لم يكن غريباً أن يعبّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن فاجعته من انهيار الاتحاد السوفياتي باعتبارها "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين". وليس غريباً أيضاً أن يشن حملة على "الفاسدين" الذين استفادوا من ذاك الانهيار لبناء ثروات على حساب الدولة والشعب، كما قال. فالرئيس الفتي الذي وصل على نحو غامض إلى الكرملين، بعد دور استخباراتي في حماية جدار برلين واختراقه، ثم دور في إحدى مؤسسات الدولة المتصدعة، يشاهد بألم كيف تتداعى القلاع المحيطة بروسيا، وكيف تبتعد عنها دول وأشباه دول لطالما استعمرتها ولا تملك مواصفات الاستقلال. المشهد مؤلم بالنسبة إلى "شاب" روسي اعتاد على كونه مواطناً في دولة قوية، تقمع أي تمرد ولو كان من يقوم به فرد واحد فقط، فكيف بحرب استقلالية، الشيشان مثلاً تنزع منها ثروة طبيعية وامتيازاً جغرافياً واقتصادياً ونفوذاً إقليمياً وحصانة داخلية. فالرئيس الروسي الحالي، الذي أعاد خلط الأوراق السياسية والاقتصادية والعقائدية في بلاده، ينطق بلسان المواطن الروسي. ولا يعني ذلك أن ثمة إعادة اعتبار روسية للاتحاد السوفياتي السابق، أو أن ثمة إحساساً بالندم عليه. لا يبدو الأمر كذلك. هناك إحساس بالخسارة السياسية والاقتصادية والمعنوية، وباهتزاز الهوية القومية، بل هناك شعور بالخطر الناتج عن استمرار انهيار الاتحاد السوفياتي. فالروسي اليوم يشعر بأنه ابن بلد مثل أي بلد صغير أو وحيد، بعدما كان دولة عظمى، أو دولة ببلدان عدة، أو بلداً ببلدان عدة، يشعر بأنه محاصر ومستهدف، وبأن الخطوط الدفاعية قد اختُرقت، والموارد الطبيعية المتعددة والمشتركة مع الجيران تتقلص والكرملين يخسر قواعد تبادلها وتقاسمها وتمريرها. كأنه قد آن أوان أن تدفع روسيا ثمن تحولها إلى بلد عليه إثبات نفسه. وهذا ما يقاومه بوتين. وإذا كانت هوية روسيا تواجه مقاومة ونبذاً من الناحية الآسيوية، فإن شخصيتها وقدراتها وكفايتها في امتحان أوروبي. وجه آخر للفاجعة قال الرئيس الأخير للاتحاد السوفياتي صاحب البيريسترويكا وناشر الشفافية ميخائيل غورباتشوف، منذ نحو عقدين: "علينا العودة إلى لينين". يبدو أن الرجل الغامض، فلاديمير بوتين، ينفذ تلك الدعوة - الشعار، ويعود إلى مؤسس الدولة، لينين، لعله يعيد روسيا إلى تلك "اللحظة" التاريخية "الفالتة" من حلم بناء الدولة القوية، ودخول التاريخ الرأسمالي. كيف يمكن لرئيس روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي أن يعود إلى مؤسس الدولة السوفياتية؟ كيف له ذلك وهو الشخص الذي أعجب به رئيسه السابق بوريس يلتسن، الذي دق إسفيناً في نعش الاتحاد السوفياتي، فأورثه الرئاسة وحقيبة الترسانة النووية؟ إذا وضعنا جانباً اشتغال بوتين في الاستخبارات السوفياتية خصوصاً في ألمانياالشرقية، لما عثرنا على شيء يدل على أنه "شيوعي". وأصلاً، لا يعد ذاك العمل انتماءً فلسفياً أو عقائدياً إلى الماركسية، ولو كان مدعوماً بانتساب إلى الحزب الشيوعي الذي كانت عضويته صك غفران وبطاقة امتياز. فعمل بوتين ذاك مناسب لشخصيته على ما يبدو، وهو المأخوذ بصورة الرجل القوي الغامض الذي يُخفي سراً ما، كأنه يوحي بأنه يحمل سراً قدرياً لروسيا، يجسِّده. كيف يعود الرئيس الذي لا يتحدث في الفلسفة والأيديولوجيا إلى لينين الذي لم يفعل شيئاً، بما في ذلك "حبه" لناديجدا كروبسكايا وزواجه منها، إلا تفلسف فيه، سواء أكان ما يقوله ذا قيمة أم لا؟ ينفّذ بوتين عودته إلى لينين بصمت، كما هي حال وصوله إلى الرئاسة، وكما هو وأداؤه الذي يحلو له أن يصوره كانتصار لحلم بناء الدولة القوية، التي سوف تعيد شيئاً من الماضي المجيد، سواء على صعيد المكانة الدولية أم الاقتصاد والاجتماع الروسيين. يعود بوتين، ولو من طريق الانتخابات، إلى لينين بطريقته السوفياتية التي تذكّر بانقلابات "الرفاق" ضد بعضهم بعضاً، وسعي كل منهم، إلى الفوز بالسلطة والنفوذ واستبعاد الآخرين. لا يستند هذا "الكلام" إلى النسبة المرتفعة، إلى حد ما، التي حازها بوتين نحو 70 في المئة وحسب، فالجانب العملي التقني لهذا المؤشر الاقتراعي قيد التشكيك، إذ استخدم بوتين موقعه ونفوذه ومؤسسات الدولة والاستخبارات والإعلام في مواجهة منافسيه الذين بدوا هزيلين. يستند ذاك "الكلام" إلى "صورة" بوتين لدى غالبية المواطنين الروس، وإلى المنطق الذي يسيطر على "الشارع" الروسي: "الأقوى، الأقدر على توفير الأمن وعلى مكافحة الفساد والجريمة وخوض الحرب مع الشيشان أو مع الإرهاب". فتلك الصورة من عناصر العودة إلى لينين، بما هي تماهٍ في حلم الدولة القوية وشخصنته، أو محاكاته وتجسيده. القيصر الجديد على خلفية ذلك يقدم بوتين رئاسته كضرورة لروسيا، ولا ينفصل ذلك عن مساعي تصويره قيصراً وصاحبَ مشروع يُعيد روسيا الدولة القوية إلى موقع إمبراطوري، ولو ليس في حجم أميركا. يعود بوتين إلى لينين بما هو مشروع بناء دولة قوية، وبما هو رجل دولة.. قوي، بما هو أبو ستالين والبطن الذي حبل به، بما هو "قائد" للشعب قبل أن يكون ممثله. يعود إليه، وكل منهما عمل من خلال الآليات المتوافرة في زمنه: لينين ركب الحزب والأيديولوجيا والانتفاضة المسلحة، ثم مؤسسات الدولة الفتية، وبوتين الاستخبارات ومؤسسات الدولة والإعلام و"الوراثة" ثم الانتخابات من دون منافس منازع. لكنهما التقيا عند نقطة واحدة تتمثل بطريقة استخدامهما الآليات تلك: الدمية الكبيرة "تستوعب" الدمى الأخرى الصغيرة، المتشابهة والمشابهة لها، تدخلها في جوفها، تحبسها، تصغرها، تختصرها، وكأنها خلاصتها، وكأنها مطابقة لها تمثيلياً، وكأنها قدرها وقدر ما ترمز إليه: الفولكلور، أي الأمة، أي حلم الأمة... روما الثالثة... الدولة القوية. فبوتين يفعل ما فعله لينين، ويستعيد صورته وآلياتٍ من عمله، بينما غورباتشوف، صاحب العبارة التنبؤية تلك، دعا إلى الحذو حذو لينين والانتصار لمشروعه في بناء الدولة ولنظريته في الحزب وعلاقته بالناس أو الشعب، بلغة الشيوعيين. بوتين يصنع الفرصة ليقتنصها، مثله مثل لينين، بينما غورباتشوف ينشدها. بوتين يمسك بزمام الأمور، مثله مثل لينين، بينما غورباتشوف يفتقدها. بوتين رجل القرارات، مثله مثل لينين، بينما غورباتشوف "يكره القرارات ويخافها" بحسب رفاقه من الحرس القديم. بوتين يأخذ الأدوات المتوافرة في يده إلى حدها الأقصى، مثله مثل لينين، فيما تتسلل الأدوات ومعها الحد الأدنى والبلاد عموماً من بين أصابع غورباتشوف. ألا يعتبر غورباتشوف علة انهيار الدولة السوفياتية العظمى؟ فحين ينظر إليه على هذا النحو يختفي في عمق هذه المقولة النقدية انحياز للدولة القوية وللديكتاتورية في أحيان كثيرة، وليس للاشتراكية أو الحرية. فوق هذا، بوتين مثل لينين، "يخفي" نزعته الشخصية إلى احتلال الكرملين. ومثل لينين يصمت عن ذلك أو ينفيه أو يغلفه بصورة "المنقذ" و"الروح التاريخية". لينين مؤسس الدولة، أو صاحب مشروع قوتها، وبوتين مستعيدها، أو صاحب حلم استعادتها. كابوس ماركسي ثم، كما أخفى لينين مصادر "شيوعيته الروسية" في حلمه بناء دولة روسية جبارة، بحسب الفيلسوف نيقولاي بردايف، وهي المسيحية الأرثوذكسية الحالمة بروما الثالثة، كذلك يخفي بوتين عودته إلى لينين. لا يخفي ذلك خوفاً من شبح ماضيه في المؤسسة الاستخبارية للإتحاد السوفياتي، بل خوفاً من أن يخيم شبح لينين فوقه وفوق روسيا، خصوصاً أنه لا يواجه حاجة إلى تسويغ أيديولوجي لفكرة بناء دولة قوية. باختصار: مشروع بناء دولة قوية هو نزعة روسية ودينية أرثوذكسية، وجد لينين لها ترجمة "ايديولوجية"، من الفلسفة الألمانية هيغل وماركس. أما بوتين فلا يحتاج إلى ذلك، ويكفيه أن روسيا وريثة "القوة السوفياتية العظمى"، وأن ثمة اعتقاداً في روسيا، وربما في العالم، بأن الخروج من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية الروسية مقرون بعودة الدولة القوية إلى روسيا وعودة روسيا إلى مكانتها الدولية. وفي ذلك تحميل انهيار الاتحاد السوفياتي ضمناً مسؤولية تلك الأزمات. لهذا، مثلاً، ترى بوتين أكثر ثقة من لينين الذي بقي "شبح" الثورة الفرنسية التي لم تستمر أكثر من سبعين يوماً، مخيِّماً عليه. فتوقع أن يُخرج من الكرملين في ليلة رأس السنة وفق التقويم الروسي الأرثوذكسي 1917-1918، وكان اليوم السبعين من عمر انتفاضته المسلحة التي بات اسمها بعد ذلك "ثورة". فالطمأنينة لم تكن العنصر الأول في صور لينين، برغم عنايته بتلك الصور واهتمامه بما يمكن أن تحمله من دلالات ورسائل، معتمداً على حنكته السياسية وعلى رفيق مصور واحد. حتى صوره مريضاً افتقدت إلى تلك الطمأنينة الوجودية التي حلت بدلاً منها ملامح الغياب عن الواقع، ملامح موميائية. من خيطان تلك الثقة الشخصية يحوك بوتين الآن صورته كرجل دولة قوي. ألا يبدو قيصراً؟ ألا يبدو رجلاً روسياً فتياً أوصله قدر روسيا، ومؤهلاته الشخصية القدرية أيضاً، إلى الكرملين، عابراً الساحة الحمراء بسيارة رئاسية تُفتح لها أبواب القصر فيما يصطف على جانبي الأروقة محترفو التصفيق من موظفين وساسة؟ فرجل الكرملين الأوحد الذي رفض المناظرات التلفزيونية أثناء الحملة الانتخابية، لا يتصرف كأنه لا يُناقش وحسب، بل إنه لا يقدم مشروعاً لكي يناقش، ولا يكشف عن ممارساته وعما حدث أو دار. ما زال يدير الدولة بعقلية رجل الاستخبارات، في حين يحاول هو الإيحاء بأنه "قيصر" يقوم بما يجب أن يقوم به، وبما يراه هو مناسباً لمصلحة الأمة والدولة، ما زال في زمن ما قبل "وسائل الإعلام والشفافية والبرامج الانتخابية". ما زال أيام لينين. افتراق وعلى رغم التشابه بين أساليب الرجلين، لينين وبوتين، في الوصول إلى السلطة والحفاظ على الموقع، وفي حلمهما الروسي لبناء دولة قوية، فإن ثمة افتراقاً بينهما، على مستوى منظومة