كيف لشخصٍ لبناني، يناهز اليوم الخمسين من عمره، ان يتكلم على ما شهده من احداث في بلده، الذي لا يكاد يتمالك انفاسه، حتى تقذفه موجة جديدة في مجهول متجدد؟! والشخص اللبناني الذي يحاول ان يفهم ما يجرى في بلاده لا تفضي به محاولاته الا الى مزيد من الحيرة والتخبط. وقد لا يكون هنالك ما يشبه المشكلة اللبنانية من حيث غرابتها وتعقيدها. حتى المشكلة الفلسطينية، التي هي من اصعب المشكلات في العالم وأقساها، تبدو اكثر وضوحاً من المشكلة اللبنانية، اذا نظرنا الى اطراف الصراع والى سياق الوقائع. ليس من بلدٍ كلبنان، تحصل فيه الاحداث بمنطق يظل خافياً على سكانه، الذين تعصف بهم تلك الاحداث من حين الى آخر. قد تأتيهم بالكوارث من حيث لا يدرون او يتوقعون، ثم قد تأتيهم بالأمل من حيث لا يدرون ايضاً او يتوقعون. وعندما تنشب النزاعات احياناً بين فئاتهم المتنوعة، لا تكون واحدة من هذه الفئات على دراية بالأمر، ولا تكون ? بالطبع - صاحبة قرار فيه. ووتيرة الاحداث في لبنان متسارعة جداً، فلا يكاد المرء يركز على حادث منها، حتى يذهب بتركيزه حادث آخر، بل حوادث اخرى. والأدهى من كل شيء هو ان اللبناني، وهو يحاول ان يفهم ما يجرى له، لا يسعه ان يكون مراقباً او متأملاً، وإنما هو دائماً امام خيارات مصيرية، في المستوى العام وفي المستوى الشخصي، فكيف لشخص ان يقرر مصير نفسه وهو ينظر مشدوهاً الى ما يحدث حوله؟! البلدان اذاً، تتباين وتختلف في ما بينها قليلاً او كثيراً، ونوعية الحياة تتغير قليلاً او كثيراً من بلدٍ الى آخر. ونحن هنا نقصد بنوعية الحياة مجموعة المسائل والمشكلات والقضايا التي تكابدها جماعة من الجماعات، وتالياً طرق التعبير والتصرف لدى الاشخاص إزاء ما يكابدونه. فإذا كان اللبناني على الدوام في وضع المتحفز المتهيب إزاء ما يواجهه من احداث متسارعة وغامضة، أليس هنالك اشخاص في بلدان اخرى، مختلفة عن لبنان، يولدون ويعيشون ويموتون من دون ان يدور في خلد الواحد منهم شيء من ذلك الذي يتخبط فيه اللبناني طوال حياته؟ وهذا الاخير الذي يجد نفسه على الدوام مغموساً في شؤون السياسة والحرب والفكر والعقائد والاقتصاد... وما الى ذلك، هو الذي ينتهي الى وصف نفسه بالحائر، او الى الاعتراف بعدم القدرة على الفهم. بينما غيره، في بلد مختلف عن لبنان، قد لا يجد نفسه مضطراً الى الاهتمام بأي شأن من الشؤون العامة إلا من باب الترف احياناً... وهو تالياً لا يكابد من امور الحيرة والفهم إلا ما يتعلق بكونه فرداً له همومه ونزعاته الشخصية. التنوع القائم في المجتمع اللبناني، في تركيبة هذا المجتمع، له وجهان: الاول ايجابي، يظهر في ايام السلم والاستقرار غنى ثقافياً وتعدداً وحرية في التفكير والتعبير. والثاني سلبي، يظهر في ايام النزاع والمشاحنات انكماشاً وانكفاء ونبذاً للآخر. واذا كانت كثرة الطوائف في لبنان هي التي تسمح بهامش للديموقراطية، فإن الفرد لا يشعر بأنه حر، على رغم هذا الهامش. يصعب على الفرد ان يكون خارج طائفته، كما يصعب عليه ان يكون داخلها اذا كان متنوراً ذا عقل منفتح. في ايام الحروب، تتحول الطوائف الى حصون فيلجأ كل فرد الى حصنه او طائفته، والذين يرغبون عن هذه الحصون لا يبقى لهم سوى الخوف او الهرب. وفي ايام الاستقرار، تنطوي