لا يزال الخبر يدوي في مختلف وسائل الاعلام، بعد انقضاء أسابيع على قرار المؤسسة البريطانية للمعلمين BAUT مقاطعة جامعتين اسرائيليتين: بار ايلان الدينية اليمينية لعلاقاتها الحميمة مع المستوطنين اليهود في الاراضي الفلسطينية، وجامعة حيفا بسبب المضايقات التي يتعرض لها الجامعي والمؤرخ الجديد ايلان بابي المتعاطف مع الفلسطينيين، وأحد معاونيه تيدي كاثا الذي كتب أطروحته حول مجزرة قرية فلسطينية سنة 1948 على ايدي الاسرائيليين. ورغم التراجع عن المقاطعة، ظل القرار الأصلي يفاجىء العديدين، خصوصاً بسبب مصدره، كما تفاجئهم الأفكار والحجج التي تم تداولها. فلقد تعود العالم على صدور هذا النوع من القرارات المقاطعة عن فرنسا، بلد الراديكاليات الذي يحث الاوروبيين اليوم على مقاطعة محطة"المنار"الاسلامية اللبنانية، وليس عن بريطانيا التي اشتهرت بتفننها في الحوار والديبلوماسية وفصل الايديولوجيا عن البحوث العلمية. لذا شاهدنا في الاسابيع الاخيرة، فيضاً من المقالات في الصحف ومراكز الويب البريطانية، كما في الصحف الاسرائيلية التي شددت على الاصداء التي يفجرها هذا الخبر في الأوساط الجامعية. واذا كانت المقالات في معظمها تشجب الاحتلال الاسرائيلي ووسائله، كما ترفض مبدأ مقاطعة الجامعات، فان ذلك يدل على ان العالم شهد تغييرات جذرية في اتخاذ مواقفه في شجب سياسة ما. وهذا مع العلم ان اسرائيل، لاسباب لا تحصى، كانت دوماً تجد في تجد معاملة تراعي مشاعر"ابناء المحرقة". اليوم يجيء الرفض لمبدأ المقاطعة كأداة للضغط على دولة ما، ليُظهر نضجاً في تفهم العلاقات الدولية لدى اليسار الاوروبي. فهذا الاسبوع، اعادت صحيفة"الغارديان"البريطانية الكرة حول هذا الموضوع الشائك، فأدارت على صفحاتها نقاشاً حول مسألة مقاطعة الجامعات الاسرائيلية. والغريب ان المقالتين، التي تحبذ مبدأ المقاطعة، والتي تشجبه، ساهم في كتابتهما مثقفون من جنوب افريقيا، بلد الابهارتهايد سابقاً. فالمقالة التي تؤيد المقاطعة والتي صاغها وزير من جنوب افريقيا بمساهمة الصحافية البريطانية فيكتوريا بريتاين، تعيد الى الذاكرة كيف انه في الثمانينات قاطع حوالى 500 اكاديمي بريطاني الجامعات في جنوب افريقيا، استجابةً لطلب من المنظمات المعادية للابارتهايد، وذلك بعد طرد جامعيين من وظائفهم. والمقالة تؤكد ايضاً الشبهات العميقة بين النظام العنصري السابق في بريتوريا ودولة اسرائيل، مستشهدة برجل الدين الجنوب أفريقي البارز ديسموند توتو الذي كان صرّح بأن نظام التفريق العنصري في اسرائيل اسوأ من نظام جنوب افريقيا. وهي أيضاً تشجب صمت الجامعات الاسرائيلية الذي طال حول المعاملة التي يتلقاها الفلسطينيون، والتمييز الذي يعيشه"عرب اسرائيل". أما الرد على المقالة فوقّعه أحد رؤساء التحرير السابقين لصحيفة"راند دايلي مايل"الصادرة في جوهانسبورغ، وجامعي اسرائيلي من جامعة بن غوريون، يبدآن مقالتهما بشجب الاحتلال الاسرائيلي للضفة والقطاع، ثم إدانة المقاطعة التي تلحق الأذى بآخر مكان متروك للنقاش في اسرائيل: الجامعات. فالمقاطعة تعطي زخماً جديداً لليمين المتطرف الذي سيستخدم هذا الحدث ليؤكد ان العالم بأجمعه يكره اليهود ويريد هلاكهم. أما جديد المقالة فيتلخص في نقطتين تتعلقان بقضايا اسرائيل ليس من المألوف ايرادهما لدى التكلم عن قضايا نظام جنوب افريقيا العنصري: 1- هل يمكن نقد عنصرية اسرائيل والصمت حول عنصرية دول الجوار وسياساتها القمعية ازاء الاقليات الدينية او العرقية، او سياساتهما المجحفة ازاء النساء؟ 2 - نتائج المقاطعة البريطانية للجامعات في جنوب افريقيا عهد الابارتهايد لا أحد يتكلم عنها، لأنه حتى في هذا المجال - السهل نسبياً، اذا ما قورن بالشرق الاوسط - لم تؤد المقاطعة سوى الى حرمان جامعات جنوب افريقيا من الاكاديميين البريطانيين الذين كانوا يضخّون في تلك الجامعات أفكاراً جديدة وحيوية وشجاعة سياسية. وهذا ما أدى الى تراجع في نسبة معارضة الجامعات الافريقية الجنوبية لسياسات الابارتهايد. ويبدو انه حتى الجامعي الفلسطيني سري نسيبه، عميد جامعة القدس، تفهم نتائج المقاطعة الوخيمة، ليصدر بياناً يشجب موقف المدرّسين البريطانيين المقاطعين. بيد ان الموضوع، على العموم، أسال الكثير من الحبر في الصحافة الاسرائيلية، بما في ذلك صحيفة يمينية ك"يديعوت احرونوت". فهناك كتب الجامعي استاذ علم اجتماع اوري رام مقالة ضد تواطؤ الجامعات مع الاحتلال، متوجهاً الى رؤساء الكليات الاسرائيلية بهذا الكلام:"لن يحاكمكم المستقبل على عدد خريجي جامعاتكم، أو عدد المقالات العلمية التي اصدرتموها، بل على مواقفكم أمام الاحتلال والاضطهاد". كذلك أكد رام على انه يقف ضد المقاطعة لأنها تضع هذه المسالة في الواجهة وتنسي الناس ان السيء في الأمر هو الاحتلال. جامعي اسرائيلي آخر، هو شلومو صاند، طالب في"هآرتس"بمقاطعة مشروع جامعة ارييل، على الأقل، تلك المستوطنة الاسرائيلية في قلب الضفة الغربية التي تحول دون نشأة دولة فلسطينية. وجهة نظر فيها كثير من النظر.