إطلاق 80 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الأمير محمد بن سلمان    انطلاق المؤتمر الدولي لأكاديميات الشرطة    السعودية الأولى خليجياً وعربياً في مؤشر الأداء الإحصائي    «الجناح السعودي».. ينطلق في «الصين الدولي للطيران والفضاء»    وزير الخارجية: حل الدولتين السبيل الأوحد لتحقيق السلام    «الرابطة» تُرحِّب بقرارات القمّة العربية والإسلامية    رئيس بولندا يشكر خادم الحرمين وولي العهد    الفرج يقود الأخضر أمام «الكنغر»    إسناد التغذية والنقل ل«جودة الخدمات» بإدارات التعليم    «التقني»: إلغاء إجازة الشتاء وتقديم نهاية العام    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة.. نشروا مقاطع منافية لأخلاقيات المهنة    وزير الداخلية يرعى حفل جامعة نايف وتخريج 259 طالباً وطالبة    5 مشاهير عالميين أصيبوا بالسكري    في بيتنا شخص «حلاه زايد».. باقة حب صحية ل«أصدقاء السكري»    ماذا لو نقص الحديد في جسمك ؟    المملكة تحذر من خطورة تصريحات مسؤول إسرائيلي بشأن فرض سيادة الاحتلال على الضفة الغربية    الأهلي يطرح تذاكر مواجهته أمام الوحدة في دوري روشن    غارات إسرائيلية عنيفة على ضاحية بيروت    الذهب يستقر قرب أدنى مستوى في شهر مع انتعاش الدولار    سعود بن نايف يستقبل أمين «بر الشرقية»    أمير الرياض يستعرض إنجازات «صحية تطوع الزلفي»    أمير القصيم يطلق مبادرة الاستزراع    تطوير وتوحيد الأسماء الجغرافية في الوطن العربي    الاتفاق يعلن اقالة المدير الرياضي ودين هولدين مساعد جيرارد    مقتل ضابط إسرائيلي وأربعة جنود في معارك بشمال غزة    نقلة نوعية غير مسبوقة في خدمة فحص المركبات    استعادة التنوع الأحيائي في محمية الأمير محمد بن سلمان    "الحج المركزية" تناقش موسم العمرة وخطط الحج    رحب بتوقيع" وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين".. مجلس الوزراء: القمة العربية والإسلامية تعزز العمل المشترك لوقف الحرب على غزة    فوبيا السيارات الكهربائية    «نأتي إليك» تقدم خدماتها ب20 موقعًا    مجلس الوزراء يجدد التأكيد على وقوف المملكة إلى جانب الأشقاء في فلسطين ولبنان    ولادة أول جراء من نمس مستنسخ    الأخضر يحتاج إلى وقفة الجميع    المنتخب السوداني يسعى لحسم تأهله إلى أمم أفريقيا 2025    «طريق البخور».. رحلة التجارة القديمة في العُلا    السِير الذاتية وتابوهات المجتمع    أحمد محمود الذي عركته الصحافة    وفاء الأهلي المصري    للإعلام واحة    إضطهاد المرأة في اليمن    يسمونه وسخًا ويأكلونه    يأخذكم في رحلة من الملاعب إلى الكواليس.. نتفليكس تعلن عن المسلسل الوثائقي «الدوري السعودي»    «سامسونغ» تعتزم إطلاق خاتمها الذكي    «الغذاء»: الكركم يخفف أعراض التهاب المفاصل    التحذير من تسرب الأدوية من الأوعية الدموية    الرهان السعودي.. خيار الأمتين العربية والإسلامية    أسبوع معارض الطيران    جمعية يبصرون للعيون بمكة المكرمة تطلق فعاليات اليوم العالمي للسكري    إطلاق 80 كائنا فطريا مهددا بالانقراض    نائب الرئيس الإيراني: العلاقات مع السعودية ضرورية ومهمة    التوقيع على وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين بين منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية ومفوضية الاتحاد الإفريقي    الرئيس السوري: تحويل المبادئ حول الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين ولبنان إلى واقع    الأمر بالمعروف بجازان تفعِّل المحتوي التوعوي "جهود المملكة العربية السعودية في مكافحة التطرف والإرهاب" بمحافظة بيش    البرهان: السودان قادر على الخروج إلى بر الأمان    اطلع على مشاريع المياه.. الأمير سعود بن نايف يستقبل أعضاء الشورى المعينين حديثاً    أمير الرياض يطلع على جهود الأمر بالمعروف    مراسل الأخبار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحوار الإسلامي - المسيحي ومدى اتصاله بأنماط علاقات "الشمال" و "الجنوب"
نشر في الحياة يوم 07 - 05 - 2004

أيقظ الحادي عشر من ايلول سبتمبر عام 2001 اسئلة عدة ومتنوعة:
لماذا تمت هذه العمليات؟ لماذا افترض ربطها بالأصوليين المسلمين؟ لماذا افترض فوراً انتماء منفذي هذه العمليات الى البلدان العربية والإسلامية؟ ما هي الروابط بين "الإرهاب" والأوضاع السائدة في العالمين العربي والإسلامي؟ ما هي الاتهامات الموجهة الى الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً، وإلى دول "الشمال" عموماً؟ هل يرتبط الدعاة الأميركيون للحرب "الصليبية" بالتيار الإيديولوجي لمنظري "صدام الحضارات" او "نهاية التاريخ"؟ كيف وصلنا الى ما نحن عليه؟ ما هي الروابط بين "الإرهاب الإسلاموي Islamite" وكون السكان المسلمين يشكلون جزءاً مهماً من سكان "الجنوب" المعتبرين فقراء الكرة الأرضية والذين استعمرت بلدانهم ونهبت وعرفت اشكالاً مختلفة من السيطرة على يد الدول الصناعية؟
تناول مفكرون وناشطون مسيحيون في "الشمال" و"الجنوب" وكنائسهم منذ نصف قرن تقريباً، هذه المواضيع بالبحث، فكتبوا عنها وأخذوا مواقف منها. بعضهم سعى لإقامة حوار مع مسلمين على مختلف المستويات وفي بلدان مختلفة، كما عملوا على تطوير هذا الحوار، وبحث البعض الآخر وكتب وعمل لمصلحة ومع شعوب "الجنوب" ومؤسساتها.
نحاول هنا في هذه الظروف الصعبة، التي تمر بها العلاقات الإسلامية - المسيحية والعلاقات بين "الشمال" و"الجنوب" وتداعياتها، ان نذكر بهذه الجهود التي بذلت منذ نصف قرن تقريباً.
منذ ظهور الإسلام لم يتوقف الحوار الفكري بين المفكرين المسيحيين والمسلمين. كان الحوار كثيفاً، خصوصاً في القرون الوسطى بين المفكرين المسيحيين المشرقيين الذين عاشوا في عهد الخلفاء الأمويين والعباسيين من جهة، وبين زملائهم المسلمين والخلفاء من جهة اخرى. كان طابع هذه الحوارات جدالياً احياناً ودفاعياً احياناً اخرى، كما كان تفسيرياً. جرى تحقيق العديد من نصوص هذه الحوارات ويتم الآن جمعها ونشر بعضها منذ فترة في المشرق العربي وأوروبا، وهي موجهة خصوصاً الى الأوساط الأكاديمية واللاهوتية في الديانتين.
منذ منتصف القرن التاسع عشر حاول مفكرون عرب مسيحيون، ساهموا مساهمة فعّالة في النهضة العربية، امثال المعلم بطرس البستاني وابراهيم اليازجي اطلاق حوار بين المسلمين والمسيحيين انطلاقاً من الحضارة العربية التي هي ارث مشترك بين المسيحيين والمسلمين في الشرق العربي وهم يعيشون معاً منذ وقت طويل على ارض واحدة ويواجهون المصير نفسه ويتشاركون في سمات حضارية عدة على رغم انتمائهم الى اديان ومذاهب مختلفة. كان هذا النمط من التفكير وهذه الدعوة الى التوحد لمواجهة الأخطار التي تهددهم، مساهمة اساسية في نمو الفكرة القومية وإعادة بناء المجتمع والثقافة على هذه الأسس.
