مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    الأمن.. ظلال وارفة    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    ضيوف برنامج خادم الحرمين يؤدون العمرة    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    «إسرائيل» ترتكب «إبادة جماعية» في غزة    التحليق في أجواء مناطق الصراعات.. مخاوف لا تنتهي    من «خط البلدة» إلى «المترو»    أهلا بالعالم    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    كرة القدم قبل القبيلة؟!    قائمة أغلى عشرة لاعبين في «خليجي زين 25» تخلو من لاعبي «الأخضر»    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    ضبط شخص افتعل الفوضى بإحدى الفعاليات وصدم بوابة الدخول بمركبته    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    رفاهية الاختيار    النائب العام يستقبل نظيره التركي    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    استثمار و(استحمار) !    وسومها في خشومها    وانقلب السحر على الساحر!    منتخبنا كان عظيماً !    الضحكة الساخرة.. أحشفاً وسوء كيلة !    الأخضر يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة العراق في خليجي 26    نيابة عن "الفيصل".. "بن جلوي" يلتقي برؤساء الاتحادات الرياضية المنتخبين    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    إحباط تهريب (140) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    آل الشيخ: المملكة تؤكد الريادة بتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن حكومة وشعبا    موارد وتنمية جازان تحتفي بالموظفين والموظفات المتميزين لعام 2024م    "التطوع البلدي بالطائف" تحقق 403 مبادرة وعائدًا اقتصاديًا بلغ أكثر من 3مليون ريال    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    مسابقة المهارات    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكرسي البابوي بين عصرين : قراءة في مسيرة يوحنا بولس الثاني
نشر في الحياة يوم 07 - 05 - 2005

حين تهاوى الحبر الأعظم يوحنا بولس الثاني في أيار مايو 1981 مصاباً برصاص"محمد علي آغشا"، القاتل المحترف، سمع البعض البابا يهمس:"لماذا أنا ؟ لماذا أنا؟".
هذه الكلمات القليلة، في تلك اللحظات، تساعد المتأملَ اليوم على فهم جانب أساس من مسيرة رجل مؤمن برسالة ديانة كبرى طالما امتحنت عبر العصور.
"لماذا أنا؟": استفهام إنكاري أطلقه قائله وكأنه لم يدُرْ في خلده أن يكون، وهو الداعي إلى السلام والمحبة، مستهدَفًا بالقتل شأن رجال آخرين بيدهم قهر النفوذ وسطوة السلطان الزمني.
ما استقر عليه الفكر المسيحي في صياغته الكاثوليكية هو أن رسالة الدين هي خلاص الإنسان وتدبير معنى الحياة أما العلاقة بالشؤون العامة للمدينة وما يتصل بالفعل في الزمن فإن له نظاماً وحركة خاصين لا ينبغي أن يتولاهما رجال الدين. مثل هذه الرؤية تحققت بصعوبة وواكبت تطوّراً للأوضاع الاجتماعية والفكرية في الغرب الأوروبي بما حال نهائياً دون العود إلى ما كانت عليه الأوضاع في القرون الوسطى. لقد انتهى الفكر المسيحي في الغرب الأوروبي إلى أن الحراك الديني عندما يصبح فعلاً في الزمن فإنه يخّرب الدين ولا يفيد السياسة.
هذا ما بلغته سيرورة الأوضاع منذ حركة الإصلاح الديني في الغرب وهي سيرورة اعتمدت تأصيلاً عقدياً وفكرياً للخصوصية المسيحية معطية لكلمة السيد المسيح بعداً معاصراً ينبغي التنبه إليه،"لقد قال عليه السلام:"اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، ما يمثّله الفكر المسيحي في الغرب الحديث من هذه المقولة هو أنه لا ينبغي أن يقدَّس الفعل الزمني السياسي. بذلك كان المؤمن مدعوّاً إلى ألاّ يقدّس ما لا يقدّس من الفعل في الزمن وإلاّ آل الأمر إلى تقويض ذاتية الدين ورسالته من ناحية وإفساد ما يصنعه القائمون على الشأن العام بما يُستعار لهم من مسوغات دينية تُخفي أزماتهم وسوء اختياراتهم من ناحية ثانية.
