Michel Lelong ed.. Le XX1e Siecle-Suicide Planژtaire ou Rژsurrection?. القرن الحادي والعشرون - انتحار الأرض أم بعث؟. L'harmattan, Paris. 2000. 128 Pages. كان أندريه مالرو يقول: "القرن الحادي والعشرون إما أن يكون روحياً وإما لن يكون". باستثناء قولة مالرو هذه، فإن هذا الكتاب لا يمت بصلة إلى عنوانه، وربما كان ذلك لصالحه. فلو وفى بعنوانه لكان مجرد كتاب آخر في السيناريو البيئوي الكارثي. ولا شك ان الهم البيئوي ليس غائباً عن الكتاب، لا سيما عن مساهمة روجيه غارودي، ولكن ليس له حضور مركزي ولا حتى "تقني". فالمشاركون في الكتاب الجماعي معنيون بالدفاع عن البيئة الروحية لإنسان القرن، وهم لا يتكلمون إلا بوصفهم "لاهوتيين"، إن جاز التعبير. ومن دون ان يكونوا كلهم من رجال الدين، فإن ما يعنيهم جميعاً في المقام الأول هو المصير الروحي للإنسان، ولكن على هذه الأرض وليس في الآخرة حسب التصوير الديني التقليدي، لأن الإنسان في تعريفهم "حيوان ديني"، إذ هو وحده بين موجودات الأرض من يضع لنفسه غائية مفارقة ومتعالية من دونها لا يعود لوجوده من معنى. ولأصارح القارئ بأنني وإن كنت أقف في الطرف الآخر من الخط، فقد قرأت الكتاب بشغف. فهو ليس محض "دفاع عن المقدس" كما يقول عنوان مساهمة الموسيقار الراحل يهودي منوحيم 1914-1999. بل هو يحكي أيضاً، بإيقاعات متباينة، قصة انشقاق كبير قد لا يقل أهمية، من المنظور الديني والروحي للإنسان، عن انشقاق المنشقين السوفيات من المنظور الايديولوجي والسياسي. فمن منطلق إيماني والتزام مطلق بدينية الإنسان، فإن ما يوضع قيد تساؤل في هذا الكتاب هو المؤسسة الدينية السائدة بتراتُبيتها الهرمية وسلكها الكهنوتي المغلق وعقيدتها القويمة المتكلّسة. وبعبارة أخرى، ان ما ينشق عنه هنا هؤلاء الدعاة إلى بعث البعد الروحي للإنسان هي "الكنيسة"، لا بمعناها الحصري، بل بمعناها المرادف للاورثوذكسية الدينية، سواء كانت مسيحية أم يهودية أم إسلامية. روجيه غارودي، على سبيل المثال، يأخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن الإسلام الروحي ضداً على الإسلام السياسي، ورد الاعتبار إلى الإسلام الصوفي ضداً على الإسلام الفقهي. بل ان مساهمته، التي حملت عنوان "الأديان والايمان في القرن الحادي والعشرين"، تركز تحليلها على عينات جديرة بالتثمين من الفكر الصوفي في الديانات التوحيدية الثلاث، كما في الديانات الآسيوية غير المنزلة، متوقفاً بوجه خاص عند ذي النون المصري وابن العربي وروزبهان الشيرازي، ومسدداً ضربات نقدية موجعة إلى النزعة المركزية الغربية التي لا تزال مهيمنة على الكنيسة الكاثوليكية "الرومانية" المغلقة لباب الاجتهاد أمام لاهوتيي آسيا وأميركا اللاتينية والعالم الثالث اجمالاً. الأب ميشيل لولون، الذي يرفض بإصرار ان يكون "منشقاً" ويحرص على "نظامية" موقعه في السلك الكهنوتي الكاثوليكي، لا يحجم هو الآخر عن توجيه انتقاداته إلى المؤسسة الكنسية على "بقايا" من نزعتها الانغلاقية التي ما زالت تحول بينها وبين الدخول في حوار حقيقي مع الإسلام، ومع