ما يزال اغتيال البوليس السري المصري في 12 شباط فبراير 1949 لحسن البنا مؤسس جماعة الاخوان المسلمين ومرشدها الاول ينيخ بظله الكثيف بعد خمسين عاماً على ذاكرة الجماعة و"حروبها" الداخلية، ويمثل مفرقاً دامياً في تاريخها المضطرب والمثير، الذي كان البنا نفسه اكبر صناعه بقدر ما كان من ابرز ضحاياه، ومنذ مقتله لم يكف الاخوان عن نسج "اسطورة" البنا. بل كان محتملاً لهذه الاسطورة ان تترسم في مصر بعد ثورة 23 يوليو تموز 1952 التي كان الاخوان شريكاً اساسياً وعسكرياً فيها لولا الصدام ما بين الاخوان و"الثورة"، اذ حرص المجلس الثوري وعبدالناصر شخصياً منذ الايام الاولى على زيارة ضريح البنا في ذكرى اغتياله، واعقتال قتلته ومحاكمتهم. واضحت هذه "الاسطورة" على غرار اساطير الحركات العقائدية عن مؤسسيها محل تأويل مستمر ما بين مدرستين في الجماعة، ما زالتا تمثلان حتى اليوم محور انقساماتها، وهما المدرسة التقليدية الاصلاحية التي تتجه نحو تحويل الجماعة الى نمط اسلامي من انماط الاحزاب الديموقراطية المسيحية في اوروبا، والمدرسة الراديكالية الانقلابية التي تعمل بالاساليب الاعتراضية. ولم يكن ذلك ممكناً لولا ان شخصية البنا وتجربة الجماعة في طور امامته لها، كانت تنوس بشكل مضطرب ما بين هذين القطبين، اللذين كانا قطبين اساسيين ليس في الجماعة وحدها بل في الحياة السياسية المصرية برمتها. فهذا الشاب الذي ولد عام 1906 في بلدة المحمودية - بحيرة قرب الاسكندرية، ونشأ في اطار الطريقة الحصافية الشاذلية، أبصر مطالع شبابه ابان ثورة 1919، وشارك في تظاهراتها الطلابية وهتافاتها ضد ملنر، الا ان هذه الثورة لم تلعب سوى دور محدود في تشكيل وعيه، اذ سيلعب هذا الدور ذلك الاستقطاب الحاد ما بين العلمانيين والاسلاميين في المجتمع القاهري في العشرينات، اثر إجهاز الكماليين الاتراك على الخلافة. ولم يدع البنا الشاب لنا في مذكراته التي حملت عنوان "مذكرات الدعوة والداعية" اي مجال للشك في ان تكوينه للجماعة كانت نتجية مباشرة لذلك الاستقطاب، ومحاولة للرد على اسقاط الخلافة، والشروع في بناء أممية اسلامية ثانية، فوضع اعادة الخلافة على "رأس مناهج الاخوان" في الوقت الذي ارجأها واعتبرها في منظور الاولويات المباشرة نوعاً من طوبى، وعلّق اقامتها على انجاز مراحل تسبقها، واستبدلها فعلياً بإقامة الحكومة الاسلامية بشكل متدرج بدأً من التكوين الاسلامي للفرد فالأسرة فالمجتمع. أسس البنا الجماعة في آذار مارس 1928 في شكل جمعية دينية تشبه شكلياً عشرات الجمعيات المماثلة في زمانه واعلن في ايلول سبتمبر 1945 عن تحولها المعلن الى حزب سياسي، ثم الى تنظيم عالمي تحت اسم "حركة الاخوان المسلمين". واذا كانت النواة الاساسية للجماعة اقتصرت على ستة عمال في المعسكرات البريطانية في الاسماعيلية فانها اصبحت في نهاية عام 1948 حين تم حل الجماعة قوة "مليونية" بالمعنى التام للكلمة، تمتلك في مصر وحدها ما عدا البلدان الاخرى الفي شعبة