تنهض مجموعة من الأسئلة عند التفكير في النظام السياسي اللبناني وقابليته للسقوط على غرار ما سقطت أنظمة عربية أخرى في الشهرين الماضيين. السؤال الأول يتعلق باتساع شريحة اللبنانيين المتضررين من النظام الطائفي. مفهوم تماماً أن الطائفية في لبنان تعيق عنصراً رئيساً من عناصر الديموقراطية وهو تداول السلطة. وفي الوقت الذي يتيح تعدد الطوائف نوعاً من الحرية في التعبير عن الآراء وقدراً من الحريات العامة، فإنه يحصر السلطة السياسية في قيادات الطوائف وفي قدرة القيادات المختلفة على بناء تحالفات وائتلافات مع قادة الطوائف الأخرى. وجود أحزاب علمانية في لبنان منذ أكثر من ثمانين سنة لم يخرق القاعدة، بل أدى إلى استسلام العلمانيين إلى آلية الحكم الطائفي. إذاً، كم نسبة المتضررين من النظام الطائفي إلى إجمالي عدد السكان؟ يصعب الجزم. فالطوائف أنشأت أنظمة تعويض تقايض ولاء الأفراد للزعامات الطائفية بتقديم بعض الخدمات الاجتماعية والتعليمية والوظائف للموالين. عليه، تنتشر شبكة واسعة من المستفيدين فائدة غير مباشرة من النظام الطائفي، ومن عجز الدولة عن الحلول مكانه. ومنذ ستينات وسبعينات القرن الماضي، لاحظ كثر من اللبنانيين أن مؤسسات الدولة التي من المفترض أن تساهم في تشكيل المجتمع المدني ونخبه، تتعرض لعملية إضعاف مقصود، على غرار ما جرى ويجري في الجامعة اللبنانية التي أفلح النظام الطائفي في «تدويرها» وجعلها أداة إنتاج حملة شهادات يعملون في خدمة طوائفهم. السؤال الثاني يبرز عند محاولة المقارنة مع الثورات الدائرة في الدول العربية. عند تكرار شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» تصعد إلى المخيلة فوراً صورة الرئيس البطريرك – الديكتاتور – الفرعون. الحمولة الرمزية لكلمة «النظام» في القاموس العربي شديدة الوضوح وتكاد تعادل كلمة الحاكم الذي يسير كل أتباعه وزبانيته وفق مشيئته. المسألة أكثر تعقيداً في لبنان. فمن هو الشخص - الفرد الذي يرمز إلى النظام الطائفي في لبنان؟ لقد علمتنا أعوام الأزمة الوطنية الدائرة منذ 2005، أن لكل طائفة وجماعة رمزها الذي تحشوه كل كوابيسها ومخاوفها. لكن الديكتاتور الطائفي، خلافاً لحاكم الدولة، يحوز رضا جماعته التي لا تتعب من الخروج الى الساحات للهتاف واعلان الاستعداد للتضحية بالروح والدم فداء له. ذلك أنه رمز صمودها في وجه الطوائف المعادية وتجسيد لفكرة البقاء في ظل حرب أهلية متفاوتة السخونة والبرودة. تقود الحقيقة هذه إلى استبعاد فكرة إسقاط القيادات الطائفية عبر ثورات من داخل كل جماعة. إذ إن حالة الاستنفار الدائم، ضد الطوائف المنافسة أو ضد الأخطار الخارجية والفوائد الموزعة من قيادة الطائفة على أفرادها، تحول كلها دون تبلور معارضة ضمن كل طائفة لزعامتها المكرسة. ويشي ذلك بالسيولة الشديدة للنظام السياسي اللبناني. بيد أن انتقال الصراع الطائفي اللبناني من «الفالق» المسيحي – المسلم، إلى ذلك السّنّي – الشيعي، وانقلاب المجموعات المسيحية المتنافسة ممثلين ثانويين في الصراع على السلطة بين الجماعتين المسلمتين، يضفي تغييراً عميقاً على الانقسام العمودي في لبنان. ومن ثنائية «الغبن المسلم والخوف المسيحي» التي سادت الحياة السياسية اللبنانية قبل الحرب الأهلية، غاب أو كاد عنصر «الغبن» وسيطر عامل «الخوف» ليصبح عنصر الحشد والتعبئة الأول عند الطوائف. يضاف الى ذلك تعقد الدور المنوط بالقوى المحلية. فعلى هذه باتت تعتمد برامج نووية واستقرار أنظمة قريبة وبعيدة وتوازنات طائفية ومذهبية في أكثر من دولة. السؤال الثالث يتناول صحة إحالة التدفق العفوي للسخط في تونس ومصر، إلى ظاهرة محض إرادية كما يجري في لبنان. غني عن البيان أن لدى اللبنانيين الكثير مما يستحق الغضب، من انسداد افق الارتقاء الاجتماعي لكل من تسول له نفسه الخروج من حظيرة طائفته، وصولاً الى التدهور المشهود لأوضاع الخدمات العامة وتفشي الفساد واستشراء الزبائنية. وإذا كانت حرية التعبير المتوافرة، الى حد ما، في لبنان تساهم في امتصاص بعض الاحتقان الاجتماعي وتعيد تصريفه في قنوات ضيقة تتولى ادارتها القيادات الطائفية التي تشرف على تسوية ما يمكنها من مشكلات جماعاتها، إلا أن ذلك لا يكفي لإلغاء عنصرين اساسيين من عناصر التوتر اللبناني: الأول هو الشعور العميق بالافتقار الى الحيز العام الذي يستطيع المواطن اللبناني ان يطالب فيه بحقوقه من دون أن يصنف عضواً في طائفة من الطوائف. والثاني انعدام التراكم على مستوى العمل العام بما يتيح للنشاط غير الطائفي في المجالات الثقافية والاجتماعية التحول الى نشاط سياسي وطني. السؤال الرابع عن موقف الخارج العربي حيال أي تغيير في التركيبة الطائفية اللبنانية. والسخرية والاستهزاء اللذان يقابل العرب بهما الانقسام الطائفي اللبناني واعتباره مثالاً على الفصام اللبناني بين ادعاءات الحداثة والتمدن وبين التمسك بنظام سياسي أقرب الى الترتيبات العشائرية منه الى الحكم العاقل، يضمران إصراراً عربياً على إبقاء «اللعبة» السياسية اللبنانية ضمن اطار الطوائف ومنع انتقالها الى مستوى العمل الحزبي الديموقراطي. تدل على ذلك سلسلة طويلة من التدخلات العسكرية والسياسية والأمنية العربية التي لا يخفى أثرها، في العقود الأربعة الماضية على الأقل، في ابقاء لبنان يرسف بأغلال نظامه المتخلف. على ان ذلك لا ينفي ولا ينبغي أن ينفي ان النظام السياسي اللبناني صنعه بشر وهو قابل للتغير والتبدل بقدرهم. وما قيل في الأعوام الماضية عن استحالة التغيير في مصر وتونس، ثبت عدم صحته. أزلية النظام الطائفي في لبنان، ليست أزلية على نحو ما يتصور كثيرون منا.