في مناسبة الذكرى التاسعة والخمسين لاستقلال لبنان، اود ان اشاطر القارئ اللبناني بعض الافكار التي ما زالت تستحوذ على مواضيع الساعة، والتي اعرب عنها منذ عشرين عاماً، وتحديداً في تشرين الثاني نوفمبر 1982، احد اكبر المفكرين اللبنانيين الاستاذ الراحل ادمون رباط رجل قانون متخصص في القانون الدستوري، مؤرخ وأستاذ جامعي في احدى المقابلات التي اجريتها معه لاذاعة لبنان. ودارت مقابلتنا على مقدرة اللبنانيين على بناء امة. واليكم خلاصة لتحليله الحاذق والصريح والبناء لموضوع ما برح اللبنانيون ينقسمون حوله الى يومنا هذا. "هل يشكل الشعب اللبناني امة بكل ما للكلمة المعاصرة من معنى؟ هذا هو السؤال الجوهري والمقلق الذي يُطرح وسيظل يُطرح لسنوات طويلة". بهذه العبارات اجاب ادمون رباط ليضيف قائلاً: "وذلك لأن لبنان، ولشديد الاسف، مكون من 15 طائفة *، ولكل طائفة رسالتها الوطنية، اذا جاز التعبير. فيجد المواطن اللبناني نفسه مقيداً ومكبلاً بسلاسل طائفته، اذ ينتمي الى طائفة تحتضنه قبل انتمائه الى الوطن. ويبقى ولاؤه مقوضاً ومعوقاً بفعل انتمائه الطائفي. وفي مثل هذه الظروف، من الصعب الحديث عن امة لبنانية، لأن مفهوم الامة يفترض حداً من التناغم بين مواطني البلد الواحد، الامر الذي يفتقد اليه لبنان بشدة". وعندما سألته عن امكان تصوره لنهاية المحنة، اجابني قائلاً: "ولمَ لا! فالأمر يتطلب كثيراً من الشجاعة. نحن في حاجة الى مفكرين، وفي حاجة الى اشخاص مقدامين. علينا ان نتصور شعباً لبنانياً بمنأى عن الطوائف، بل واعذروني ان استخدمت هذه العبارات المشينة التي، وللأسف، تنطبق على واقعنا المرير، لا بد من نزع الطائفية. بصريح العبارة، علينا ان نبذل قصارى جهدنا لنحد تدريجاً من امتيازات الطوائف والولاء المفروض تجاهها. فنحن نعيش في بلد ربما لا نظير له في العالم، حيث المواطن يعجز عن العيش والموت وممارسة حقوقه السياسية إلا انطلاقاً من انتمائه لطائفة معينة". ثم اطلق صرخة ملؤها المرارة والألم: "اين نحن من الديموقراطية؟ اين نحن من حرية الضمير؟ اين نحن من الحرية السياسية في ظل تشابك الروابط الطائفية التي تخنق اللبنانيين من كل حدب وصوب". ثم عقب على امكان التغيير قائلاً: "المشكلة ان المفكرين لا كلمة لهم، ورجال السياسة يرفضون التفكير، وان فكروا، يؤثرون غض الطرف عن ثمرة افكارهم لأن الوضع الراهن انما هو المبرر الاول لنجاحهم السياسي. تلك هي المشكلة المقلقة. وللأسف الشديد، لا بد ان نقر بأن نخبة المفكرين اللبنانيين مشتتة ومشرذمة، سيما عقب الحرب الاخيرة التي فتكت بلبنان". وكانت الكتائب في "أوج نفوذها". فأعرب السيد رباط عن الامل في "ان تستنير الكتائب، في يقظة ضمير، بالروح القدس، لتدرك ان الواجب التاريخي الملقى على عاتقها يتمثل في تغيير هذا الوضع اللبناني تغييراً جذرياً ونهائياً. فلا بد ان نقتنع بأن لبنان عاجز عن البقاء والاستقرار في ظل هذه التركيبة الشديدة التنوع والاختلاف". أما في شأن ادوار الجهات المعنية الاخرى، فأجاب الاستاذ رباط: "لا مصلحة لرؤساء الطوائف في تغيير الوضع القائم، وأنا اعني بهم رجال الدين من الطرفين. فالامتيازات والمكاسب والمصالح التي يتمتعون بها هائلة، حيث يصعب عليهم فهم واجباتهم المدنية. فيبقى الحل الوحيد في ايدي الشعب اللبناني والشباب المثقف الذي ينتظر منه الاتحاد والترويج لحركة تفرض ارادة موحدة على لبنان المستقبل". ولمّا سألته عن الاسباب التي منعت حرباً دامت ثماني سنوات من استحداث حل مماثل، اجاب: "اخشى ما اخشاه ان اللبنانيين غير متفقين في ما بينهم على ماهية الهوية الوطنية. فجل المأساة اللبنانية تلخص في التناقض بين اللبنانية والعروبة. اللبنانيون منقسمون حول الهوية الوطنية" فالمسيحيون عموماً يؤكدون ان لبنان ليس عربياً، فيما ان المسلمين، في الغالب، وقسماً من المفكرين المسيحيين، يؤمنون في عروبة لبنان. في رأيي، يكمن الحل الانسب لهذه المعضلة في ابتكار عروبة غير مسلمة للبنان، عروبة حديثة وعلمانية - مع العلم ان كلمة علمانية لا تروق لي كثيراً لأنها لا تعبر في دقة عن الحال اللبنانية. وقد نبني جسراً بين الايديولوجيتين. لمَ لا نفكر في الروابط التي نسجها التاريخ بين لبنان والعالم العربي؟ لم لا ندرجها في اطار ايديولوجي قادر على التوفيق بين نقيضي الفكر اللبناني: اللبنانية والعروبة، وحصيلتهما العروبة اللبنانية. فإذا ما اعتبرنا ان اللبنانية هي الطريحة والعروبة هي النقيضة، تغدو الحصيلة اللبنانية العربية". ولكن الحلول بقيت حبراً على ورق، وما زلنا اليوم عاجزين عن ابتكار مفهوم جديد لحكم ذاتنا، بعيداً من برج بابل الذي نرفع بنيانه يوماً بعد يوم. ولم يحدث ما ينفي اقوال ادمون رباط التي باح بها بعد سنوات، في معرض حديثه المحفوف بالملل والمرارة عن الفرص الفائتة: "من ثوابت التاريخ ان يبقى هذا البلد تحت اشراف ولي اجنبي!". وأضاف بنفور واشمئزاز شديدين قائلاً: "نحن في حاجة الى وصي!". هذا الرجل يكن له زملاؤه شديد الإكبار والاحترام. وهو نسيه او تناساه معظم رجال السياسة المعاصرون له. رجل لا يعرف شباب اليوم عنه شيئاً، ويستحق ان نقرأه ونعيد قراءة ما كتب. فقد يصل ادمون رباط حقه ان بدأنا نحن نتحرر من السلاسل الكامنة فينا والتي تكبلنا. ارتفع عدد الطوائف اليوم الى 19 طائفة. لبنان - سنا أياس ختشريان صحافية