هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    خطيب المسجد الحرام: ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي مِمَّا يُفسد العلاقات ويقطع حِبَال الوُدِّ    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    إطلالة على الزمن القديم    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    ندوة "حماية حقوق الطفل" تحت رعاية أمير الجوف    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل جماعة الأخوان المسلمين والدولة المصرية ... في الميزان الديموقراطي
نشر في الحياة يوم 06 - 05 - 2005

تمر الخريطة السياسية المصرية الآن في مرحلة انتقال رجراجة وحرجة بكل ما يعنيه ذلك من فتح باب الاحتمالات على مصراعيه, ولا يمكن التغاضي خلال ذلك عن وزن جماعة الأخوان المسلمين كحقيقة سياسية. والغرض من هذا المقال محاولة استكشاف الأفق السياسي لدور الجماعة وتفاعله مع النظام السياسي المصري, واحتمالات التحول الديموقراطي في هذا الأفق.
لا تخلو نشأة الاخوان المسلمين من غموض, وتسبب ذلك في تعدد التفسيرات حول ولادة الجماعة, ولا يخلو بعضها من الاعتماد على المقدمات الخفية أو ما يسمى نظرية المؤامرة, ويعزلها البعض الآخر عن سياق التاريخ المصري الحديث ويخضعها بالتالي للفهم بالقطعة, وهو ما يقود بالتأكيد إلى تحليلات خاطئة في الحالين.
تندرج نشأة الجماعة ضمن التاريخ الاجتماعي والسياسي لمصر منذ نهاية الدولة الحديثة الأولي التي أسسها محمد علي 1805-1880 وحتى نهاية الدولة الحديثة الثانية 1919-1952, حيث خضع التطور الاجتماعي والسياسي طوال هذه العقود لصراع بين أنصار التحديث على أسس النهضة الأوروبية وفي القلب منها مبادئ الثورة الفرنسية, وبين معسكر تصور قسم منه أن خلاص الأمة من وهنها مرهون بالعودة إلى منابع الحضارة الإسلامية بما في ذلك استعادة الخلافة والقسم الآخر اعتمد على أفكار تتعلق بانتظار المخلص والزعيم الملهم, وهو منحى فاشي تماماً إذا سلمنا أن الفاشية هي اختصار الوطن في فكرة واحدة أو في شخص واحد.
قاد المعسكر الأول حزب الأمة ومؤسسه أحمد لطفي السيد ثم الكيانات التي انبثقت منه مثل حزب الوفد والأحرار الدستوريين والطليعة الوفدية والتيارات الاشتراكية وجماعات سياسية واقتصادية وثقافية متعددة مثل كتلة إسماعيل صدقي الراعي الأول للرأسمالية المصرية واتحاد الصناعات وجماعة النهضة وجماعة الخبز والحرية وكانت قاعدة هذا المعسكر هي الطبقة الوسطى المتنامية في ظل الدولة المدنية والتجربة الليبرالية السياسية والاقتصادية, وكانت الفتائل الأولى لهذه الطبقة من الجاليات الأجنبية والمتمصرين والتجار والموظفين وخريجي المدارس العليا والجامعات الأوروبية ورجال القضاء والأقباط من أهل المدن وبعض خريجي الأزهر الذين تمردوا علي التعليم الديني إضافة إليى العائلات السياسية.
كان المعسكر التقليدي تحت قيادة الحزب الوطني وما خرج منه ودار في فلكه مثل جماعة الفريق عزيز المصري الذي كان مربياً للملك فاروق حين كان ولياً للعهد, وجماعة علي ماهر ومصر الفتاة والإخوان والحرس الحديد والضباط الأحرار, وكانت قاعدة هذا المعسكر هي الشرائح الاجتماعية التي عجزت عن المشاركة في التحديث أو عجز التحديث عن الوصول إليها ومن بينهم شرائح من سكان الريف والملكيات الزراعية الصغيرة وخريجي الأزهر والمدارس الدينية وفئات أخرى مرتبكة ومشوشة وبعض الجماعات الطموحة سياسياً من المدنيين والعسكريين, وساند هذا التيار الملك فؤاد ومن بعده ابنه الملك فاروق وكانا يحلمان بوراثة الخلافة العثمانية. وفيما عُقد لواء قيادة المجتمع وتأسيس مشروع النهضة للمعسكر التحديثي, كانت الندوب والجروح النرجسية هي نصيب المعسكر التقليدي مما جعل الأشواق والأفكار المثالية تتغلب على أي تصور اجتماعي أو اقتصادي نتيجة انهيار الخلافة العثمانية وهزيمة كل محاولات تأسيس الجامعة الإسلامية على يد المؤامرات الأوروبية من وجهة نظرهم, وكانت بريطانيا العظمى هي القوة الأبرز بين الحلفاء الأوربيين وهي المحتلة لمصر. وفي حين راهن التحديثيون علي انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية, راهن التقليديون على انتصار ألمانيا النازية التي كانت حليفة العثمانيين في الحرب الأولى حتى أنهم هتفوا:"إلى الأمام يا رومل"وأطلقوا على قائد النازية:"الحاج محمد هتلر", وهكذا اكتسب الصراع أبعاداً اكبر بخاصة مع تزايد التفاوت الاجتماعي بين المدن والريف وبين الطبقات وهو سمة الرأسمالية في مراحلها الأولى.