القيم، وإن كان بوتين يمثل فئة من "موظفي" الدولة- الاستخبارات- الحزب لم تغادر موقعها إلى "السوق" لتكوين ثروة، أو بالأحرى لاحتكار الثروة مستفيدين من مواقعهم. فالأغنياء اقترعوا له وعلى رغم خوفهم من سياساته الاقتصادية مطاردته رأسماليين و"تأميم" ثرواتهم وأحياناً "القبض عليهم"، وشعورهم بأنهم رأسماليون من دون رأسمالية. لكن في المقابل، وعلى رغم "تحسن" بعض المؤشرات الاقتصادية، فإن "الفقراء" أو البروليتاريا أيتام الانهيار السوفياتي لم يقدم إليهم شيئاً ملموساً بعد إلا نقد الفاسدين والتألم من الانهيار، لا سيما على صعد الأجور والضمان الاجتماعي والصحة، علماً أنه تعهد بذلك غير مرة، إلا أن منتقديه ومعارضيه لم يجدوا في "تلك الحركات" إلا "مسرحيات غير جادة في محاربة الفساد ولا تتعدى البحث عن مصادر تمويل". فهذا هو الهاجس الذي يحكم الحكومات المتعاقبة منذ يلتسن، بل من الزمن السوفياتي. على رغم ذلك يسعى بوتين إلى تظهير خطواته كعملية إعادة بناء الدولة وإعادة الثقة والسيطرة على النفس، مستعيداً بذلك العديد من العناصر اللينينية. وسواء شئنا أم أبينا فإن "فكرة" بناء الدولة في روسيا والتي تنسب إلى الماركسية هي من توقيع لينين. وأنتج في سبيلها "نظرية" تقول: "إن الدولة يمكن أن تؤدي دور الرأسمالي الوحيد في المرحلة التي تُنهي الإقطاعية وتمهد للاشتراكية، ديكتاتورية البروليتاريا". وهكذا، كمنت في نظريته تلك بذورًُ "الدولة- الحزب"، التي أودت إلى الديكتاتورية والبيروقراطية واللاديموقراطية، وأودت بالإشتراكية. إعادة البناء لا مفر من لينين- الدولة في روسيا. إنه قدر. كما لا مفر من الكسندر الأكبر- الامبراطورية. وعلى رغم الإزعاج الذي تسبّبه العبارة التالية إلا أنها تقال: لا مفر من غورباتشيف الرؤية وغورباتشيف "إعادة البناء". ففي هذا المعنى يغدو لما سماه غورباتشيف "البيروسترويكا" معنى آخر، غير المعنى الأيديولوجي الذي كان لا مفر منه في "العصر السوفياتي". يغدو لتلك العبارة الشهيرة معنى تاريخياً وأشبه بإعادة خلط الأوراق تأسيساً للحظة المناسبة، كمحاولة للإمساك بلحظة الحرية والقرار المسلوبين. فالأمين العام السابق للحزب الشيوعي السوفياتي أدرك أن "إعادة البناء" غير ممكنة من خلال حزب ستاليني - بريجينيفي، وآثر اللجوء إلى الشعب مراهنا عليه كمصدر للسلطات وكحامٍ للتغيير و"منجم" أدواته. لكن الآثار غير المباشرة لتلك الخطوة كانت أقوى وأكثر سلبية من الآثار المنشودة أو المتوقعة. أما السبب، أو أحد أهم الأسباب، فهو افتقاد الديمقراطية وآلياتها وثقافتها. هكذا، وقع التناقض بين "البناء"، بما هو كيان قائم، وبين "الإعادة"، بما هي مشروع أو رؤية، لم ينجُ من آلامها رفيق غورباتشيف، الأمين العام السابق للحزب نيكيتا خروتشوف، الذي انتهى به الأمر أن نشر مذكراته في الغرب. وفي حين يتذكر ابنه "أنه لم يقرأ كتاباً لكارل ماركس"، يؤكد أن مصادر مشروعه التغييري هي "تجربة الحزب الذي سُلب من لينين، مشروع الدولة". فكما غورباتشوف كذلك خروتشوف محاولة عودة إلى لينين، محاولة لم تنجح، وتنازلت حتى صارت استراتيجيتها: "إذا لم أنجز شيئاً فإن خروجي من الكرملين حياً هو إنجازي، فأيام ستالين كان هذا مستحيلاً". كاتب لبناني