مع تفكك الاتحاد السوفياتي في 26 كانون الأول (ديسمبر) 1989، عادت روسيا إلى حدود من التقلص الجغرافي غير مسبوقة منذ تأسيس الامبراطورية على يد بطرس الأكبر. وقد حصلت مرحلة ضعف جسدها بوريس يلتسين، وهو ما أنتج جرحاً قومياً روسياً شبيهاً بما حصل للألمان في عهد جمهورية فايمار (1918-1933) بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى وشروط صلح فرساي، وبما جرى للأتراك بعد هزيمة الدولة العثمانية عام 1918 قبل أن يؤسس مصطفى كمال (أتاتورك) الدولة التركية الحديثة عام 1923. قاد الجرح القومي الألماني إلى تسلم الحزب النازي السلطة مع أدولف هتلر عام 1933 تحت شعار «ألمانيا فوق الجميع»، فيما أنتجت الهزيمة العثمانية ظاهرة قومية تركية متطرفة. والتطرف هنا، مجبولاً بالتعصب القومي، يعبر عن حالة دفاعية لأمة مهزومة ومجروحة وعن إرادة للنهوض والانبعاث، بعدما نزلت عبر الهزيمة من موقع مرتفع بين الأمم إلى حالة مزرية. في ليلة رأس السنة عام 2000 استقال يلتسين وعُيّن رئيس الوزراء فلاديمير بوتين رئيساً للاتحاد الروسي. كان التمرد الشيشاني البادئ عام 1994 ضد المركز في موسكو قد بدأ التمدّد إلى جمهورية داغستان (وهي مثل جمهورية الشيشان ضمن الاتحاد الروسي) منذ آب (أغسطس) 1999. وكان هناك اتفاق منذ 31 آب 1996 اضطرت فيه موسكو للإقرار بالأمر الواقع بعدما استطاع المتمردون الشيشان السيطرة على غروزني عاصمة جمهورية الشيشان. وفي 9 آب 1999 عُيّن بوتين رئيساً لمجلس الوزراء الروسي، وبعد 17 يوماً بدأ الأعمال الحربية ضد الشيشان في شمال القوقاز، ثم منذ الأول من تشرين الأول (أكتوبر) نقل الأعمال الحربية إلى داخل أراضي جمهورية الشيشان ناقضاً اتفاق 1996. حاصر بوتين المتمردين الشيشان في غروزني وبدأ سياسة الأرض المحروقة هناك وتطبيق نظرية «تجفيف الينابيع المدنية» للمسلحين. وكان حصار غروزني المدخل للصعود إلى الكرملين، وكانت باكورة أعماله إخضاع العاصمة الشيشانية بعد تدميرها في شباط (فبراير) 2000. أتى بوتين من جهاز الاستخبارات «كي جي بي»، وقد كان في ألمانياالشرقية عند هدم جدار برلين في خريف 1989. وهو أيّد قمع التحرك هناك كما فعلت موسكو في بودابست 1956 وبراغ 1968. إلا أن ميخائيل غورباتشوف لم يمشِ على خطى نيكيتا خروتشوف وليونيد بريجنيف. فترك هذا جرحاً في نفس الضابط السوفياتي الشاب الذي أحرق عام 1990 أوراق الجهاز الأمني السوفياتي في برلينالشرقية قبل العودة إلى موسكو وقبيل الوحدة الألمانية. هنا كان هذا المهزوم الروسي في برلين على نقيض الضباط الروس الذين هزموا نابليون في معركة واترلو عام 1815 ودخلوا باريس بعدها. ونقل هؤلاء إلى العاصمة الروسية سانت بطرسبورغ أفكار الثورة الفرنسية المهزومة مع نابليون ليؤسسوا «الحركة الديسمبرية» قبل أن يسجنهم القيصر عام 1825 ويرسلهم إلى سيبيريا. كان «الديسمبريون» بداية حركة التغريب الروسية، في مواجهة التيار السلافي الموالي لآل رومانوف، وقد كانت الماركسية الروسية وتجسيداً لانتصار تغريب روسيا في مواجهة اليمين السلافي المدعوم من القيصر والكنيسة الأرثوذكسية. لم يكن صدام لينين وستالين مع الغرب من منطلق سلافي أو روسي قومي بل من منطلق فكر لمفكر ألماني اسمه كارل ماركس أنتج مؤلفه الرئيسي، كتاب «رأس المال»، داخل جدران مكتبة المتحف البريطاني في لندن. ليس فلاديمير بوتين مثل الديسمبريين ولا من تراث ثورة 1917. بل هو نتاج جرح قومي روسي ولّده انهيار بنية دولة الاتحاد السوفياتي بعدما أوصل ستالين، الجورجي، روسيا إلى ذروة عالمية عام 1945 إثر الانتصار على هتلر بما جعل موسكو ثاني اثنين مع واشنطن في نظام الثنائية القطبية العالمية. من هنا يجب أن نفهم الخلطة الروسية التي تقف الآن وراء فلاديمير بوتين: الكنيسة الأرثوذكسية، وضباط «كي جي بي» السابقون الذين يملأون مكاتب الكرملين في عهد بوتين، وضباط الجيش الروسي، القوميون الروس، وأيضاً الشيوعيون. يضاف إلى هؤلاء رجال الأعمال الذين يتطلعون إلى استعادة القوة الروسية إلى ما وراء الحدود في «الحديقة الخلفية» التي كانت تمثلها الجمهوريات السوفياتية السابقة وإلى العالم الخارجي. لا يريد بوتين استعادة بنية الاتحاد السوفياتي السابقة، بل فرض أشكال أخرى للهيمنة الروسية، كان منها رئيس موال للكرملين فاز في الانتخابات الأوكرانية عام 2010 هو فيكتور يانوكيفيتش الذي أسقطه تحرك شعبي في 2014 ما دفع بوتين إلى ضم القرم وجعل الدولة الأوكرانية مشلولة عبر تشجيع الروس في شرق أوكرانيا على التمرد ضد كييف. بدورها كانت الأزمة السورية منصة لبوتين منذ فيتو 4 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 في نيويورك ليعمل على إنهاء أحادية القطب التي تمتعت بها الولاياتالمتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. * كاتب سوري