تردَّد كثيراً في الأدبيات الثورية الشيوعية والاشتراكية في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي أنَّ أبطال الحرية الذين قادهم طغاة بلدانهم وجلادوها إلى أعواد المشانق كانوا يعلنون، بما كان قد تبقَّى في حناجرهم وفي مشاعرهم من طاقة على الصراخ، في اللحظات الأخيرة التي سبقت التفاف حبال المشانق حول رقابهم: لو أتيح لنا أن نعود إلى الحياة من جديد لما اخترنا سوى هذه الطريق ذاتها إلى الحرية، ولو بهذا الثمن الباهظ ذاته! ولهذه النماذج الفذَّة من ابطال الحرية أسماء ذات صفات وسمات يضج بها ويفخر تاريخ تلك الحقبة من النضال الثوري المفعم والمثقل بهم وبمهمة تغيير العالم، عندما كان مشروع ذلك النضال في أوج ازدهاره، وعندما كانت الأفكار التي يستند إليها في أوج مجدها. اليوم تغيَّر العالم. وتغيَّرت سمات تاريخه. وتغيَّرت ظروف النضال فيه من أجل التغيير، أي من أجل الحرية بكل مضامينها للأفراد وللشعوب على حد سواء. وتعددت أشكال التعبير عن ذلك الهم وعن تلك المهمة. وتغيَّرت، في الوقت عينه، أنماط الطغيان. وتغيَّرت الأنظمة والسلطات التي تمثل هذا الطغيان. وتغيَّرت، مع كل هذه الشروط، أساليب مطاردة أبطال الحرية، وأدوات إزالتهم من الوجود. حلَّت أنظمة الاستبداد الجديدة محل الاستبداد القديم. وحلَّ محل المشانق التي كان يعلَّق عليها الأحرار سلاح الإعدام بالرصاص الحي، وسلاح القتل بالجملة وإلقاء الجثث في المقابر الجماعية، وسلاح الاغتيال بالرصاص المغطى بكاتم الصوت، وسلاح الاغتيال بالقنبلة أو العبوة الموقوتة المزروعة في الأماكن الخفية. وتعذَّر على أبطال الحرية الجدد، بفعل هذه المتغيرات كلها، أن يعلنوا، قبيل لحظة الموت غير المرتقبة، بأعلى ما في حناجرهم من قدرة على الصراخ، التزامهم بالدفاع عن الحرية، مستعيضين عن ذلك بالموقف الثابت، وبالشجاعة في قول الحقيقة، وبالنقد الذي لا هوادة ولا مهادنة فيه، وبالاستخفاف بالحياة، إذا كان لا بد من تقديمها ثمناً غالياً دفاعاً عن الحرية، ومن أجل تأمين شروط انتصارها. ألا يشير ذلك إلى أن الطريق إلى الحرية في بلداننا لا تزال، منذ قديم الزمان، غير سالكة، وأنها مملوءة بالألغام وبقطاع الطرق وباللصوص وبالقَتَلة؟ ومع ذلك فما أكثر الذين يرون في سلوك هذه الطريق، وبأغلى الأثمان، مهمة لا ترقى إلى مستواها أي مهمة. كان مهدي عامل مفكِّراً ماركسياً ملتزماً. كان يحاول تقديم رؤية جديدة للعالم ولبلاده، في شروط عصر كان يضج بأحلام التغيير، ويزدحم بوقائع تصعِّب وتعقِّد وتعيق تحقيق تلك الأحلام. ولذلك كان فكر مهدي كله نقدياً في أساسه. وكان نقده يطاول الوقائع القائمة، ولا يستثني حتى مشاريع التغيير، بما في ذلك المشروع الاشتراكي ذاته الذي كان ينتمي إلى مرجعيته الفكرية، الماركسية. لكنه كان عنيفاً في نقده للطائفية وللنظام الطائفي في بلده لبنان. وحين اغتال كاتم الصوت صديقه الكبير، ورفيقه في الدرب وفي الفكر وفي المعركة دفاعاً عن الحرية، حسين مروة ابن الثمانين في فراش نومه، لم يعبأ بكل ما