الديانات الآسيوية غير المنزلة، ومع التقاليد الروحية الافريقية، وهذا على رغم ما مثلته قرارات مجمع الفاتيكان الثاني من خطوة انفتاحية متقدمة. لكن في قبالة الانضباط النقدي للأب لولون، فالأب الفرنسيسكاني البرازيلي ليوناردو بوف لا يحجم عن تفعيل الخطوة الانشقاقية. فهذا الرائد الكبير للاهوت التحرر في أميركا اللاتينية أبرم قراره منذ 1992 بالانفصال عن سلكه الكهنوتي، وبالتخلي عن موقعه في الإدارة المركزية لكنيسة روما، احتجاجاً على استبعاد "كنائس الهامش" في البرازيل، كما في العالم الثالث اجمالاً. وهو يوضح الظروف التي أملت عليه اتخاذ ذلك القرار. يقول في مطلع رسالته: "ثمة لحظات فاصلة في حياة الفرد من البشر. فحتى يبقى وفياً لنفسه يضطر إلى تغيير طريقه. وهذا ما فعلته. لم أترك ساحة المعركة، ولكني غيرت خندقي. فأنا أترك السلك الكهنوتي، ولكني أبقى في الكنيسة. ولسوف أبقى، كما كنت دوماً، رجل لاهوت... وإنما من موقعي إلى جانب الفقراء، وضد البؤس، ولصالح التحرر". ويوضح الأب بوف ان بدايات "متاعبه" مع الكنيسة الرسمية تعود إلى 1970 عندما صاغ للمرة الأولى، بالتعاون مع مسيحيين آخرين، فكرة لاهوت التحرر، أي إعادة بناء الطاقة التحريرية للرسالة الانجيلية من خلال تأويلها على ضوء واقعة الظلم الاجتماعي، وبالعودة إلى النزعة المساواتية والديموقراطية للمسيحية الأولى لفك أسر الكنيسة من هيمنة أقوياء الأرض ومصالحهم عليها. وقد تحمل الأب الفرنسيسكاني - وهو بالمناسبة مثقف برازيلي لامع أيضاً - بسبب موقفه التضامني مع المهمشين، ضغوطاً كثيرة واتهامات ب"الهرطقة"، وحتى بالتواطؤ مع الماركسيين، وحُرم حق التعبير عن آرائه، واخضعت كتاباته لرقابة مسبقة من رؤسائه المباشرين في الرهبانية الفرنسيسكانية، وأبعد لمرتين على التوالي من التعليم في الجامعة اللاهوتية، واستدعي إلى روما لمحاورته، وصدر في 1985 قرار فاتيكاني بإدانة بعض كتاباته. ثم فرضت عليه فترة صمت جبري أعقبها قرار بإقالته من هيئة تحرير "المجلة الكنسية" البرازيلية، وبإبعاده عن مجلة "فوزس" التي هي أقدم مجلة ثقافية في البرازيل. وفي 1992، وبعد تزايد الضغوط، لم يجد مناصاً من أن يقرر تغيير طريقه، لا اتجاهه، فترك الرهبانية الفرنسيسكانية من دون ان يترك الكنيسة، وأعلن في رسالة استقالته عزمه على تكريس حياته "لبناء مسيحية هندية - افريقية - أميركية، منقوشة في أجساد شعوبنا وآلامها ورقصاتها وأفراحها ولغاتها، استجابة لدعوة الانجيل التي لم تجد إلى اليوم من يلبّيها تلبية تامة، على رغم مرور خمسمئة سنة على الحضور المسيحي في القارة الأميركية". ولئن يكن ليوناردو بوف قد حصر "انشقاقه" باختيار "كنيسة المستضعفين في الأرض"، كبديل عن "كنيسة الأقوياء في الأرض"، فإن الحاخام الأميركي إلمر برجر 1908-1996 ذهب في ثورته على "اليهودية المؤسسة" إلى أبعد من ذلك. فهذا الرئيس السابق ل"الرابطة اليهودية في الولاياتالمتحدة الأميركية" اختار أن يكرس حياته لبيان الطلاق ما بين الروحانية اليهودية وبين الصهيونية، وأصدر لهذا الغرض مجلته المشهورة "البديل