كان للفردية والتكتم والكاريزما التي تميز بها الشيخ حسن البنا دور في غموض نشأة الجماعة في مدينة الإسماعيلية في سنة 1928 ويلاحظ أنها مدينة كولونيالية، وشمل الغموض تطورها التدريجي من جمعية تدعو إلى مكارم الأخلاق ثم إلى تشكيل سياسي تتبعه كتائب للكشافة ما لبثت أن تحولت إلى النظام الخاص وهو جناح عسكري سري منفصل عن الجماعة, وكان يتبع المرشد العام حسن البنا مباشرة حتى أن بعض القيادات لم تكن تعلم بوجوده, وهو الذي قام بأعنف أعمال الإرهاب التي ذهب ضحيتها اثنان من رؤساء الوزارات وقاض, واعتدي على ممتلكات الجاليات والمتمصرين وفي مقدمهم اليهود بالاشتراك مع جماعة مصر الفتاة كل عام في 2 نوفمبر تشرين ثاني وهو تاريخ وعد بلفور, وطاول الإرهاب ممتلكات الأقباط والمؤسسات الاقتصادية والقانونية والإعلامية, ولكن سمات المرشد العام الأول هذه إضافة إلى التشوهات الإيديولوجية تسببت في قصور بنيوي فكري وتنظيمي رافق مسيرة الجماعة حتى الآن, ولكن لا بد من القول إن أعمال الإرهاب قام بها الحزب الوطني قبل نشأة الجماعة حين اغتال الشاب إبراهيم الورداني رئيس الوزراء بطرس غالي بدوافع عنصرية ووطنية فاشية في سنة 1909 وحين اغتال الأخوة عنايت السردار الإنكليزي لي ستاك ونتج عنه سقوط حكومة الوفد في سنة 1923.
تعتمد الجماعة مثل كل المنظمات الدينية الراديكالية على قاعدة من الشباب المهمش البسيط الذي تزرع فيه الأيديولوجيا الدينية اختياراً مثالياً بين أن يصبح حاكماً أو شهيداً في الجنة، كما انها مثلما كل الجماعات العقائدية المغلقة تمر عادة بثلاثة أطوار، أولها طور التبشير بفكرة الخلاص التي تحمل بالضرورة مفردات الوصاية والإكراه وبعد أن تصبح على جانب من القوة التنظيمية تدخل إلى الطور الثاني وهو الاصطدام العنيف مع الواقع وهي مرحلة الإرهاب ثم تكتشف تعقيد الواقع وصعوبة تغييره فتبدأ طورها الثالث بالتحول إلى ثنائية الطقسية والواقعية التي تنزلق أحياناً إلى الانتهازية.
تبقى الواقعة الأهم في تاريخ الجماعة عندما ذهب الصاغ محمود لبيب كان الساعد الأيمن للفريق عزيز المصري عندما كان يقاتل بجوار العثمانيين ضد إيطاليا في ليبيا مصطحباً سبعة من صغار الضباط في سنة 1943 بينهم جمال عبدالناصر وخالد محيي الدين كي يبايعوا الشيخ حسن البنا على مصحف ومسدس كنواة لتنظيم الضباط الإخوان, ولكن مرض محمود لبيب ووفاته في سنة 1950 أورث عبدالناصر قيادة المجموعة التي أصبح معظمها أعضاء في النظام الخاص الذي درب عبدالناصر مجموعات من كوادره وأقدم هو شخصياً علي محاولة اغتيال رئيس الوزراء حسين سري, ثم تغير اسم التنظيم عشية الانقلاب بعد ضم أقلية من تيارات أخرى إلى"تنظيم الضباط الأحرار".