جاءه من إشارات كان بعضها صريحاً إلى حدود الوقاحة بأنه، أي مهدي، سيكون الهدف الثاني بعد حسين مروة لكاتم الصوت أو لسواه من أسلحة الاستبداد والظلامية. ولم يلتفت إلى تحذيرات رفاقه وأصدقائه بضرورة التنبُّه إلى ما يحيط به من مخاطر. ولم يشأ أن يغيِّر مكان إقامته، ولا طريق سيره المعتاد إلى معهد العلوم الاجتماعية كل صباح لملاقاة طلابه. لم يشأ أن يغيِّر أياً من عاداته. إذ كان يعتبر أن مثل ذلك سيكون من قِبَله رضوخاً أمام الخصم في تقليص حقّه بالحرية. وظلَّ يمارس نشاطه الفكري بالطريقة ذاتها من دون تعديل. وظلَّ يمارس حياته كما لو أنَّ شيئاً جديداً خطيراً لم يحصل. وظلَّ يواصل انتقاله إلى معهد العلوم الاجتماعية للقاء طلابه مشياً على الأقدام، إلى أن اعترضه كاتم الصوت، من داخل سيارة كانت تنتظره في طريقه إلى المعهد، برصاصات أصابت قلبه الذي كان عامراً بالحياة، وأصابت المركز الذي كانت تختزن فيه أفكاره الجديدة الرائدة. سمير قصير، ابن ال45 عاماً، الذي كان بمثابة الأخ الصغير لمهدي عامل، وبمثابة الابن لحسين مروة في الفكر وفي العمر وفي التجربة وفي السلوك، لم يختلف، في مواجهة الأخطار التي كانت تحيط به وتهدده من كل جانب،لا عن هذين الرمزين الكبيرين من رموز النضال بالفكر وبالسلوك من أجل التغيير، ولا عن أولئك الأبطال الذين ارتبطت أسماؤهم وسماتهم وصفاتهم بالحركة الثورية المناضلة من أجل التغيير في ثلاثينات وأربعينات وخمسينات القرن الماضي. كان سمير قصير، منذ مطلع شبابه، يسارياً يحلم بتغيير بلاده في اتجاه التقدُّم. ولم يغيِّر موقعه اليساري قط إلاَّ في الاتجاه الأكثر تحرراً من القديم الذي كان يشيخ، والأكثر تحرراً من اليقينيات التي تعيق التطوير والتجديد. وظلَّ في موقعه هذا على رغم انضمامه إلى منابر لم تكن معروفة بيساريتها، لكنها كانت منابر للدفاع عن الحرية لبلداننا ولشعوبنا وللإنسان الفرد فيها، ضد كل أنواع الاستبداد، أفكاراً وأنماط سلوك وأنظمة حكم. كان سمير قصير صاحب قلم جميل. وكانت أرقى عناصر الجمال في قلمه أفكاره الجريئة، حاملة الرغبة الجامحة في التغيير والرافضة بحزم لكل أشكال الاستبداد القديم منها والمتجدد. لذلك فقد كانت كتاباته نقدية لاذعة. وكان النقد فيها سلاح المثقف، سلاحه الماضي الكاسر، السلاح المحصن بالشجاعة والمصوَّب في الاتجاه الصحيح، من دون مهادنة أو مساومة. كانت كتابات سمير الأولى باسم مستعار في جريدة"النداء"عندما كان لا يزال طالباً في السابعة عشرة من عمره. كان يومها عضواً غير معلن في الحزب الشيوعي اللبناني في مكان إقامته في منطقة الأشرفية في بيروت، ثم في باريس في مطلع الثمانينات، وذلك لفترة قصيرة ساهم خلالها في كتابة وترجمة مقالات في النشرة التي كان يصدرها مكتب الحزب الشيوعي اللبناني في باريس بعنوان: Le Liban en Lutte. وظلَّ يسارياً في كتاباته، في مجلة"دراسات فلسطينية"في طبعتها الفرنسية، باسم القضية الفلسطينية ودفاعاً عنها، أو باسم المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، ثم