عن الصهيونية". وتكريماً لذكراه اختار منسق الكتاب ان يعيد نشر الفقرة الختامية من محاضرة له في جامعة ليدن في هولندا عن "ايمان الأنبياء والصهيونية". ونظراً للأهمية الاستثنائية لهذا النص فسنثبت هنا ترجمة حرفية له: "من غير المباح لأحد أن يدعي ان الاستزراع الحالي لدولة إسرائيل هو انجاز لنبوءة توراتية، وبالتالي أن جميع الأفعال التي يفعلها الإسرائيليون لإقامة دولتهم ولإدامتها هي أفعال مُصادَق عليها من الله سلفاً. إن سياسة إسرائيل الحالية قد هدمت أو على الأقل عتمت على الدلالة الروحية لإسرائيل. وآخذ على عاتقي هنا أن أفحص عنصرين أساسيين في الموروث النبوي: أ - فعندما تحدث الأنبياء عن إحياء صهيون، لم يكن غرضهم ان الأرض لها بحد ذاتها طابع مقدس. فالمعيار المطلق وغير القابل للنقاش لتصور الأنبياء للخلاص هو إعادة العمل بالعهد مع الله، وهو العهد الذي كان خرمه الملك وشعبه. النبي ميخا يقول ذلك بمنتهى الوضوح: "اعيروني سمعاً، يا رؤساء بيت يعقوب ويا أرباب بيت إسرائيل، أنتم يا من تبغضون الخير وتحبون الشر... وتبنون صهيون في الدم والقدس في الجريمة... ان صهيون ستُحرث حرثاً كما الحقل، والقدس ستغدو ركاماً من أنقاض، وجبل الهيكل سيمسي معبداً للأصنام". إن صهيون ليست مقدسة إلا إذا سادت شريعة الله عليها. وهذا ليس معناه أن كل شريعة تشرع في القدس شريعة مقدسة. ب - ليست الأرض هي وحدها المرهونة بالوفاء للعهد وبالتقيد به، بل ان الشعب العائد إلى الاقامة في صهيون ملزم بالشروط نفسها من عدل واستقامة ووفاء لعهد الله. وما كان لصهيون ان تنتظر عودة استيطانية لشعب يرتكز على معاهدات وتحالفات وموازين قوة عسكرية، أو على جهاز هرمي عسكري يضع في مقدمة مساعيه ان يثبت تفوقه على جيران إسرائيل. فالموروث النبوي يشير بوضوح إلى أن قدسية الأرض ليست رهناً بترابها، ويدل بوضوح أيضاً على ان قدسية شعب هذه الأرض ليست رهناً بوجوده فوق ترابها. فوحده مقدس وجدير بصهيون العهد الالهي كما يتجلى في سلوك شعبه. والحال ان دولة إسرائيل الحالية لا تملك أي حق في أن تعزو إلى نفسها تحقيق القصد الالهي في قيام عهد مقدس... فهذه محض ديماغوجية قوامها التراب والدم. فلا الشعب ولا الأرض بمقدسين، ولا هما يستحقان أي امتياز روحي على العالم. إن التوتاليتارية الصهيونية التي تسعى إلى استتباع الشعب اليهودي قاطبة، ولو بالقوة والعنف، إنما تجعل منه شعباً بين باقي الشعوب ومثل باقي الشعوب". إزاء نص مدهش كهذا لا يعسر علينا أن ندرك أين مكمن الشر، لا في المشروع الصهيوني وحده، بل في كل مشروع لتسييس الدين، كائناً ما كان هذا الدين: فالدين، عندما يُحوّل إلى ايديولوجيا، يكف عن ان يكون ديناً بالمعنى الروحي للكلمة ليغدو مشروعاً سياسياً وسلطوياً. ومن دين مفتوح على كل الأبعاد الروحية الممكنة يتحول، بل ينحط إلى توتاليتارية مغلقة، متعصبة لذاتها وعلى غيرها، قامعة للمنضوين تحت لوائها ومُكفّرة للباقين خارجها. وهذه الأدلجة للدين تهدد من الآن بأن يكون القرن الحادي والعشرون لا قرن حوار بين الأديان، بل قرن حرب بين الأديان.