بداية الحوار في لبنان والمشرق
منذ منتصف القرن العشرين قام العديد من المفكرين في لبنان، خصوصاً، وفي المشرق العربي بلقاءات وأبحاث جادة وتنويرية عن العلاقات الإسلامية - المسيحية. نشير على سبيل المثال الى كتابات الأب ميشال الحايك والمرحوم الأب يواكيم مبارك والأب سمير خليل والمطران جورج خضر والمرحومين الإمام موسى الصدر والشيخ صبحي الصالح والكاتب محمد السماك والسيد محمد حسن الأمين والمرحوم الإمام محمد مهدي شمس الدين وغيرهم كثيرون.
كانت "الندوة اللبنانية" في بيروت إحدى المنابر الأكثر نشاطاً في هذا المجال. وساهمت الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية مساهمة كبيرة في هذا النشاط منذ منتصف الخمسينات.
المجمع الفاتيكاني الثاني ومجلس الكنائس العالمي
ساهم المجمع الفاتيكاني الثاني بين عامي 1959 و1965 في توسيع وتطوير اطر هذا الحوار ومجالاته على المستوى الفكري، بنشر نصوص اساسية وبإنشاء مؤسسات في الكنيسة الكاثوليكية، مكرسة اساساً لهذا الحوار.
وسار مجلس الكنائس العالمي ومجلس كنائس الشرق الأوسط في الاتجاه نفسه في جنيف وبيروت والمشرق العربي والمتوسطي.
وأنشئت مراكز ومؤسسات للحوار في المغرب والمشرق العربي وجنيف وروما وغيرها.
ومنذ منتصف الستينات من القرن الماضي نشطت مؤسسات دائمة للحوار الإسلامي - المسيحي انطلاقاً من مدينتي روما وجنيف اضافة الى مراكز فكرية وبحثية. وصدرت عنها مجلات وكتابات مخصصة لهذا الحوار.
وتكثفت اللقاءات الدولية والإقليمية والوطنية في هذا الإطار.
كما قام البابا بولس السادس والبابا يوحنا بولس الثاني بزيارات عدة الى البلدان العربية والإسلامية وفعل مثلهم البطاركة المسكونيون اثيناغوراس وديمتريوس، وكذلك رؤساء الكنائس الإنجيلية والأرثوذكسية الشرقية.
كذلك نظمت لقاءات دولية عدة. نذكر اللقاءات التي نظمتها جماعة سانت اجيدو في ايطاليا والتي نظمتها جامعة الأزهر في القاهرة ومجلس كنائس الشرق الأوسط وفريق البحث الإسلامي - المسيحي في المغرب والمشرق وأوروبا وغيرها الكثير مما نعجز عن تعداده.
في لبنان ابصرت النور "لجنة دائمة للحوار المسيحي - الإسلامي" ونشطت في بداية التسعينات من القرن الماضي، وتتألف من ممثلين رسميين لمختلف الكنائس المسيحية والطوائف الإسلامية.
وتنشط منذ بداية التسعينات من القرن الماضي "هيئة عربية دائمة للحوار الإسلامي - المسيحي" في العالم العربي. انشئت هذه الهيئة لتعزيز هذا الحوار على المستوى العربي وبخاصة في مصر والسودان والأردن وفلسطين ولبنان وسورية والعراق.
ان صعود الأصوليات اليهودية والمسيحية والإسلامية، في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، يجعل هذا الحوار صعباً. لكن في الوقت نفسه فهو اكثر فأكثر ضرورة وحتمية.