وخمسة وسبعين الف جوال كشّاف اصطفيت نخبها وأطّرت في "الجهاز الخاص" للجماعة فضلاً عن المؤسسات الاستثمارية والخدمية والاجتماعية الكثيفة التي حوّلت الجماعة الى دولة داخل دولة. ولم يكن ممكناً للجماعة في طور امامة البنا لها ان تنمو بهذا الشكل "المليوني" بمعزل عن عوامل مركبة يأتي في مقدمها اسلوب البنا ومرونته البراغماتية الهائلة في تطويرها، التي فاقت براغماتية اكثر الحركات دنيوية وعلمانية في زمنه. وتجلت هذه البراغماتية اكثر ما تجلت في تحالفات الجماعة. فاذا كان البنا الشاب حرص في البداية على عدم وضع الجماعة الوليدة في اية مواجهة مع جبهات قوية يمكن ان تحطهما، واستغل تناقضات الفاعلين السياسيين الاساسيين في تطويرها الملموس، فان جماعته غدت في منتصف الاربعينات "حزباً" قوياً لا يمكن تجاهله. فقد ادت براغماتية البنا وحسه العملي المدهش، وشمه الحاذق للوقائع وتطوراتها الى جعل الجماعة النامية باضطراد محل اهتمام وجذب جميع الفاعلين الاساسيين في الحياة السياسية المصرية من سفارة انكليزية وقصر ملكي واحزاب سياسية بما في ذلك احزاب الوفد والاقلية وحتى حركة "حدتو" الشيوعية. وباستثناء "حدتو" التي نسجت علاقات وثيقة مع القواعد الطلابية والعمالية الاخوانية دون مرشدهم، فإن البنا تحالف في اوقات مختلفة مع جميع اولئك الفاعلين السياسيين ثم انفك عنهم او تحول الى خصم مباشر وسافر لهم. وكانت علاقته مع الوفد، حزب الاغلبية الشعبية، من اعقد هذه العلاقات، فقد تحالف معه إثر اعادة الانكليز له الى السلطة في شباط فبراير 1942، وابرم صفقة مع النحاس باشا تقوم على دعم الجماعة واتاحة حرية العمل لها وعزل خصومها المجانسين لها مثل حركة "مصر الفتاة" احمد حسين مقابل عدم خوض البنا الانتخابات النيابية والوصول الى البرلمان. خلال حكومة الوفد هذه التي استمرت من شباط 1942 الى تشرين الاول اكتوبر 1944 ارتفع عدد شعب الجماعة الى 1500، وكان وكيلها احمد السكري نوعاً من ضابط اتصال سياسي ما بينها وبين الوفد الذي كان في امكان رجله القوي فؤاد سراج الدين ان يطلب من البنا يومئذ ان يعتبره "جندياً في جيشه الجرار". الا انه ما ان أُقيل النحاس باشا حتى فك البنا تحالفه مع الوفد، وتسبب ذلك في اخطر انشقاق عرفته الجماعة في طور البنا وهو انشقاق 1947 الذي قاده احمد السكري وكيل البنا ورفيقه الاول في تأسيس الجماعة ونسج تحالفاتها واتصالاتها السياسية. وادى وضع البنا بدأً من عام 1945 للجماعة في مواجهة مكشوفة مع الوفد، ومد يده الى حكومات الاقليات، وان كان هذا المد مشروطاً وموقتاً الى انقسام الحركة الوطنية المصرية، وكان واضحاً ان البنا الذي اخذ يشعر تماماً بقوته الهائلة يحاول ان يخضع الاحزاب الى قيادة الجماعة وليس العكس، وكان عائقه الاساسي هنا الوفد وليس احزاب الاقلية العديمة الجذور شعبياً. وفي هذه الفترة الحاسمة بين اعلان البنا عن تحول الجماعة الى حزب سياسي في عام 1945 وبين اغتياله في 12 شباط 1948 برز الشكل