في مجلة"لوموند ديبلوماتيك"، ثم في مجلة"اليوم السابع"، ثم في جريدة"الأوريان لوجور"وفي المجلة الثقافية التي كانت تصدر عنها والتي أوكلت إليه رئاسة تحريرها، وصولاً إلى جريدة"النهار"التي صارت مقالاته فيها واحدة من أهم ميزات هذه الجريدة الثابتة في موقفها دفاعاً عن الحرية. واجهت سمير قصير حملة قاسية من المضايقات والضغوط النفسية من قِبَل أجهزة النظام الأمني اللبناني السوري، من أجل إرهابه. لكنه صمد في وجه تلك المحاولات، وعضَّ على جراحه، واستمرَّ في الطريق ذاتها التي اختارها منذ مطلع شبابه. وكان يعرف أن سلوك هذه الطريق مليء، ليس بالأشواك وحسب، بل بكل أنواع المخاطر، التي قادت إلى الموت قبله رفاقاً له وأصدقاء من المدرسة ذاتها، وحتى من مدارس فكرية أخرى، كان الشيخ صبحي الصالح أحد أبرز ممثليها. وما أظنه كان غافلاً عن رؤية مثل ذلك المصير. فجاءت العبوة المفخخة القاتلة لتؤكد أن ذلك الاحتمال الفظيع صار أمراً واقعاً. ودخل سمير، مع مهدي عامل وآخرين قبله وبعده، وآخرين قبلهما، وربما بعدهما، في قافلة شهداء الحرية، الذين يشكلون أحجار الزاوية في بناء نهضتنا العربية الجديدة القادمة، المتمثلة بإقامة دولة الحرية والتقدم والعدالة، في لبنان وفي سائر بلداننا العربية. كان سمير قصير، مثل مهدي عامل، مثقفاً ينتمي إلى جمهرة كبيرة من المثقفين القدامى والمحدثين، الذين تشكل الأفكار مادة إنتاجهم، وتشكل الكتابة وسائل التعبير عنها. كانوا، في حقيقة أمرهم، كائنات إنسانية فردية، بحكم طبيعة عملهم، أي كمنتجي فكر أفراد. لكن أفكارهم الحرة، أفكارهم التي كانت تمثل صيغة انتمائهم إلى شعوبهم في نضالها من أجل الحرية والتقدم، جعلتهم كائنات إنسانية جماعية، يشكلون بأفكارهم ومواقفهم الشجاعة جزءًا أساسياً مكوناً من الحركة العامة الرامية إلى صياغة مستقبل زاهر لبلداننا بالمفرد وبالجمع. من أبرز الذين ساهموا في انتفاضة الاستقلال في لبنان. كان رفيقاً دائماً للشباب في ساحة الحرية. لكنه كان يدرك أن الصعوبات والعقبات لا تزال تشكل عوائق لا يستهان بها أمام الوصول إلى المبتغى من الأهداف. وعبَّر في كتاباته عن هذه الحقيقة، تحذيراً منه للشباب من خطر الوقوع في أسر الأوهام. وكان يعرف، في الوقت عينه، أن هذه الصعوبات والعقبات لن تكون أزلية، وان شروطاً جديدة تنضج اليوم، أكثر من أي زمن مضى، لمواجهتها. وكان أهم عناصر هذه المواجهة في نظره يتمثل في هذه اليقظة الجديدة لدى الأجيال الشابة للعب دور كانت مغيبة عنه، وكانت هي ذاتها منكفئة عن ممارسته، على رغم أنه حق لها وواجب عليها. الطريق إلى الحرية هي ذاتها دائماً. والثمن الباهظ الذي يدفعه أبطالها هو ذاته. ولا مجال للتردد في الاستمرار في السير على هذه الطريق حتى بلوغ الأهداف المبتغاة، الأهداف المرتبطة بالتغيير الديموقراطي. إنَّ فجر الحرية قادم لا محالة. وأبطالها الذين يسقطون على الطريق إليها هم أحجار الزاوية في بنيانها القادم، في لبنان وفي أرجاء عالمنا العربي من الخليج إلى المحيط. كاتب لبناني.