حين نعود إلى مسيرة البابا الراحل وبخاصة إلى تكوينه المعرفي - الأخلاقي والروحي نكتشف أمراً لافتاً للنظر يؤكد ما سلف. إنه ذلك الوثوق من رسالة الدين المسيحي على رغم استتباب الحداثة الأوروبية وعلى رغم ما يبدو من صلف العقل المنتصر بخاصة في الصياغة الإلحادية الشيوعية. هو وثوق ناتج من استيعاب للفلسفة الغربية عامة وتمثّل بالخصوص لنقدها للفكر المسيحي طوال العصور السابقة. ما يلمسه الباحث في عدد من مقاطع خطب البابا وفي أجزاء من تراثه المكتوب ويدركه أيضاً في التكوين المعرفي اللاهوتي لعدد من رموز الكنيسة المسيحية يثبت أن الموضوع ليس مجرد مراوغة وتزويق لفظي. إنه رهان فعلي بدا واضحاً مع البابا يوحنا XXIII ثم تحمّلَه بولس VI وبعده البابا الراحل بدرجة أقل. إنه الاختيار الذي يعتبر أن الإصلاح الديني والأنوار والحداثة وإن غيرت جذرياً من وعي الإنسان الغربي بخاصة وإدراكه لنفسه وللعالم فإن هذا لا يعني ضرورة استنفاذ الدين لأغراضه. لذلك فما تحقق من اصطدام الكثيرين بالسلطة الكنسية الأوروبية باعتماد معارف علمية موثَّقة ومناهج فكرية جديدة أمر يحتاج إلى إعادة نظر تتطلب مراجعات عميقة ومريرة. مثل هذا التوجه قام به ولا يزال رجال دين يريدون أن يستعيدوا ظلهم في أرض المعرفة والعلم لكن من دون أن يعني ذلك القبول باستئصال للدين ولإيمان المؤمنين.
هذا جانب مما اعتمده البابا الراحل في انفتاحه على عالم متطوّر معقَّد ومأزوم. كانت رحلاته في مختلف الأصقاع تعني أوّلاً قبول تحدي المشاكل الماثلة في كل قطر يتجه إليه، إضافة إلى ذلك فهي تعني ضمنياً نقداً للذات ولأخطاء الكنيسة الكثيرة التي لا مفر من الإقرار بها ومواجهتها بما تحتاجه من خُلُق التواضع وصرامة الوعي.
تلك هي المفارقة الكبرى التي أتاحت للبابا الراحل صدقية فاجأت صنّاع القرار وأصحاب الفكر والنفوذ في أوروبا أولاً والعالم بعد ذلك. إنها مفارقة من يكتشف نقاط ضعفه فيواجهها مريداً أن يحوّلها إلى مرتكزات قوّة. مثل هذا الاختيار لم يصنعه البابا، فالمؤكد أن الكنيسة الكاثوليكية من قبله بدأت حركة غير عادية منذ المجمع الفاتيكاني الثاني في تشرين الأول أكتوبر 1962. كانت حركة أقرب إلى الثورة لأنها اعترفت بالمفارقة الكاثوليكية وقررت مواجهتها بكلمة هي مشروع كامل: التحيين. إنها الAggiornamento أو المواكبة التي تعني أننا إذا أردنا أن نحتفظ بمكانتنا في العالم فلا مناص من الاستماع إلى هموم العالم وهواجسه ولن يتحقق ذلك إلا إذا نزّلنا المعتقدات الكاثوليكية في هذا العصر.