إذ تشهد العديد من الدول توترات بين السكان المسيحيين والمسلمين تأخذ شكل صراعات متفاوتة العنف احياناً او خفية احياناً اخرى. نذكر على سبيل المثال: مصر ونيجيريا وساحل العاج والتشاد والسودان وفلسطين ولبنان والدول المنبثقة عن جمهورية يوغوسلافيا السابقة، وبلغاريا والاتحاد الروسي تشتشينيا، وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، جيورجيا، وأرمينيا وأذربيجان والباكستان واندونيسيا والفيليبين والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وقبرص والحبشة وبعض بلدان اوروبا الغربية، فرنسا وإسبانيا وهولندا والدنمارك والمملكة المتحدة وألمانيا.
ان هذه الصعاب تجعل هذا الحوار اكثر ضرورة وأكثر حتمية، لأنه لا يرتبط فقط بالوجوه الدينية بل يتعداه ايضاً الى جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي تهم السكان المسيحيين والمسلمين مواطني البلد نفسه.
من الأسباب العميقة لهذه الصراعات كون المسلمين يشكلون جزءاً مهماً من "العالم الثالث" اي من فقراء "جنوب" الكرة الأرضية كما ان الدول الصناعية التي سيطرت على الجنوب ولا تزال، هي بغالبيتها دول ذات تقاليد مسيحية.
لهذا السبب بالذات يجب على الحوار الإسلامي - المسيحي ان يعالج بشكل وثيق ولو معقد العلاقات بين "الشمال" و"الجنوب" على صعيد الدول كما على صعيد المجتمعات الأهلية وفي كثير من الأحيان العلاقات بين "الجنوب" و"الجنوب" على الصعيدين المذكورين ايضاً.
منذ الاكتشافات الكبرى في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر لحقت الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية ثم الأرثوذكسية الروسية بمسار التوسع الديموغرافي والعسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي لبلدانهم في اميركا وآسيا وافريقيا وأوقيانيا. غالباً ما كان الاستعمار والتبشير يسيران معاً.
لم يكن هذا العمل دائماً سلبياً بل كانت له آثار ايجابية ايضاً في العديد من البلدان. كان يترافق التبشير الذي تقوم به الكنائس مع انشاء المدارس ومراكز العناية والصحة وإدخال انماط صحية للمساكن وتقنيات انتاج جديدة وأكثر فاعلية. هذا دون ذكر التجارب الثورية كتلك التي قام بها الرهبان اليسوعيون في الباراغواي.
إلا ان المحصلة النهائية للاستعمار كانت سلبية جداً. فالاستعمار بحسب رأي العلماء المختصين بالتخالف هو المسبب الأول لهذا التخلف.
منذ نهاية القرن التاسع عشر طورت الكنيسة الكاثوليكية تعاليم خاصة بالقضية الاجتماعية باتت معروفة لدى الجميع. وابتداء من منتصف القرن العشرين نشر البابوات يوحنا الثالث والعشرون وبولس السادس ويوحنا بولس الثاني رسائل حبرية حول العالم الثالث والتخلف والعلاقات بين الشمال والجنوب. نذكر على سبيل المثال رسالتي "السلام في الأرض"، و"ترقي الشعوب". وهذه الرسالة الحبرية الأخيرة كانت من وحي لويس جوزف لوبريه. قامت هذه الرسائل بتحليل اسباب ظاهرة التخلف في العالم الثالث ونتائجها وأوضحت المواقف التي يفرضها الإيمان المسيحي تجاه هذه الظاهرة. ويمكننا الإشارة ايضاً الى "رسالة اساقفة العالم الثالث" التي نشرت في منتصف الستينات من القرن العشرين ضمن هذا السياق الفكري.
كانت هذه التعاليم تحث المسيحيين على محاربة التخلف بالتصدي لأسبابه ونتائجه في آن معاً. وقد قام مجلس الكنائس العالمي والكنائس المكونة له بإصدار نصوص مماثلة تحث المؤمنين على العمل ضد اسباب التخالف ونتائجه.
