جريء شغف ادارة جورج دبليو بوش لمحاكمة مجلة"نيوزويك"ومطالبتها"بإصلاح الضرر"الذي الحقته بصورة الولاياتالمتحدة عند مسلمي العالم بنشرها تقريراً تراجعت عنه لاحقاً عن تحقيق لوزارة الدفاع البنتاغون وجد ان السجانين الاميركيين هددوا بقذف نسخة من القرآن الكريم في المرحاض تدنيساً للمصحف ولإهانة عقيدة المعتقلين المسلمين في غوانتانامو. جريء لدرجة الاهانة ليس فقط للحقوق الاساسية للمتهمين والمعتقلين وانما ايضاً لمهنة الاعلام وكذلك لذكاء أي مطلع على الاسباب الحقيقية وراء صورة الولاياتالمتحدة عند المسلمين في العالم. جريء كان النائب البريطاني جورج غالاوي عندما حاكم السياسة الاميركية في العراق وحاكم نظرية الحرب للتغيير التي تتبناها"البنتاغون"أثناء شهادة لاسعة أمام لجنة تابعة لمجلس الشيوخ أثلجت الصدر لأنها وضعت ازدواجية النواب في قفص الاتهام وعرّت الممارسات والتجاوزات الأميركية التي يجب ان تُحاكم عليها بالذات وزارة الدفاع. أوقح أنواع الجرأة أتى من زملاء في المهنة وعلى صفحات الجرائد. صحيفة"نيويورك بوست"المتطرفة يمينياً أخذت على عاتقها الشماتة بتراجع مجلة"نيوزويك"عن خبرها واعتذارها عنه لتنشر عنواناً ضخماً على صفحتها الأولى تلاعبت فيه على اللغة في تحقير للشيعة. عيب على هذه الصحيفة ان تزيد من الاهانة للمسلمين بعنوان كهذا، هذه ليست المرة الأولى لعنوان لها كريه وعنصري ضد العرب والمسلمين. انما لسبب أو لآخر، تشعر هذه الصحيفة ان لها حق التهجم على الاعلام العربي والاميركي عندما لا يسير في خطاها المتطرفة وتعطي لنفسها حق محاكمة الآخرين. من يقف في وجه مثل هذا الاعلام من النواب واعضاء الكونغرس الاميركيين وأقطاب الإدارة الأميركية وصقور البنتاغون الذين وضعوا خططاً مدروسة لتضليل الاعلام غير الاميركي؟ لو نشرت صحيفة عربية عنواناً مماثلاً ضد اليهود او المسيحيين، لقامت قيامة زمرة المتظاهرين بالتمسك بآداب المهنة وأصولها. أما تهمة بالتحريض فإنها قلّ ما توجه الى الاعلام الاميركي الذي يدق بعضه طبول الكراهية والتحريض ضد العرب والمسلمين، ويرفض بعضه اعطاء المجال لآراء وتعليقات من لا ينتمي الى صفوف المحافظين الجدد. بالتأكيد يوجد اعلام اميركي مهني ومسؤول، وليس كل الاعلام الاميركي محرّضاً أو مضللاً، انما هناك نمط بين كثير من الاعلاميين يكشف الغطرسة والتحقير والإملاء على الاعلام العربي. زميل مسؤول مهم في احدى الشبكات التلفزيونية الكبرى، قال يوماً انه"يقرأ"الصحافة العربية يومياً وهو يحتقر الكتاب العرب لأنهم لم يقفوا يوماً ضد الارهابيين. أصر على رأيه رغم محاولات تصحيح انطباعه وقراءته الخاطئة عبر مترجمة مخصصة له لأنه لا"يقرأ"العربية. وعندما أرسلت له مجموعة مترجمة لمقالات تثبت له ان بعض الكتاب العرب يحض منذ زمن على تعبئة الرأي العام العربي ضد الارهاب ويتخذ مواقف جريئة ضد أمثال اسامة بن لادن و"أبو مصعب الزرقاوي"، لم يرد. فنمط الاستنتاج المسبق يطغى عليه كما يطغى على كثير من الزملاء. لذلك ورغم تكريس يوم كامل لجمع المعلومات كي يطلع عليها حضرة الزميل، لم يكلف نفسه القراءة. فهو"يقرأ"الصحف العربية يومياً بلغته الخاصة. تحقير الاعلام العربي والحكومات العربية والشعب العربي بات النمط ايضاً لبعض الكتاب العرب الذين"اكتشفوا"ان هذه هي وسيلة"القبول"بهم اميركياً، فارتدوا عباءة المحافظين الجدد وبدأوا التخييل على حصان تمجيد الحرب وسيلة للتغيير واعفاء اسرائيل كلياً من المحاسبة على الاحتلال وممارساته البشعة. لا مانع ابداً، بل من الضروري، انتقاد الاعلام العربي على تقصيره وتحريضه ووضع نفسه احياناً تحت تصرف وإمرة إما الحكومات أو المنظمات أو الأجهزة الأمنية أو التطرف. ومن واجب الاعلامي العربي تحدي الحكومات العربية على الديموقراطية والاصلاح والتعددية لتكف عن اعتبار الشعوب قطيعاً تمتلكه وعن نصب أجهزة أمنية تدب الرعب في الشعوب لتمنعها من المطالبة بالتغيير والمشاركة في صنع القرار. ومن واجبه ايضاً تعبئة الرأي العام ضد الارهاب ليس فقط لأنه يقتل الابرياء المدنيين وإنما ايضاً لأنه يدنس المسلمين والعرب ويضع مستقبلهم في المرحاض. هذا لا ينفي مسؤولية الاعلام الاميركي وضرورة محاكمته لنفسه بما يتعدى محاكمة مجلة"نيوزويك". أولى محطات محاكمة النفس