ناصرت الجماعة الملك فاروق مراراً ضد الوفد حزب الغالبية, وحين خرجت جماهير الوفد تهتف:"النحاس أو الثورة... الشعب مع النحاس", خرج الإخوان وطلبة الأزهر يهتفون:"الله مع الملك", ولما كان الملك يستأثر بقيادة الجيش, وكان الوفد يعتبر الجيش مجرد رمز للاستقلال الوطني, كان نتيجة ذلك أن الجماعات الفاشية نشطت داخل الجيش وفي طليعتها الإخوان باعتباره جيش الخلافة الإسلامية القادمة. وعندما وقع انقلاب تموز يوليو 1952 لم يكن في قياداته من الأقباط سوى اثنين في رتبة لواء وخمسة في رتبة أميرالاي العميد. ضغط معسكر التقليديين وعلي رأسه الملك وقيادة الجيش وتيار اليمين في حزب الوفد من أجل دخول حرب فلسطين باعتبار أن تحريرها هو أول خطوات إنشاء الخلافة الإسلامية وإضعاف المنافس وهو العائلة الهاشمية. ولما وقعت الهزيمة لم تكن هستيريا الانتقام أقل من صراخ الحرب. وثمة عامل دولي مهم يتمثل في أن نتيجة الحرب العالمية الثانية أعادت ترتيب الساحة العالمية لحساب استقطاب بين قطبين خارج أوروبا التقليدية وهو ما أضعف النفوذين البريطاني والفرنسي، وهكذا بدأت سياسة شغل الفراغ الأميركية في حين كانت المكارتية تحكم العقل السياسي فيها, ولم تجد غضاضة في دعم الانقلابات العسكرية الفاشية. هكذا حصل التقليديون في مصر على مدد إقليمي ودولي لم يتيسر محلياً وكان أشبه بالتدخل الجراحي.
دفع الشيخ حسن البنا حياته ثمناً لآخر العمليات البارزة في مرحلة الإرهاب التي بدأت سنة 1945 وهي عملية اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي بسبب توقيعه اتفاق الهدنة بعد هزيمة العرب في حرب سنة 1948 ولم يكن هناك أمل من أي نوع في تغيير هذه النتيجة، وكان ذلك أحد الدلائل على القصور الفكري لدى قيادة الجماعة بخاصة أن النقراشي كان ممن حكم عليهم الاحتلال بالاعدام في ثورة 1919، وكان شريكه في ذلك احمد ماهر رئيس الوزراء الذي اغتاله الأخوان أيضاً لأنه أعلن الحرب على ألمانيا سنة 1945، وكان مجرد إجراء شكل من شروط عضوية الأمم المتحدة. وكانت نهاية مرحلة الإرهاب على يد رئيس الوزراء اللاحق إبراهيم عبدالهادي.
حاولت قيادات الأخوان أخذ العبرة مما حدث وصدر كتاب المرشد العام الثاني المستشار حسن الهضيبي"دعاة لا قضاة"، وكان للجماعة مندوب في جماعة أنصار السلام هو الشيخ التميمي والتي اسسها يوسف حلمي, لكن النظام الخاص وتنظيم الضباط مضيا في طريقهما دون اعتبار للجناح السياسي"المدني"وربما يكون حريق القاهرة في 26 كانون الثاني يناير سنة 1952 من المحطات على هذا الطريق حيث أغلق عبدالناصر ملف التحقيقات بعد الانقلاب حينما أصبح وزيراً للداخلية, وأشاد بالحريق في كتيب"فلسفة الثورة"وهو الحريق الذي أطاح حكومة حزب الوفد ومهد للانقلاب بالتالي, كما أفرج عن كل المساجين على ذمة قضايا الإرهاب واستثنى الجماعة من قرار إغلاق مقار الأحزاب.