ما أراده البابا الراحل إضافة إلى ذلك، بل وقبل ذلك، هو أن يكون أباً يحنو على إنسانية تعاني أدواء ضياع المعنى وبؤس الحياة. أدرك البابا وهو القادم من بولندا الأسيرة أن الشعوب محتاجة إلى قيم ومعانٍ كادت تندثر. من ثم جاء تركيزه على أمرين اعتبرهما الرافعتين الأساسيتين للإيمان وللحياة الروحية: النظام الأخلاقي وحماية مؤسسة الأسرة التي تراجعت أهميتها وانهارت منها مكانة الأب في زحمة تحولات جارفة. بذلك انطلق منذ تنصيبه في سنة 1978 مبتدئاً بالعبارة المأثورة"لا تخافوا"التي أراد بها مواجهة نظام شيوعي- ستاليني قمع موطنه البولندي ثم أراد بها بدرجة ثانية عودةً للروح في أوروبا المهددة في إنسانيتها وقيم التضامن والمحبة التي تحقق هويتها.
بهذه الأبوّة الحادبة المشفقة وبتواصل مع حركة إصلاح عقدية ومؤسساتية مضت سنوات البابا يوحنا بولس الثاني سعياً في أن يبقى حافزاً قيَمياً وروحياً في عالم قلق حائر.
هكذا تبدو للمتابع مسيرة الحبر الأعظم، لم يتجاوز فيها حدود التمايز بين الديني والسياسي على رغم ما يمكن أن تذهب إليه بعض التحليلات التي تعتبره الرجل الأخطر دينياً وسياسياً في نهايات القرن العشرين. ما نعتقده بأن الرجل استعاد جانباً من الحضور الكاثوليكي ضمن الحدود التي رسمتها الحداثة في علاقتها بالمقدس. لم يتخط تلك الحدود وما كان له أن يفعل خصوصاً أن بعضاً من أسلافه الذين عايشوا الحرب العالمية الثانية قد أثاروا شكوكاً في صدقية علاقة الكنيسة بالصراعات السياسية الأوروبية. فارق يوحنا بولس الثاني الدنيا بعد أن انتهت الحرب العالمية الثالثة الحرب الباردة وفي رصيده مساهمة إيجابية في تحرير موطنه البولندي باسم مرجعية روحية وأوروبية بامتياز. تلك هي المساهمة الكبرى للحبر الراحل الذي لم يعتبر أن المشكلة في الفصل بين الديني والزمني، بل في حرص مفكرين أوروبيين وحركات إيديولوجية على تجاوز الديني نهائياً بحرمان الإنسان من أي مرجعية متعالية.
الكنيسة بين الأبوّة والعالمية
كانت الحشود الهائلة التي جاءت إلى روما لتوديع البابا الوداع الأخير تعبّر عن تعلّقها برمز قوي حرص الراحل أن يقدّمه طوال ربع قرن وبخاصة في العقد الأخير من حياته حين ظهرت عليه علامات مرض عضال لم يرد أن يخفيه ولم يقبل أن يُثنيَه عن رسالته. دافعُ الحب لهذا الأب الحاني والمُبتلَى يفسر دموع المودّعين من أوروبيين ومن غيرهم. إنه التفاف حول رمز جليّ حريص على إنسانيته بخاصة عندما لم يتردد في إعلان خلافه في ما يذهب إليه بعض الشباب وعدد من المقهورين المنادين بمراجعات مهمة في مسائل اجتماعية وسياسية وخلقية.
هذا ما حدا بالكثيرين من أوروبا ومن غيرها، بل ومن غير المسيحيين أن يعبّروا من دون تردد عن حزنهم العميق والصادق عند وفاة البابا. لقد رأوا في قربه من الشباب ومن المقهورين وفيما كان يصدع به من رأي يعلم مسبقاً أنه غير مقبول، رؤوا فيه بعداً إنسانياً وعفوية حبّبته إليهم.
