عندما فكرت لجنة جائزة بوكر البريطانية بأدراج الكتاب الأميركيين بين المرشحين لها خشي كثيرون ان يستأثر هؤلاء بها ويضيقوا فرص الانتشار والبيع أمام كتاب بريطانيا والكومنولث. فارتأت اللجنة حلاً ثانياً منشئة جائزة أخرى عالمية رشحت لها اسماء بارزة كان من بينها الأميركيون سول بيلو وفيليب روث وجون ابدايك، اضافة الى الألماني غونتر غراس والألباني اسماعيل كاداريه والتشيكي ميلان كونديرا والبريطاني ايان ماكيوان والياباني كنزابورو اوي والمصري نجيب محفوظ والاسرائيلي أ ب يهوشوا. كان بيلو الأوفر حظاً لكن وفاته غيّرت الاتجاه. فاز اسماعيل كاداريه الذي حددت مكاتب المراهنات نسبة حظه في الفوز من أربعين الى واحد مقابل خمسة الى واحد لسول بيلو. قال جون كاري رئيس لجنة التحكيم ان كاداريه"كاتب يمسح ثقافة بكاملها، تاريخها، هواها، فولكلورها، سياستها، كوراثها. انه كاتب شامل يعود القص عنده الى تقليد يبلغ هوميروس". تحدث الكاتب عن انتمائه الى"قسم من أوروبا اشتهر بأخبار الشر الانساني: الصراعات المسلحة، الحروب الأهلية، التطهير العرقي وغيرها. أملي كبير بأن يدرك الرأي العام الأوروبي والعالمي ان المنطقة التي ينتمي اليها وطني ستنتج اخباراً وانجازات من نوع آخر، في الفن والأدب والحضارة". كاداريه سيستلم الجائزة و60 ألف جنيه استرليني و15 ألف جنيه استرليني للترجمة في احتفال في أدنبره، عاصمة سكوتلندا، في 27 الجاري. ظل الشاعر والروائي الألباني إسماعيل كاداريه، الحاصل أخيراً على جائزة مان بوكر البريطانية التي تمنح للمرة الأولى لكاتب عالمي عن مجمل أعماله الروائية، أكبر كاتب ينتمي إلى بلدان أوروبا الشرقية، وواحداً من أبرز روائيي العصر. في أعماله يمتزج التاريخ المحلي لألبانيا بمفاصل التاريخ الكوني، بالحكايات الأسطورية التي تشكل الأرضية التي يقوم منها عمله للتعبير عن المكابدة الوجودية للأفراد والجموع التي كانت تعيش في سجن الدولة الاستبدادية في عهد الزعيم الألباني السابق أنور خوجا. وهو منذ ثمانينات القرن الماضي اسم يتردد بقوة كفائز محتمل بجائزة نوبل للآداب. هذه الجائزة الكبيرة، التي منحت لمن هم أدنى منه قامة في المشهد الأدبي العالمي، كانت تتخطاه على الدوام حتى بعد رحيله إلى فرنسا، وطلبه اللجوء السياسي عام 1990 قبل أشهر قليلة من سقوط النظام الشيوعي المتشدد في ألبانيا. ولكن يبدو أن جائزة بوكر، هي بمثابة اعتراف من العالم الأنغلوساكسوني بهذا الكاتب الذي يعد، منذ خمسة عشر عاماً تقريباً، أقرب إلى العالم الفرانكوفوني بحكم إقامته في باريس، ونشره كل ما يكتب باللغتين الألبانية والفرنسية، واضطرار معظم المترجمين إلى نقل أعماله إلى الإنكليزية عن لغة وسيطة هي الفرنسية. قد يكون اللجوء إلى اللغة الفرنسية، من أجل ترجمة نصوص كاداريه في الدول الأنغلو ساكسونية، مجرد نقص في المترجمين عن الألبانية مباشرة، لكنه يعني، من ضمن ما يعنيه، نوعاً من الاعتراف بانتماء كاداريه إلى البلد الذي قرر الإقامة فيه، ولو بصورة جزئية بعد عودته إلى ألبانيا مجدداً عام 1999، وإلى العالم الفرانكوفوني الذي اعترف به وترجم أعماله وانتخبه لكرسي كارل بوبر في أكاديمية العلوم السياسية والفلسفة الأخلاقية الفرنسية عام 1996. ولد كاداريه في مدينة جيروكاسترا في جنوبألبانيا عام 1936 وهي مدينة أنور خوجا دكتاتور ألبانيا. ودرس في جامعة تيرانا عاصمة ألبانيا، ثم سافر إلى موسكو ليدرس في معهد غوركي للأدب العالمي. وعندما عاد إلى بلده عام 1960 وجد أن خوجا قطع علاقاته مع موسكو وأقام حلفاً مع الصين البلد الشيوعي المناوئ عقائدياً للاتحاد السوفيايتي في ذلك الحين. بدأ الكاتب الألباني عمله في ذلك الوقت صحافياً، ونشر بعض أشعاره، ولكن ما كرسه ككاتب وأطلق اسمه في الأدب الألباني كان عملاً روائياً في عنوان"جنرال الجيش الميت"وقد صدر عام 1963، وجعله ينصرف الى الكتابة في تلك الفترة. ثم تتابعت أعماله في ما بعد حيث أصدر: العرس 1968، الحصن 1970، مدينة الحجر 1971، الشتاء العظيم 1977، الجسر 1978، نيسان مكسور 1978، دورنتين 1980، قصر الأحلام 1981، الحفل الموسيقي 1988، ربيع ألبانيا 1991، الهرم 1991، مرثية إلى كوسوفو 2000، أزهار ربيعية، صقيع ربيعي 2002، إضافة إلى أعمال