نكل عبدالناصر بالجناح السياسي في الجماعة حتى الشنق والتعذيب والإذلال بلا هوادة بعد محاولة اغتياله المثيرة للجدل في سنة 1954, وفي اعتقادي أن البيئة السياسية في ظل جمهورية عسكرية شرسة لم تكن تتحمل منافسين بعد الخلاص من كل القوى السياسية الأخرى, بخاصة انه قرب إلى السلطة شيوخ الجماعة الذين كان عليهم فقط إرسال خطاب"تأييد"له كي تسقط كل الاتهامات عنهم, وكان معظمهم أعضاء في النظام الخاص أو من المتعاطفين معه، وكانوا أيضاً في الغالب من القاع الاجتماعي في الريف. ومنذ ذلك التاريخ وعلى مدى نصف قرن أصبح الخطاب الديني الجهادي والثقافة الريفية المحافظة هما الثقافة السياسية والاجتماعية لجمهورية تموز العسكرية، واستعاض عبدالناصر بتصور جماعة"مصر الفتاة"للعدالة الاجتماعية لتعويض النقص في رؤية الأخوان. وهكذا أصبح الاستثناء الثقافي قبل الانقلاب هو عقيدة الحكم من بعده، ولم يغير الانفتاح على الفكر القومي العربي والفكر الاشتراكي من هذه الحقيقة، إذ انهما ظلا وسيلة للنفوذ الإقليمي وتوطيد أركان الدولة المركزية التسلطية. والدليل على ذلك أن في السنة نفسها وهي 1961 التي اتخذ فيها قرارات التأميم الاشتراكية للاقتصاد والمالية أصدر القانون 103 لتنظيم الأزهر الذي حول شيخ الأزهر من مسؤول عن سلوك الطلبة والشيوخ إلى مسؤول عن الإسلام. وأنشأ جامعة علمية طائفية هي جامعة الأزهر، وأقام مدينة البعوث الإسلامية التي جلبت الدارسين مجاناً من أفريقيا وآسيا كي يصبحوا قادة للتطرف في ما بعد. وأسس بعد ذلك الحزب الواحد تحت اسم"الاتحاد الاشتراكي", وهي الفترة نفسها التي أدار فيها برنامج التعريب الأصولي للجزائر بواسطة شيوخ الإخوان كما سلمهم غزة وأقام فيها جامعة الأزهر وسلسلة من المدارس الدينية, وأصدر قراراً بمصادرة رواية"أولاد حارتنا"بتقرير من اثنين من شيوخ الإخوان هما السيد سابق ومحمد الغزالي. وهكذا تمت صياغة ذات شرقية عربية إسلامية مغلقة ذات مزاج عسكري عدواني في مواجهة آخر غربي ومسيحي مستعمر وصهيوني و"كافر", وهكذا تلاشت القضايا الأصلية وهي قضايا الحرية والتقدم والسلام. وانعكس هذا الفرز بالطبع بين المدنيين والشيوخ على التركيب الفكري والتنظيمي للجماعة حيث تداول قيادتها أعضاء النظام الخاص ودخلت سياق التشدد والغلو والتطرف إلي الهاوية أي إلى البيئة الاجتماعية والسياسية الحالية في مصر, والتي خرج منها ثلث تنظيمات العنف الأكثر تشدداً وراديكالية على المستوى العالمي, والمثير للسخرية أن الغرب تحت قيادة الولايات المتحدة كان يسمي ذلك استقراراً.
تطابق حصاد الحقل مع البيدر بدقة حينما وصلت تلك السياسات إلى نتائجها على مدى هذه العقود الطويلة بأكثر مما يجب. وعلى سبيل المثال لا الحصر, كان المسلمون السنة في مصر يتوزعون على المذهبين الشافعي والحنفي وهما أكثر المذاهب الإسلامية مرونة. وكانت التعددية الدينية والمذهبية سمة واضحة في الحياة المصرية, وكانت ذكرى عاشوراء وأربعينية الحسين يحتفل بهما سنوياً في حي الأزهر. وكان التصوف الديني المسالم ركناً ركيناً في الثقافة الاجتماعية المصرية، وكانت احتفالات الطرق الصوفية من الاحتفالات العامة الممزوجة بالفن والبهجة. وكان المسلمون يتلقون البركات من القسس وكانت سعفات أحد الشعانين تعلق في كل البيوت من دون حساسية, إضافة إلى أعياد وفاء النيل والقطن والزهور والعلم والمعلم والعامل والفلاح والكشافة التي كانت احتفاليات قومية. وكان المصريون بكل مذاهبهم يمارسون الرياضة في نوادي المكابي اليهودية ولكن في ظل جمهورية تموز أصبح ملف الأقباط والمسيحيين واليهود والشيعة والبهائيين وكل الأديان والمذاهب الأخرى من اختصاص الأمن, وعين