وشهدت السنوات الخمسون الأخيرة تكاثر التجارب التي قامت بها جماعات او اشخاص يستوحون التعاليم المسيحية والتي شملت مجالات خدمة عدة للتنمية على الصعيد الدولي والإقليمي كما على صعيد البلدان والمقاطعات والمدن والأحياء والقرى في "العالم الثالث". كان هذا العمل مكثفاً في اميركا اللاتينية، البرازيل والأرجنتين والشيلي والأوروغواي وبوليفيا، وكولومبيا والمكسيك وغيرها من الدول، وافريقيا والعالم العربي وبعض بلدان آسيا، الهند وأندونيسيا والفيليبين وكوريا وغيرها من البلدان على سبيل المثال لا الحصر. تناولت هذه الأعمال مجالات عدة: محاربة الأمية، التربية الأساسية، التعليم العام والمهني والجامعي، الصحة، التعاونيات الريفية والمدينية، نقابات المزارعين والعمال، التوعية الاجتماعية والسياسية، قروض للمشاريع الاقتصادية المتوسطة والصغيرة وتشجيعها، تشجيع وإنشاء التيارات والأحزاب السياسية العاملة في هذا الاتجاه، والعمل في الأجهزة الحكومية المركزية والمحلية وفي المنظمات الدولية والإقليمية المعنية بتنمية العالم الثالث او اجزاء من العالم الثالث...
شهدت السنوات الخمسون الاخيرة قيام العديد من الباحثين ورجال العلم والناشطين المنطلقين من منظور مسيحي بكتابة ابحاث غنية عن التخلف وأسبابه ونتائجه وعن سياسات التنمية ونشرها. نشير الى المشهورين منهم: "فرنسوا بيرو" و"لويس جوزف لوبريه" في فرنسا، و"سلسيو فورتادو" و"جوزوي دي كاسترو" في البرازيل، والاقتصاديون العاملون في اللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية في التشيلي، وغيرهم كثيرون في افريقيا وأوروبا وآسيا.
ساهمت اعمالهم في تغذية تفكير ونشاط المسيحيين وغير المسيحيين العاملين في مجالات التنمية في "العالم الثالث".
تيار لاهوت التحرير
ادت التجارب والأبحاث والكتابات عن العالم الثالث المستوحاة من المسيحية اضافة الى الالتزام السياسي والاجتماعي الى قيام بعض الناشطين واللاهوتيين بصياغة لاهوتية لمفهومهم عن تحرير العالم الثالث من تخلفه وتبعيته وبعض مظاهر تقاليده، في سياق تيار لاهوتي دعي "لاهوت التحرير"، ابتداء من نهاية الستينات من القرن العشرين. من رواد هذا التيار الأكثر شهرة الكاهنان الاميركيان اللاتينيان "بوف" البرازيلي، و"غوتيريز" البيروفني. كان يهدف هذا التيار الى انخراط المسيحيين في سيرورة التحرر من النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الظالمة والقائمة في العالم الثالث وذلك على الصعيد المحلي والوطني والاقليمي والعالمي.
دانت السلطات الكنسية الكاثوليكية هذا التيار منذ نهاية السبعينات من القرن العشرين.
والآن يطرح سقوط الكتلة السوفياتية وتسارع العولمة قضايا جديدة امام هذا التيار.
وقام مجلس الكنائس العالمي وعدد كبير من الكنائس الاعضاء بنشاط فكري مكثف وبأعمال على الارض تهدف الى تنمية العالم الثالث وذلك ابتداء من نهاية الستينات من القرن العشرين. نشط اشخاص علمانيون واكليريكيون اضافة الى مؤسسات تنتمي الى هذا المجلس والى كنائسه الاعضاء في مجالات عدة في العالم الثالث واتبعوا منطقاً مشابهاً لمنطق المسيحيين الكاثوليك، الذي وصفناه سابقاً. تجب الاشارة الى ان رعايا بعض الكنائس الارثوذكسية، اعضاء في هذا المجلس، كانوا من مواطني بلدان الكتلة السوفياتية السابقة. كذلك فإن رعايا بعض الكنائس الارثوذكسية الشرقية، امثال الكنيسة القبطية المصرية والحبشة واريتريا وسورية ولبنان وفلسطين والاردن وتركيا والعراق وايران والهند، ويرتبطون ارتباطاً وثيقاً بسكان مسلمين في هذه البلدان حيث يتقاسمون معهم السراء والضراء.
