عندما كان الثوار الإرلنديون يقومون ببعض التفجيرات وأحداث العنف في لندن، كانوا يسوّغون ذلك بأن بريطانيا العظمى تستعمر بلادهم، وأنهم يريدون بهذه الاساليب إرغامها على الانسحاب من هناك! وفي هذا التصوير للمشكلة الايرلندية تبسيط شديد. ففي ارلندا البريطانية أكثرية بروتستانتية تريد بقاء الحكم الانكليزي، والكاثوليك وحدهم يريدون الاستقلال، شأن ما حصلت عليه ارلندا الشمالية. ومع ذلك فقد كان هناك كثيرون في اوروبا والولاياتالمتحدة يضغطون من اجل دفع بريطانيا لحل المشكلة بأي ثمن، على رغم استنكارهم لارهاب المدنيين داخل ارلندا وخارجها، والأمر نفسه قيل ويقال عن ثوار الباسك، الذين يريدون استقلال ذلك الاقليم عن اسبانيا، وفي الحالين وصل الأمر من طريق العنف والتفاوض الى حلول سياسية لم ترضِ الراديكاليين، لكنها ارضت الكثرة التي تريد الاستقرار والسلام، وان على حساب الاستقلال والحرية، من وجهة النظر الاثنية والوطنية! ومشكلات الاثنيات والاقليات ليست قصراً على اوروبا الغربية بل هي اكثر واكبر وافدح في اوروبا الشرقية والبلقان وآسيا الوسطى والقوقاز، واقطار آسيا الشرقيةوالصين. لكن الطريف ان البلقان المتفجر منذ قرنين، ما عرف هولاً اشد لهذه الناحية، من مشكلة الاقليات الاسلامية في صربيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو وسلوفينيا. واستخدم كل الاطراف العنف عند انهيار الاتحاد الصربي. لكن المسلمين هناك، كانوا الاقل اندفاعاً في التصرفات العنيفة بسبب العجز في الامكانات، ثم بسبب القيادات الحكيمة التي لم تر في العنف سبيلاً لحل مشكلات الحرية والاستقلال، وكان همها منذ البداية الابقاء على خطوط التواصل من اجل الاندماج في اوروبا المرفهة، وذات الحاضر والمستقبل الواعدين، ونجح المسلمون في البوسنة والهرسل بالكفاية من جهة، ثم بسبب النزعات الانسانية الجديدة والقديمة في اوروبا والولاياتالمتحدة. والذي أراه ان مشكلات الاقليات الاسلامية والشعوب الاسلامية الصغيرة، والموروثة من العهود الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت قابلة للحل بالاسلوب نفسه، لولا بروز الاصولية الاسلامية العنيفة. فهناك مشكلات استعمارية واثنية ولغوية في روسيا الاتحادية، وفي القوقاز المجاور، وفي الصين، كان معترفاً منذ عقود كثيرة، ان لا بد من ايجاد حل لها استقلالي او بصيغة الحكم الذاتي. والامر نفسه يمكن قوله عن قضية كشمير بين الهند وباكستان، والاقلية الاسلامية في الفيليبين أو تايلاند أو ميانمار. وحدثت مأساة 11/9/2001 فتغيّر المشهد كله. اذ شنت الولاياتالمتحدة، ودعمها العالم، حرباً على الارهاب الاسلامي، حملت جيوشها الى افغانستان والعراق، ودول عربية واسلامية في آسيا وافريقيا. وكانت لذلك آثار مريعة على مشكلات الاقليات الاسلامية والشعوب الصغيرة في سائر انحاء آسيا وافريقيا. وسارعت الدول التي تملك اقليات اسلامية الى الانضمام للولايات المتحدة في حربها على الارهاب، واعلنت ان سائر حركات التحرر ضمن اقلياتها انما هي حركات تشدد وارهاب اسلامي. وما