان يكون كمال جنبلاط هو كيرينسكي جورج حاوي ، لينين، على ما ترفع"الثقافةَ الماركسية"، على قول حاوي، التصاويرَ والأشباه. وإلى اليوم، يجدد"مؤرخو"او متذكرو هذه الحقبة من شبابهم وفتوتهم، صور مراياهم. فتشبّه لهم المرايا المسحورة عصر بيروت الذهبي، وثقافة العروبة الديموقراطية، والحرية، والمؤاخاة. فيمدح بعضهم بعضاً، الأحياء والموتى والموتى فوق الأحياء، بما انجزوه في سنوات الرماد هذه، وبما كانوا انجزوا، هم وأحمد جبريل والحاج اسماعيل جبر وصلاح خلف وياسر عرفات وأبو خالد العملة وأبو داود وزهير محسن وابراهيم قليلات وغيرهم كثير تكلأهم عناية صدام حسين المالية ورعاية معمر القذافي وعبدالسلام جلود السياسية، من مهمات جسام ومدهشة، لو لم يحل"الوحش العربي"الذي يغتالهم اليوم ، بعد اغتيال الآلاف المؤلفة من"الجماهير"، وهم وشطر كبير من الجماهير معهم ساكتون او مطرقون او مادحون شعراً ، بينهم وبين النصر المؤزر، أي بينهم وبين"التقاط السلطة المرمية"، على قول بعض دعاتهم. وهم يقبلون اليوم على الحوادث اللبنانية وملء رؤوسهم وقلوبهم"افكار"هذا الماضي وصوره، على روايتهم له. فلا يشكون في انهم صناع حوادث الحاضر"المجيدة"دون الحوادث المخيبة ومن غير سؤال عن"سر"انقلاب"المجد"الى الخيبة، شأنهم في حوادث الماضي التي لا تقل مجداً: 1958، 1969 ، 1973، 1975 ، 1982، 1982- 2000، 2005-؟ ولا يقتصر امرهم على لبنان. فهم يوزعون بركاتهم ، او"تبريكاتهم"على اسم مجالس العزاء الذي ارتضاه جورج حاوي لصرعى"المقاومة الوطنية"، على من يشاؤون. فإنشاء اسطورتهم، او روايتهم، يتقدم أي امر عاجل آخر، وخصوصاً تناول الحوادث والوقائع على وجه قريب من الإلمام بتجاذبها وخبطها والتواءاتها، ومن تعليل التجاذب والخبط والالتواءات هذه. وليست افنية"القبور"، على قول بعض الإمامية، الموضع المناسب لتناولٍ وتعليل من غير طينة الإنشاء الأسطوري وإطنابه وانتشائه. كاتب لبناني.