ضابط هو الفريق سعدالدين الشريف علي رأس الجمعية الشرعية ذات الجذور الصوفية، وكانت أكبر جماعة دينية في مصر. وألغيت كل الأعياد القومية باستثناء شم النسيم والأعياد الدينية وأعياد الانتصارات العسكرية الزائفة، وأصبح الدين مادة أساسية في التعليم العام. وبعد أن كان التعليم الديني لا يزيد على سبع مدارس وثلاثة معاهد عليا أصبح الآن سبعة آلاف مدرسة ومعهد ديني تقريباً. وأصبح التعليم الديني ثلث التعليم العام, ودخل الشيوخ إلى كل أجهزة الرقابة, وأصبح عددهم ستة أمثال تعداد المحامين. ولا يوجد في القوانين ما يحرم فتاوى وأحكام التحريض على القتل والاستباحة والكراهية وتمجيد العمليات الانتحارية الإجرامية جهاراً نهاراً في المطبوعات وأجهزة الإعلام الرسمي ومنابر المساجد. ويقوم حزب الجمعة بالحشد أسبوعياً ضد الديموقراطية والعلم والسلام والمرأة والغرب والأديان والمذاهب الأخرى بما فيها الإسلامية في صخب هائل. وأصبح إنشاء المساجد لا يخضع لأي قانون بما فيه قانون العقارات والملكية العامة ومهما كان إنفاقه من الكهرباء والمياه فهو على حساب الخزانة العامة, في حين يسكن الملايين في المقابر ويهيم في الشوارع مليونا طفل وطفلة، وتوجد ثلاث هيئات على مستوي وزارات هي وزارة الأوقاف والأزهر ودار الإفتاء.
بعد أن احتكرت الدولة المركزية التسلطية قراءة واحدة متشددة للدين والأخلاق ووضعت كل العلوم والمعرفة في خدمة الإيمان دب الفساد في الكل, توجت كل ذلك بدستور ديني يعتمد الشريعة المصدر الأساس للتشريع, ولا يوجد في كل مراكز القرار وما يسمى بالمؤسسات السيادية مسيحي واحد أو امرأة, وأصبح التمديد لرئيس الجمهورية يسمى مبايعة, ويشترط قانون الأحزاب الموافقة على تطبيق الشريعة بجانب التسليم بالجمهورية العسكرية, وتعددت أحكام المحاكم المضادة للقانون المدني ومواثيق حقوق الإنسان, حتى أن أعلى محكمة في مصر أيدت الحكم بتفريق باحث أكاديمي عن زوجته بعد تكفيره.
ماذا يمكن للأخوان أن يضيفوا بعد ذلك سوى تكملة طريق الظلام إلى ما يشبه دولة طالبان؟ ولذا حاولوا خلال الأعوام الماضية أن يرتفعوا من مستوى الشريك الأداة للدولة إلي مستوى الشريك المتضامن, بخاصة أنهم يحتلون مكانة بارزة في خريطة الفوضى التي سببها النظام العربي في فلسطين والسودان ولبنان والجزائر والعراق, وهم مركز التنظيم العالمي للأخوان, ولديهم خبرة جيدة في التعامل من بعيد مع جماعات الإرهاب. ثبت ذلك في عملية اغتيال فرج فودة حيث قاموا بالتمهيد لاغتياله بترويج الحكم بكفره ثم دافعوا عن القتلة في المحاكم ثم جاءت بياناتهم ملتبسة باستثناء وحيد هود، سليم العوا, وكل ذلك يرشحهم أداة مثالية للفوضى. ولذا لا يمكن تفسير كيف لدولة عسكرية دينية بامتياز أن تطلب من جماعة دينية أن تصبح حزباً مدنياً؟ إن الأمر أقرب إلى الخداع, أو أنها الاشكالية القديمة في التاريخ المصري وهو صراع الكهنة والمعبد في ظل الإقطاع العسكري بهدف استغلال المجتمع وتزييف وعيه وإرادته.
أعترف هنا بأن تجربة حزب الوسط ونبذ الجماعات الراديكالية للعنف لم يبذل لها ما تستحقه من حوار ودراسة, واعتقد بأن الفرصة لا تزال متاحة.
وأعتقد هنا بأنه إذا كان من شروط الدولة المدنية والحياة الديموقراطية أن يعاد توزيع القوة أي السلطة والثروة على المجتمع المنهك اليائس وتفكيك المركزية السياسية والاقتصادية الفاسدة"فإنها أيضاً تعني إعادة الاحتياجات الروحية والقوة الأخلاقية إلى الحق الشخصي والاجتماعي الحر, وهذا يشرع في وجه الدولة قبل أن يشرع في وجه جماعة الأخوان المسلمين.
الإسكندرية في أول ايار / مايو 2005
كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.