لكن مع تلك الحشود الشعبية والشبابية كان هناك كبار المسؤولين الرسميين في الدول الفاعلة الذين جاؤوا يعبرون عن مشاركتهم في العزاء. في خصوص هؤلاء بالذات الأمر يستدعي منا بعض الاهتمام لأن حضورهم بهذه الكثافة يطرح أكثر من سؤال.
لقد أعلنت وسائل الإعلام الغربية أن مجيئهم تطلّب احتياطات أمنية مشددة بلغت حد تغطية عسكرية أطلسية لسماء روما فضلاً عن أرضها، فلماذا كل هذا الحرص على المشاركة في العزاء؟
إذا كنا لا نستبعد الحرص على المواساة فإن أهم ما يحرك رجال السلطة وصنّاع القرار من المعزّين أمر يتجاوز الراحل إلى المؤسسة التي صاحبته طيلة حياته والتي ستواصل عملها وتأثيرها في ما يلي من الأيام. إن موقع المؤسسة الكاثوليكية يختلف نوعياً عن شخصية رئيسها، هي باعتبارها هيئة ذات نظام مستقل ووظائف وقواعد عمل تعبّر عن بناء اجتماعي يحمل دلالة حضارية. من ثم فهي لا تنفك منجذبة نحو المجال السياسي تتقاطع مع بعض مشاغله الكبرى فضلاً عن أن رجال السياسة وأصحاب المصالح لا يمكنهم أن يستغنوا عنها على رغم حرصهم الشديد على ألاّ تتجاوز المساحات المسموح بخوضها. لذلك فليس من باب التناقض أن نقول إن البابا كان في مسيرته يعبّر عن بعدين غير متطابقين: بعدٌ إيماني خاص به فهو بامتياز المسيحي المندرج في مسيرة تؤكد الفصل بين الديني والزمني، وبعدٌ تفرضه المؤسسة الكنسية التي تتحرك على خطوط التماس بين المجال الروحي والقيمي وبين مجال الدنيوي - السياسي. من ثم فإن البابا في بُعده الثاني الكنسي يوحي أحياناً بأنه منخرط في جوانب من الفعل السياسي، حصل ذلك مثلاً في أميركا الوسطى والجنوبية هايتي ونيكاراغوا كما تحقق لرجال دين كاثوليك في إفريقيا السوداء رواندا ومذابح التوتسي سنة 1994. لكن هذه الحالات تبقى استثنائية لأنها تعبّر عن مصاعب الكنيسة في مواقع خارج فضائها الرئيسي، الفضاء الأوروبي. في إفريقيا جنوب الصحراء وفي أميركا اللاتينية وجّهت الكنيسة انتقاداتها لمن خرج عن حيادها الإيجابي الذي التزمت به في أوروبا وذهب بعيداً في توجهه النضالي معبّراً عن يقظة العقل الاجتماعي للمؤسسة. مثل هذا الخروج رفضته الكنيسة في عهد البابا الراحل خصوصاً بإدانة"لاهوت التحرر"لأنها كانت تدرك أن حرصها على عدم تجاوز مجالها الديني والخلقي الذي قبلته منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر حقق لها مكانة تزايدت أهميتها الأوروبية باطراد بخاصة مع إعراض فئات واسعة عن الانخراط في العمل السياسي لتراجع صدقية قياداته وضعفه في مواجهة المشاغل الكبرى الموكولة إليه.
لذلك لم تعمل الكنيسة على تجاوز حيادها الإيجابي الواقي على رغم الانتقادات الحادة التي واجهتها في أميركا اللاتينية وإفريقيا. ثم هي أصرّت على ذلك لعلمها بالمصاعب الموضوعية الكثيرة التي تحتاج إلى معالجة أكيدة في المواقع الأساسية الثلاثة وفي المساءلات الكبرى المطروحة عليها.