يعيش جميع المسلمين تقريباً، وكذلك الهندوس والبوذيين وأتباع بعض الديانات الاخرى في "العالم الثالث"، باستثناء مسلمي الاتحاد الروسي وجمهوريات يوغوسلافيا السابقة وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق والمهاجرين الى دول اوروبا الغربية وأميركا الشمالية واستراليا والمتحدرين منهم. بينما ينتمي 95 في المئة من المسلمين الى "جنوب" الكرة الارضية.
قامت الدول الاوروبية باستعمار الاكثرية الساحقة من البلدان التي يقطنها كلياً او جزئياً المسلمون خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. كانت انماط هذا الاستعمار مختلفة. وحدها بعض البلدان الاسلامية النادرة نجت من الاستعمار المباشر امثال شبه الجزيرة العربية الوسطى والغربية والجزء الشمالي من اليمن وتركيا وايران وأفغانستان.
احدث هذا الاستعمار في هذه البلدان تبعية وتفسخاً اجتماعياً واقتصادياً وإفقاراً في غالب الاحيان. جميع هذه العناصر هي من المظاهر المهمة للتخلف. الا انه نتيجة لهذا الاستعمار ظهرت في هذه البلدان بعض مظاهر التحديث في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحياتية المتنوعة وفي البنى السياسية.
اما في العالم الاسلامي فقد جرى وعي التخلف من وجهتي نظر رئيستين:
- الأولى تعتبر التخلف كتأخر تقني واقتصادي مقارنة مع "الشمال" الصناعي بشكل عام. بدأ وعي هذا التأخر منذ القرن الثامن عشر عند "المستغربين" الاتراك الذين كانوا الأسلاف الفكريين لتيار "تركيا الفتاة"، مؤسس تركيا المعاصرة. وكذلك لدى بعض المفكرين المصريين امثال الطهطاوي الذي قام بزيارة لأوروبا في بداية القرن التاسع عشر واستخلص منها عبراً ساهمت في تيارات التحديث الاصلاحية الاسلامية، لا سيما المصرية منها. وتنتمي الى هذا التيار ايضاً حركة التجديد في آسيا الوسطى التي كانت في طريق "الروسنة".
- اما الثانية فتعتبر التخلف كنتاج للسيطرة الاوروبية - الاميركية مع ما يرافقها من تبعية اقتصادية وسياسية وثقافية وأيديولوجية. تغذي وجهة النظر هذه تيارات في الاسلام رافضة للغرب الذي تنظر اليه كمسيحي مسيطر يتسبب بالويلات التي تصيب العالم الاسلامي. ظهرت هذه التيارات ايام حكم السلطان عبدالحميد في الامبراطورية العثمانية التي كانت في طور الانحطاط، كما ظهرت في مصر والسودان والقوقاز وآسيا الوسطى وايران. كانت هذه التيارات رد فعل على التوسع الاوروبي في العالم الاسلامي ابتداء من النصف الثاني للقرن التاسع عشر. كما اثارت الموجة الثانية من التوسع الاوروبي خلال الحرب العالمية الاولى وما بعدها في المشرق العربي والتي كانت نتيجتها اخضاعه مباشرة الى دول اوروبية، ردود فعل عند بعض المفكرين المسلمين وأدت الى ظهور تيارات كحركة "الاخوان المسلمين" بقيادة حسن البنا وسيد قطب في مصر التي كانت مستعمرة في الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين 1914-1918 و1939-1945. انتشر هذا التيار وغيره من التيارات الشبيهة بين الاربعينات والستينات من القرن العشرين في بعض البلدان العربية، سورية، الاردن، فلسطين، لبنان، العراق، وبعض بلدان الجزيرة العربية والمغرب.
اصطدم هذا التيار بصعود الحركات والانظمة القومية الشعبوية في مصر وسورية واليمن وفلسطين والسودان والعراق ثم الجزائر وليبيا.