الراديكالي للجماعة كما لم يبرز في اي وقت سابق، اذ قام البنا برعاية انقلاب في شباط 1948 في اليمن اطاح برأس الامام يحيى، وبتجنيد مئات المتطوعين في حرب فلسطين، وبتعزيز سلطة الجهاز الفدائي الخاص في الجماعة. الا ان توتر الحياة السياسية المصرية نفسها، الناتج عن تعقد المسألة المصرية وهشاشة النسق التعددي - التنافسي وعجزه عن ايجاد حلول تستوعب التيارات الراديكالية الناشطة، وصدور قرار تقسيم فلسطين لعب كله دوراً اساسياً في بلورة الشكل الراديكالي للجماعة واستكماله، مع انها اعلنت عن نفسها حزباً يعمل في الأطر الدستورية. وربما لعبت عملية اقصاء النظام السياسي المصري للجماعة عنه، عبر اسقاط مرشحيها في انتخابات 1945، في اكثر الانتخابات زيفاً في التاريخ المصري، دوراً مهماً في تلك البلورة اذ ان الجهاز الخاص، وان كان البنا قد شكله على الارجح بعد محنة الجماعة الاولى عام 1941 مع الانكليز، لم ينشط فعلياً الا بعد عملية اسقاط مرشحي الجماعة في الانتخابات النيابية، حيث كان رئيس الحكومة احمد ماهر اول ضحاياه عام 1945. وعزز البنا من دون ان يدري العقابل الحقيقية لسياسته من سلطة الجهاز الخاص، حين اعتمد علىه في احباط الانقلاب الوفدي في الجماعة ومحاصرة رموزه، اذ تحولت قيادة الجهاز الخاص طرداً مع تمرسها بحرب الارهاب الى اشبه بتنظيم مستقل داخل التنظيم، يتخطى المرشد ويتحدى سلطته. واعتمدت الحكومة في حيثيات حلها للجماعة في كانون الاول ديسمبر عام 1948 على العمليات الارهابية اليومية الكثيفة لهذا الجهاز، في الوقت الذي حاول فيه البنا يائساً ان يجد مخرجاً لقرار الحل بالطرق القانونية وبالاتصالات والوساطات. الا ان ما حدث فعلياً هو ان البنا فقد السيطرة على الجهاز السري الخاص، او ان سيطرته عليه قد بلغت ادنى درجاتها، اذ امعن هذا الجهاز في عملياته الكثيفة، وقتل النقراشي باشا الذي اتخذ قرار حلّ الجماعة، وكان ما يزال يثير الرعب في كل مكان، مما اشعر الحكومة بانقلاب سيجري تنفيذه في كانون الثاني يناير 1949، فاستبقت هذا الانقلاب بقتل البنا. وكأن البنا الذي بنى الجهاز السري شخصياً قد اصبح ضحية له. اذا كان التراث الراديكالي للبنا يمثل حزءاً لا يتجزأ من تاريخ الراديكالية المصرية في النصف الاول من القرن العشرين، فانه ما يزال ينيخ بظله الكثيف والمرعب على سمعة الجماعة، ويشكل اكبر عائق امام تطوراتها الفعلية في مرحلة ما بعد البنا. فعلى الرغم من ان الجماعة حالياً وضعت خطاً حاسماً ما بينها وبين التيارات الراديكالية الاسلامية، واتجهت الى العمل بشكل سياسي وضمن الأطر الدستورية لكل قطر عربي يتميز بدرجة من درجات النسق التعددي التنافسي، فان الاستقطاب ما بين المدرستين التقليدية والراديكالية والانقلابية ما يزال محوراً اساسياً في استقطاباتها. ويبقى تراث البنا في ذلك قائلاً باستمرار لاستثماره مرجعياً وتفسيره من جديد، وينيخ بظله الكثيف على الجماعة، بعد خمسين عاماً على اغتياله. * كاتب سوري.