في أوروبا الغربية، تواجه الكنيسة في موقعها الرئيس، حالاً من التقصّي عن الالتزامات الطقوسية والرفض لمقولاتها الخلقية والأسرية. لقد تحررت عموم المجتمعات الغربية من التوجهات الكاثوليكية معبرة عن تيار عام يستغني عن مرجعية غيبية ذات صرامة مؤسساتية. تحقق ذلك بعد أن تركزت قيمة الفردانية في شكل شبه مطلق ومعها استقر مفهوم للحياة متناقض تماماً لما يدعو إليه رجال الدين. كيف يمكن للكنيسة في عهد البابا الجديد أن تواجه هذا الانقلاب الذي انطلق مع القرن الثامن عشر واستمر بوتيرة متصاعدة مدعوماً باكتشافات علمية تطرح تساؤلات متعلقة بالاستنساخ والهندسة الجينية وموت الشفقة والإجهاض؟
ما يتوافر الآن من المعطيات عن حظوظ الكنيسة في عهد البابا الجديد في ما يخص الموقع الأوروبي وتساؤلاته الكبرى لا يوحي بالتغييرات المرتَقَبة وذلك لتواصل الاعتماد على مقولة:"الكنيسة حامية الحقيقة"، وهي المقولة التي توكل إلى المؤسسة الدينية وظيفة حراسة العقيدة أي هيمنة مطلقة لرجال اللاهوت المحافظين ومزيداً من الحرص على دعم مصالح فئات مالية وإعلامية ضاغطة. من ثم فإن الكنيسة ستظل مُعْرضة عن مواصلة أهم جوانب التجديد التي انفتح عليها مجمع فاتيكان II في خصوص مكانة الكنيسة وتطورها.
هذا ما جعل بعض المجددين من"المتكلمين الأوروبيين"من أمثال"هانس كونغ"Hans Kںng و"هنري دولوباك"Henri de Lubacپو"ريمون بانيكار"Raymond Panikar يواجهون انتقادات ومصاعب من كنيسة حريصة على مركزيتها العقدية والتنظيمية ورافضة لأية وظيفة نقدية تجديدية.
إن انتخاب البابا الجديد بينيديكت XVI المؤتمن على أصول العقيدة والمدافع عن القيم التقليدية للكنيسة يدل على أن المؤسسة الكاثوليكية تواصل موقفها الدفاعي الذي كان محتمياً في عهد يوحنا بولس الثاني بنجاح البابا الدعوي والإعلامي. مع الألفية الجديدة ومع أوضاع أوروبية متغيرة تغييرات نوعية، فإن التحدي المطروح يتطلب معالجات جريئة لا يمكن أن تغيب عن عدد من القائمين على مستقبل الكنيسة في أوروبا. ما يقضّ مضاجع بعض الكرادلة الكاثوليك التقدميين وعدد من المفكرين والمؤرخين والحركات المسيحية المتفتحة يتعلق بضرورة معالجة عميقة وجريئة للمفارقة الأوروبية. هذه المعالجة تتطلب وعياً تاريخياً يدرك طبيعة المرحلة الجديدة التي انخرطت فيها أوروبا خلال سقوط حائط برلين. مثل هذا الوعي يؤدي إلى إعادة النظر في الحياد الإيجابي الكاثوليكي في أوروبا وهو الذي لم يُفهم على وجهه الحقيقي في المرحلة السابقة. لقد تمكنت الكنيسة - مع البابا الراحل - من تحريك الأوضاع في بولندا الشيوعية لكن"إيجابية"الكاثوليكية الأوروبية لم تتجاوز حقيقة حدود بولندا وبدرجة أقل هنغاريا وتشيكولوفاكيا. أما ما يُنسب إليها من فضل في إسقاط النظام الشيوعي السوفياتي وإنهاء الحرب الباردة فليس إلا مبالغة وسوء تقدير للأمور. ذلك أن سقوط النظام الشيوعي السوفياتي يرجع بدرجة أولى إلى إفلاس اختياراته الاقتصادية والاجتماعية وإلى تخلّفه التكنولوجي وبدرجة أقل إلى سياسة الولايات