نجت القضية الفلسطينية من الاضرار الفادحة، بعد ان انضمت اسرائيل الى الحرب على الارهاب، في الوقت الذي اقبلت تنظيمات اسلامية فلسطينية على ممارسة العمليات الانتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين في الغالب. بيد ان هذا كله ظل أمراً يمكن فهمه باعتبار ان ارض فلسطين مستعمرة، وكذلك ارض الشيشان او كشمير. انما الذي ما امكن فهمه ولا تسويغه، على رغم كل المحاولات، امتداد"العنف الاسلامي"بالتفجير والانتحاريات الى مدريدولندن وباريس...الخ، في السنوات العشر الاخيرة. والجديد في هذا العنف انه مرتبط دائماً تقريباً بالقاعدة ولو على سبيل الرمز، وأنه لا يملك هدفاً أو شبه هدف، اذ لا يمكن ان يصدق الاسلاميون الآمرون او المأمورون ان نظام الحكم في فرنسا او بريطانيا او اسبانيا يمكن تغييره بهذه الطريقة. كما لا يمكن قبول الزعم بأن هؤلاء الشبان البريطانيين من ذوي الاصول العربية او الاسلامية انما يقتلون المدنيين في لندن لأنهم يريدون الانتقام للعراق أو فلسطين. وبذلك صار العنف الاسلامي هناك، عنفاً عبثياً مدمراً لحياة الجاليات الاسلامية الكبيرة في اوروبا، بسبب ما يثيره من انطباعات وشكوك، وبسبب لجوء الدول الى تشديد الرقابة على المسلمين وسائر نشاطاتهم الخيرية والسياسية والاجتماعية والانسانية! لذلك يكون علينا ان نخرج من اطروحات التفهم والتسويغ والتبرير. واقصد بذلك هنا اولئك الذين يعترضون على الاعمال الارهابية باسم الاسلام في البلدان العربية، وفي انحاء العالم الاخرى. وليس اولئك الذين يعتبرون الارهاب سلاح العاجزين المتبقي. فهؤلاء وحججهم ونفسياتهم جزء من المرض المتفشي في جسد الامة، اذ يتوقفون عن التفكير في العمل الجدي والاصلاح والتغيير، ويكتفون بالانتقام والثأر دونما اهتمام بالنيل من المجرم الحقيقي، ودونما اهتمام بالمستقبل الخاص والعام. لكن هناك فئة كبرى من اهل الرأي والعمل السياسي العربي والاسلامي انهمكت في العقد الماضي بدراسة اعمال العنف باسم الاسلام بجدية واخلاص. وهذه الفئة مهمومة فعلاً بالعراق وبفلسطين، ولذلك اعتبرت ان ما يقوم به الفلسطينيون بشتى فئاتهم امراً له ما يبرره في احتلال بلادهم وبلادنا، وفي العنف الاسرائيلي الشرس والذي يصل الى حدود الابادة والالغاء. ولست معهم في هذه التأملية التسويقية حتى في فلسطين والعراق. ليس لأنني لا اريد تحرير فلسطين واقامة الدولة، بل لان العمل السلمي وشبه السلمي أجدى في الوصول للهدف الذي نريد. لكن الامر يصبح عبثاً بحتاً ولا جدال معقولاً حوله عندما تصبح التفجيرات في مكة والرياض ومدريدولندن وبالي... الخ. الأمر هنا عبث واجرام ولا شيء غير، وكل من يزعم غير ذلك او يتريث فيه يعاني من قصور عقلي او عدم قدرة على تحمل المسؤولية. كيف نخرج من هذا العنف الاعمى او عليه؟ لا خروج منه الا بالاصرار وباجماع على اننا جزء من هذا العالم، ونحن مسؤولون مثلنا مثل غيرنا عن السلم والعدالة فيه، وفي ديارنا كما في لندن وباريس. ومن لا يتحمل المسؤولية هناك، لا يستطيع المطالبة بتحملها في فلسطين والعراق.