كما ان الحركات التي نشأت في الهند متأثرة بأفكار المودودي خلال السيطرة الانكليزية عليها، نشأت كالتيارات السابقة في وسط المسلمين السنّة. لكن، ومنذ نهاية الخمسينات من القرن العشرين نشأت في اوساط الشيعة في العراق حركات اصولية مماثلة: انشئ حزب الدعوة مثلاً من جانب رجال دين شيعة في العراق تخوفاً من تغلغل التيارات الشيوعية في الاوساط الشيعية الفقيرة والمهمشة. انتشر هذا النوع من الحركات في ايران خلال الخمسينات والستينات والسبعينات تحت الانظار العطوفة للسلطة وحاميها الاميركي في ذلك الوقت. كان الاثنان يريان في هذه الحركات افضل نقيض للجبهة الوطنية التي كان يقودها محمد مصدق الذي أمم البترول عام 1951 والحزب الشيوعي الايراني، "توده". هذه الحركات هي التي قامت بالثورة الاسلامية في ايران عام 1979.
استوحت حركات اصولية سنية عدة في المشرق العربي وباكستان وأفغانستان وآسيا الوسطى وآسيا الجنوبية والجنوبية الشرقية، افكارها في الاصل، من تجربة الاخوان المسلمين في مصر ومن تعاليمهم اضافة الى تعاليم المودودي. كانت هذه الحركات خلال الحرب الباردة متوجهة بشكل خاص ضد الانظمة والحركات القومية العلمانية الشعبوية والاشتراكية او الشيوعية. وكانت ايضاً تنعم برضى الدول الانكلوساكسونية وبعض الدول العربية والاسلامية وبدعمها الى ان غيرت اهدافها بعد انهيار الكتلة السوفياتية. ساهمت هذه الحركات في نشوء صراعات واندلاعها في عدد من البلدان امثال اندونيسيا والفيليبين وأفغانستان ولبنان وسورية ومصر والجزائر ونيجيريا والسودان وجمهوريات يوغوسلافيا السابقة وتشتشينيا وغيرها.
بعض هذه الصراعات كانت أهلية وكانت حدتها متفاوتة. كما ساهمت هذه الحركات في حروب ضد الغزوات الخارجية في أفغانستان ولبنان وفلسطين وايران وغيرها.
الحوار الإسلامي - المسيحي وتخلف ال"جنوب"
ان اللامركزية الايديولوجية والدينية في العالم الإسلامي مقابل المركزية النسبية في الكنائس المسيحية، عموماً، والكنيسة الكاثوليكية، خصوصاً، هي بحد ذاتها احدى المصاعب التي تواجه هذا الحوار. يضاف اليها عدم وجود خطاب اسلامي ممركز الى هذا الحد او ذاك حول مفهوم التخلف، اسبابه، ونتائجه. لكن على رغم ذلك يوجد فرقاء محتملون عدة لهذا الحوار. يمكننا ذكر بعض المجموعات من التيارات والمؤسسات في هذا السياق على سبيل المثال لا الحصر:
- ظهرت اتجاهات خلال القرن العشرين لدى مجموعات فكرية وسياسية عدة في العالم الإسلامي تشير الى ان التخلف هو نتيجة للتقليد والتبعية. وكانت هذه الاتجاهات تدعو وتعمل من أجل تنمية، تكون في حد ذاتها مرادفاً للتحديث والاستقلال. يمكننا ان نذكر ضمن هذا المجال التجارب "الكمالية" في تركيا و"الناصرية" في مصر و"السوكرنية" في أندونيسيا. وكان علي بوتو في الباكستان قريباً من هذه النظرة.