المتحدة الصارمة إزاء"محور الشر"كما أشرف عليها الرئيس الأميركي الأسبق"رونالد ريغن". يضاف إلى محدودية ذلك الحياد الإيجابي أن نظر المتدينين في أصقاع الاتحاد السوفياتي ومعظم الدول الأوروبية الشرقية إلى كنيسة روما ظلت مشوبة دوماً بالعداء لما تمثله الكاثوليكية في نظرهم من ابتداع في النهج المسيحي. من هذه الناحية فإن وحدة المسيحية الأوروبية ظلت شعاراً لم تقو الكنيسة في روما على أن تحقق فيه إنجازاً يُذكر. من جهة ثالثة، فإن ما تؤكده الدراسات الجادة المتعلقة بالمسألة الدينية في أوروبا الغربية تنتهي إلى المفارقة الأوروبية التي يمكن تلخيصها في ما يأتي: حاجةٌ أكيدة إلى التديّن من دون إقبال خاص على الصياغة الكنسية الكاثوليكية مع تعلّق واضح بالخط العلماني المحايد. ما تثبته عمليات سبر الآراء المتنوعة تفضي إلى سؤال أوروبي مؤرق: كيف يكون القرن الجديد قرن حياة روحية متوثبة غير موصولة بالطقوس الكاثوليكية وغير قاطعة مع قيم الحداثة والعلمانية المحايدة؟
في أميركا اللاتينية، هذا الموقع الثاني الإستراتيجي للكنيسة، يعيش أكبر عدد من المسيحيين الكاثوليك في العالم 44 في المئة مقارنة ب27 في المئة في أوروبا الغربية و11 في المئة في أفريقيا وفيه تواجه كنيسة روما تحديات كبيرة ومختلفة. هناك إضافة إلى معضلات الفقر والاستبداد السياسي وانتشار الفساد سؤالان مثيران لجدل واسع.
الأول لاهوتي عقدي في جانبه الأهم ويحمل اسم" لاهوت التحرر"البغيض إلى البابا الراحل فضلاً عن الجديد. إنه لاهوت يريد تجديد الكنيسة بربط"مشروعه التحرري"بضرورة تحرير المؤسسة الكنسية ذاتها من أسر المناهج القديمة. لا يعبّر اللاهوت الجديد عن واقع متعال عن الإنسان، بل يهتم بتغذية وجوده وربط حضوره"الأرضي"بتطلعه إلى تأسيس"مملكة الرب". من ثم تبرز أولوية الارتباط ب"الشعب"، باعتباره تجسيداً حقيقياً"لقيامة المسيح"وتعبيراً عن عدم احتكار المؤسسة الكنسية من جانب رجال الدين. بذلك يتحوّل مفهوم الكنيسة من مؤسسة ومجموع الكتابات المقدسة وتراتبية رجال الدين إلى ما يعتبره منظرو"لاهوت التحرر"العنصر الأهم وهو اعتبار الكنيسة"حدثاً"متجدداً يجعل وظيفتها خدمة الإنسان، بدل المساهمة في اغترابه. بذلك يتحوّل الإنجيل إلى أداة فاعلة تساهم في تعميق وعي المسيحي بوجوده التاريخي ويضحي الحياد إزاء مشاغل الإنسان وما يحيط به من مظالم"خيانة لرسالة يسوع".
أما السؤال الثاني في أميركا اللاتينية فيتعلّق بازدياد النفوذ المسيحي البروتستانتي الإنجيلي في العقود الثلاثة المنصرمة بما يهدد سلطة كنيسة روما بصفة جديّة. يحصل هذا في البرازيل ونيكاراغوا والإيكوادور وكوستوريكا، فمن 88 في المئة من أهالي هذه المناطق كانوا يعلنون انتماءهم إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1980 انخفضت النسبة إلى 73 في المئة سنة 2000. هذا التحوّل يتم لمصلحة الكنيسة الإنجيلية الأصولية ذات الاتجاهات المحافظة دينياً واجتماعياً وذات الامكانات المادية الواسعة والطرق التبشيرية الشعبوية المباشرة.