أخرى بلغت في طبعتها الأخيرة بالألبانية والفرنسية تسعة مجلدات. مجاز الاستبداد يمكن القول إن رواية"قصر الأحلام"هي مجاز سياسي للاستبداد، وبالأحرى هي نوع من التعبير الرمزي الفانتازي عن الأشواق السياسية للمقهورين الذين يحلمون بإسقاط الديكتاتور، ولكن من طريق الأحلام، كأن تختار الشخصية الرئيسة الأحلام وتقوم بتصنيفها حتى تستطيع في النهاية اكتشاف"الحلم الأكبر"الذي يكون بمقدوره إسقاط الحكام وقلب أنظمتهم. أما رواية"الحفل الموسيقي"، التي اعتبرتها مجلة"لير"الفرنسية أفضل رواية تصدر بالفرنسية حين ترجمة إلى اللغة الفرنسية عام 1991، فتتخذ من موضوع انشقاق ألبانيا عن الصين مادتها السردية كاشفة عن تقلبات الدكتاتور ومزاجه السياسي الذي لا يحتمل. على خلفية هذه الأعمال الروائية التي أنجزها كاداريه خلال عيشه في ألبانيا طوال فترة حكم أنور خوجا، والتي تدور في معظمها حول الاستبداد والسلطة المطلقة، والحاكم الذي يعد أنفاس محكوميه، ولعبة التاريخ الذي يكرر نفسه، يبدو مستغرباً أن يكون كاداريه قريباً من أنور خوجا، وهو الأمر الذي جلب للكاتب الكثير من النقد داخل بلده وخارجها، ويبدو أنه حال دون حصوله على جائزة نوبل للآداب، وقد يحرمه منها إلى الأبد. كان كاداريه متهما، ولا يزال، بعلاقته القوية مع دكتاتور ألبانيا السابق أنور خوجا، فهما، كما أشرت سابقاً، من البلدة نفسها"كما أن إسماعيل كاداريه انتخب ثلاث مرات عضواً في مجلس الشعب الألباني، وكان، بحسب محمد الأرناؤوط المتخصص في الأدب الألباني وفي أعمال كاداريه أيضاً، من القلة القليلة التي يسمح لها بالسفر خارج البلاد في الوقت الذي كان الكتاب يتعرضون للمنع من الكتابة والاعتقال والسجن والنفي والقتل أنظر كتابه: إسماعيل كاداريه بين الأدب والسياسة، دار أزمنة، عمان، 2005. الروائي المتهم يرد كاداريه التهم عن نفسه في حوار أجرته معه مجلة"باريس ريفيو"في عددها الرقم 153 1998، بالإشارة إلى روايته"الشتاء العظيم"التي تهاجم"التحريفيين"! في الشيوعية وتدافع عن نظام أنور خوجا، قائلاً:"بين عامي 1967 و1970 كنت تحت رقابة الديكتاتور نفسه. وقد كان خوجا، ولسوء حظ المثقفين، يعد نفسه مؤلفاً وشاعراً، ومن ثمّ"صديقاً"للكتاب. ولأنني كنت الكاتب الأشهر في ألبانيا كان مهتما بي بصورة خاصة. في مثل هذا الوضع كان لدي ثلاثة خيارات: أن أتمسك بمبادئي، وهو ما يعني الموت"أو أن أختار الصمت التام، وهو موت من نوع آخر"أو أن أدفع الثمن وأقدم بعض الرشوة. وقد اخترت الأمر الثالث فكتبت"الشتاء العظيم". لقد أصبحت ألبانيا حليفاً للصين، ولكن كان هناك احتكاكات بين البلدين ما قاد إلى تهاوي التحالف بينهما في ما بعد. وبعقلية دون كيشوت، ظننت أن في إمكان كتابي هذا أن يسرع عملية الابتعاد عن الصين عبر تشجيع خوجا على القيام بذلك. وبكلمات أخرى، اعتقدت أن في مقدور الأدب أن يحقق المستحيل - أن يغير الدكتاتور". ومع أن كاداريه تعرض فعلاً لمضايقة نظام أنور خوجا، إذ منع من النشر عام 1975 مدة ثلاث سنوات، ومنع أيضاً من نشر روايته"قصر الأحلام"عام 1981، واضطر عام 1986 إلى تهريب كتاباته وتأمينها لدى ناشره الفرنسي، وانتهى ذلك كله برحيله إلى فرنسا عام 1990. إلا أن هذا القدر من مضايقة النظام الألباني، له أيام الشيوعية، لم يعفه من الاتهام بمسايرة الدكتاتورية وإقامة صلات قوية معها، وحتى كتابة ما يرضيها في بعض مراحل تطوره الأدبي. ولعل أعمال كاداريه الشعرية والروائية تمثل هجوماً غير مباشر على الاستبداد والتحكم برقاب الناس، وتقدم للبشرية أدباً ذا طبيعة رمزية مجازية يعبر عن توق الإنسانية للحرية والخير والجمال. لكن ضعفه أمام السلطة طوال ما يزيد على ثلاثين عاماً أبقاه معرضاً للانتقاد الشديد داخل بلاده وخارجها. يقول كاداريه إن"الكاتب هو عدو طبيعي للدكتاتورية"، و"إن الديكتاتورية والأدب الحقيقي لا يجتمعان". لكن الكاتب يمكن أن يسكت عما ترتكبه السلطة المستبدة من جرائم، وهو لدوره الذي يحدده لنفسه كمثقف يكون شريكاً في صورة غير مباشرة في قبول الاستبداد. ولهذا فإن علاقة الكاتب الألباني الشهير بدكتاتور بلاده أنور خوجا بقعة سوداء في مسيرته الأدبية ستظل تلاحقه وتقض عليه مضجعه وتحرمه من جوائز كبيرة يسعى للحصول عليها.