- هناك اتجاهات اخرى تصر على ضرورة تفسير الاسلام من الداخل للتعامل مع مشكلات العالم المعاصر والمحافظة على جوهر قيمه ورسالته. نجد في هذه المجموعة من الاتجاهات شخصيات ومؤسسات امثال الإمام المغيب موسى الصدر والمجموعات التي أنشأها وحركها في لبنان. كذلك الإمام محمد مهدي شمس الدين في لبنان ايضاً. والرئيس محمد خاتمي والتيارات والمؤسسات القريبة منه في ايران والأمير حسن بن طلال والمجموعات التي عمل معها في الأردن، وبعض المفكرين امثال طارق البشري ومحمد العوا وفهمي الهويدي وعز الدين ابراهيم، وسعود المولى وعدد من المفكرين في المغرب وافريقيا السوداء وتركيا وآسيا الوسطى والجنوبية والجنوبية الشرقية كجمعية نهضة العلماء في اندونيسيا وفي بلدان البلقان والجمهوريات السوفياتية السابقة.
- هناك ايضاً فرقاء محتملون للحوار في المؤسسات العاملة في اطار منظمة المؤتمر الاسلامي التي انشئت في جدة في النصف الاول من سبعينات القرن العشرين. تجمع هذه المنظمة مؤسسات اقتصادية وثقافية في تركيا وفي المملكة العربية السعودية. كذلك تملك بلدان اخرى، عربية واسلامية مؤسسات لتمويل التنمية اشهرها: الصندوق السعودي للتنمية والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وصندوق أبو ظبي للتنمية والبنك الاسلامي للتنمية وصندوق الأوبيك للتنمية. ولبعض هذه المؤسسات مواقع مهمة ومؤثرة في بعض المؤسسات الانمائية والاقليمية والدولية، ومفاهيم وتحليلات عن التخلف والتنمية جديرة بالحوار والتفاعل.
على الحوار الاسلامي - المسيحي حول التخلف والتنمية ان يأخذ في الاعتبار الاختلاف التاريخي في الأطر والتجارب بين المسيحية والإسلام. اذ ان وقع الإسلام على الحياة الاجتماعية والعائلية والسياسية غالباً أقوى من مثيله في المسيحية.
لذلك، وعلى رغم الصعوبات التي يواجهها الحوار الاسلامي - المسيحي، في شكل عام، فهذا الحوار عن التخلف والتنمية ضروري لأنه يرتبط بمستقبل الكرة الأرضية. ان القيم والتعاليم التي تحملها الديانتان، المسيحية والإسلامية، مستقاة الى حد كبير من التقليد الابراهيمي المشترك بينها.
ويعيش المسيحيون والمسلمون جنباً الى جنب في العالم الثالث، في افريقيا والعالم العربي والكثير من بلدان آسيا وبعض دول اميركا اللاتينية، ويواجهون المشاكل نفسها العائدة الى التخلف والتبعية والفقر والظلم الاجتماعي وتدهور الاوضاع البيئية.
كما تدعو ديانتهما الى العدل والمحبة والرحمة والتضامن واحترام الحياة. لهذا السبب تكون مواقف ممثلي الديانتين متقاربة في الكثير من المؤتمرات الدولية المتخصصة بمختلف القضايا الاقتصادية والاجتماعية والانمائية عامة.
اخيراً لا بد من عودة للكلام عن التجربة اللبنانية التي تستحق التبصر بها لأخذ العبر.
بعد مضي خمسة عشر عاماً من الحروب على الاراضي اللبنانية بين مختلف المتصارعين المحليين والاقليميين والدوليين، كثف اللبنانيون من مختلف العائلات الروحية الاسلامية والمسيحية الحوار وانشأوا مؤسسات للتحاور، على رغم كل الضغوط التي مورست عليهم وعلى حواراتهم بفعل ارتباطها بمختلف تفرعات الصراع العربي - الاسرائىلي وبمأساة العراق، وبالسيادة الوطنية المنقوصة والتهديدات التي تتربص بكامل بلدان الشرق العربي انطلاقاً من فلسطين والعراق.
لكن مستقبل هذا الحوار في لبنان كما في كل العالمين العربي والاسلامي خصوصاً، والعالم ككل، مرتبط في بعض اهم جوانبه بانخراطه النظري والعملي بالعمل المشترك للتصدي لاسباب التخلف والفقر ونتائجها على المستويات المحلية والوطنية كما الاقليمية والدولية.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.