بتضافر هذين العنصرين مع عناصر أخرى يتضح أن مخاطر حقيقية تواجه الكاثوليكية فيما كانت تعتبره مجالاً خاصاً لا ينازعها فيه منازع."قارة الأمل"تلك تتجه اليوم بحثاً عن حلول لمشكلاتها الاجتماعية القاسية خارج المقولات التطمينية التقليدية التي ترفض الكنيسة مراجعتها رسمياً مما يزيد في احتمال عزلتها وتراجع نفوذها العالمي.
أفريقيا جنوب الصحراء هي ثالث المواقع المهمة للكنيسة الكاثوليكية في العالم خصوصاً باعتبار تزايد عدد الأتباع فيها تزايد عدد الأفارقة الكاثوليك في ال26 سنة الماضية بنسبة 162 في المئة لكن هذا لم يمنع الظاهرة نفسها التي رأيناها في أميركا اللاتينية من البروز والمتمثلة في منافسة الحركات الإنجيلية الأصولية والفرق البروتستانتية الميتودية. ظهر هذا في الكونغو وفي ساحل العاج بخاصة. هذه الأخيرة التي كانت موطناً للكاثوليكية من دون منازع والتي شيّد الرئيس السابق فيليكس هفوات بوايني"كنيسة عظمى"في"ياموسوكرو"على صورة كنيسة الرسول بطرس في روما لكن بسعة أكبر، أصبحت اليوم مفتوحة للتبشير البروتستانتي الأميركي الواسع بفضل دعم الرئيس الحالي"لوران باقبو"المنافس السياسي للرئيس العاجي السابق.
ثم هناك المنافسة الأخرى في أفريقيا وهي المتعلقة بالإسلام وانتشاره الواضح إزاء التوسع المسيحي العام. لكن رسالة الإسلام في أفريقيا وإن كانت تنمو بسرعة أكبر - في الخمسين سنة الأخيرة تزايد عدد المسلمين الأفارقة بنسبة تفوق 235 في المئة - فإن المعضلة الإسلامية مزدوجة. من جهة: لم تحسم طابعَها الأفريقي مما يفسر بروز صراعات داخلية لا تخلو من حدة في بعض المناطق بين السنة والشيعة أو بين السلفية والطرقية وصراعات اجتماعية ذات دلالات ثقافية وعقدية موصولة بالإحيائية القديمة. من جهة ثانية، فالمسلمون الأفارقة ? مثل غيرهم من المسلمين العرب - لم يتوصلوا بعد إلى معالجة معاصرة للبعد العالمي لعقيدة التوحيد لديهم أي أنه لم يتمَّ تأصيل إيمانهم في سياق قبول التعدد. مثل هذا التعطّل لا يساعد الطرف المسيحي الكاثوليكي في أفريقيا حين يُقبل على الحوار مع المسلمين، إنه لا يجد طرفاً ندّاً مقابلاً هذا فضلاً عما يجده من تعنّت في الجهات المسيحية الرافضة لهذا الحوار أصلاً.
هذا هو واقع الكنيسة اليوم نحتاج في فهمه والتعامل معه إلى شَرطيْ المراجعة والفكر التاريخي للوقوف على الصورة الكاملة وللمساهمة في خروج حاسم للعالم العربي الإسلامي من شكوكه الظنيّة وأحكامه السهلة وتردده في التجديد بما يحوّل المسلمين إلى طاقة إبداع لذاتهم وللعالم من حولهم.
كاتب وجامعي من تونس، عضو فريق البحث الإسلامي المسيحي GRIC بفرنسا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.