كل طائفة على اسطورتها، على افكارها او مبادئها التي لا يجد فيها الفرد المتنور المنفتح إلا سجناً او فخاً. هكذا يصعب على الفرد في لبنان، البلد الذي يفخر على غيره من بلدان المنطقة بما لديه من هوامش للحرية والديموقراطية، يصعب عليه ان يكون فرداً بالمعنى الصحيح. يجد الفرد نفسه على الدوام محكوماً بمقتضيات العلاقات التقليدية، داخل الطائفة الواحدة من جهة، وفي ما بين الطوائف المتعددة من جهة ثانية. الاساطير الطائفية لها حضور في لبنان هو اسطع من حضور الصيغة الوطنية. هذه الصيغة تظل هشة على الدوام، تظل معرضة للتفتت او التهاوي، ولكنها تظل تقدم للطوائف فضاء اوسع من فضاءاتها الضيقة، كما تظل املاً ومتنفساً للأفراد الذين ينزعون الى التفلّت من طوائفهم. وما اشد ما تقوى الاساطير الطائفية في الازمات وفي المحن. كأن الانكماش - أكثر فأكثر - داخل الطائفة، او بالأحرى داخل الاسطورة الطائفية إنما هو السبيل الى الاحتماء او التحصن ازاء الازمات والمحن. تتحول الاساطير الطائفية في الازمات والمحن الى اوطان صغيرة، ولكنها اكثر صلابة وتماسكاً من الوطن الكبير، الذي لا يشعر بنفسه حقاً إلا في اوقات السلم. وإزاء هذا الواقع، تتعاظم محنة الافراد الذين يبحثون عن حياة يسودها السمو الفكري، ويتجلى فيها العقل النير. تتعاظم محنة الافراد الذين يرفضون التقوقع، من أي نوع كان. يرفضون الانكماش ويتوقون الى الرحابة. ولهذا، يسكنهم هم ابتكار الصيغة الوطنية، التي ينبغي ألا تكون هشة ازاء الطوائف وأوطانها الصغيرة. كل حماسة او اندفاع في وضع كأوضاع لبنان هو رعونة وتهور. ذلك ان اللبنانيين جميعاً يعرفون ان صيغة العيش في بلدهم لا تقوم إلا على التوازن، أي من دون غلبة لفريق على فريق. وهم غالباً ما يحتارون او يرتبكون في وصف ذلك العيش، فيسمونه تارة"العيش المشترك"، ويسمونه تارة اخرى"العيش الواحد"، ويريدونه تعبيراً عن"وحدة وطنية"يخشون عليها التصدع في كل حين. ومع ذلك، عند حدوث أي خلل في التوازن، نجد فريقاً يتحمس ويندفع! اذ يحسب انه قادر على تغيير المعادلة وتسجيل الانتصار. عندها، تبرز الازمة ويزداد التوتر وتنكشف هشاشة الصيغة الوطنية، ويتعاظم الخطر عندما يأخذ اللبنانيون بالابتعاد عن هذه الصيغة كل الى طائفته. والطريف ان اللبنانيين قلما يتعلمون من تجربة الى تجربة. كأنهم ينسون او يتناسون الدروس التي يتلقنونها في كل مرة. هكذا يتعرضون لهزة كل عقدين او ثلاثة. والحرب الاخيرة التي عاشوها استمرت اكثر من خمسة عشر عاماً 1975-1990. ولما كانت التدخلات الاجنبية سهلة وواردة في كل حين، فهناك من يقول ان السلم في لبنان يأتي بسحر اجنبي، وكذلك الحرب تأتي بسحر اجنبي. اذا كانت التجربة اللبنانية مريرة الى الحد الذي حاولت التعبير عنه، فماذا نقول عن التجربة الفلسطينية؟ ماذا يقول الفلسطيني الذي اقتُلع من كل شيء كان له قبل نحو نصف قرن، وأُلقي به في متاهات العذاب من كل نوع. اننا حقاً -نحن العرب - شركاء في كل شيء، شركاء في المعاناة وفي المصير. واذا كان بعضنا يعاني اكثر او اقل من الآخر، فهذا لا يعني ان بعضنا مسؤول اكثر من الآخر. ينبغي لنا - نحن العرب - ان نكون متساوين في تحمل المسؤولية الصعبة، مسؤولية النهوض والتعقل ووعي المشكلات والتصدي لها.