يجب ان تكون على استنتاج الاعلام الاميركي ان العراق كان يمتلك اسلحة الدمار الشامل واقتناعه المسبق بهذه الخرافة لدرجة تسويقها واقناع الرأي العام الاميركي بها. على هذا الاعلام الاعتذار الواضح أمام العالم أجمع لأن خطأه لم يسفر عن تظاهرات أودت بحياة 15 شخصاً فحسب، كتلك التي اندلعت في العواصم العربية نتيجة"خطأ"تقرير تدنيس القرآن الكريم. خطأ الاعلام الاميركي أسفر عن حرب العراق التي اودت بحياة ما يقارب مئة الف عراقي، والتي لا يزال العراقيون والجنود الاميركيون يدفعون ثمناً لها. بغض النظر عما اذا كانت حرب العراق الوسيلة الضرورية الوحيدة لخلع نظام صدام حسين او إذا كانت ستؤدي لاحقاً الى عراق ديموقراطي موحد يكون"مثالاً"للمنطقة العربية، فإن مبررات حرب العراق قامت على الاندفاع الى الاستنتاج المسبق بدلاً من التدقيق الضروري في ادعاءات البنتاغون وعزمه على التضليل. ثم ان عراق اليوم ليس امثولة نجاح لسياسات جورج دبليو بوش كما يدّعي اقطاب الادارة الاميركية وصقور واشنطن ومتطرفو المحافطين الجدد، ولا هو نموذج الديموقراطية. انه يحتقن في صراعات مخيفة وفساد معيب، وهو مهدد إما بالانهيار أو بالتقسيم. لا، وليس الارهاب وحده هو المسؤول عن هذه الحالة الرديئة. نعم، ان للارهاب القبيح اثراً عميقاً ليس فقط في تراكم الجثث وتفاقم الحسرة العراقية والألم العراقي، ويجب الوقوف ضده والسير في تظاهرات"كفى"في كل العواصم العربية والمسلمة لابلاغه بأنه مرفوض. نعم أيضاً، أن على الإدارة الأميركية والإعلام الأميركي الكف عن التعاطي مع موضوع العراق من خانة"الحرب على الإرهاب"حصراً في محاولة تبرير لكل خطأ سياسي وعملي ارتكب في العراق. نعم، حان وقت المطالبة بالمحاكمة محاكمة سياسية لرجال بوش من أمثال وزير دفاعه دونالد رامسفيلد ونائبه ديك تشيني ومحاكمة المدنيين المسؤولين في البنتاغون عن الممارسات والأفعال في سجن أبو غريب وفي معتقلات غوانتانامو. بعض الصحف الرزينة، مثل افتتاحية"نيويورك تايمز"احتجت على استغلال الإدارة الأميركية لقضية"نيوزويك"لأهدافها وغاياتها السياسية، وسخرت من حديث الناطق باسم البيت الأبيض والبنتاغون عن المحاسبة والانفتاح والاهتمام بصورة أميركا في العالم. ولفتت الى أن هذا زمن السرية المفرطة التي تختبئ وراءها الإدارة الأميركية بذريعة الأمن القومي وأوقات الحرب. طالبت البنتاغون بإصدار التقرير الذي على أساسه جاءت المقالة في"نيوزويك"وكل التقارير الأخرى التي تتعلق بإساءة معاملة المساجين بما فيها تقرير وكالة الاستخبارات المركزية سي آي اي المعني بممارساتها غير القانونية في اخفاء السجناء عن الصليب الأحمر الدولي. "نيوزويك"تستحق المحاسبة بكل تأكيد إذا ثبت أنها نشرت معلومات بهذه الخطورة من دون التحقق من صحتها. لكن"صحة"هذه المعلومات في الأوراق السرية للبنتاغون ووراء جدران معتقلات غوانتانامو. ما حدث في فضائح وممارسات فظيعة في سجن أبو غريب، واطلع العالم على جزء بسيط منه، لم يسفر عن إقالة أو استقالة أو محاكمة أي مسؤول مدني رفيع، بل كوفئ مَن جعل من تجنب اتفاقات جنيف لحماية المدنيين في أوقات الحرب بمناصب رفيعة. نعم، تستحق"نيوزويك"المحاكمة إذا اخطأت وعليها تصحيح خطأها، لكن هذا ليس ترخيصاً للإدارة الأميركية كي تمضي في رفضها التحقيق الجدي في ما حدث ويحدث من تجاوزات في السجون والمعتقلات. بل ان الإدارة الأميركية ترتكب خطأ فادحاً إذا استمرت في هذا الاندفاع الى استغلال"خطأ""نيوزويك"لأن في هذا الاندفاع دليلاً آخر إما على تعمدها عدم فهم ما يحدث في العالم الإسلامي والعربي أو على جهلها الخطير لمناطق الحروب التي تخوضها باسم الانفتاح والحرية وحسن المعاملة والاحترام المتبادل والإعلام المسؤول والمستقل. يتساءل بعض الزملاء: لماذا خرجت التظاهرات الضخمة احتجاجاً على تدنيس القرآن الكريم ولم يخرج مثلها احتجاجاً على تدنيس أرواح الأبرياء على أيادي الارهابيين؟ يتساءل آخرون منهم لماذا لم تخرج التظاهرات احتجاجاً على تدنيس أرواح وأجساد السجناء في سجن ابو غريب بشهادة صور على الفظائع، فيما خرجت التظاهرات الكبرى لدى السماع بسطر في مجلة ينقل خبراً عن تدنيس المصحف. بعض الزملاء يلوم الذين يهيجون الشارع الاسلامي والعربي ضد مثل هذه الممارسات وبعضهم يلوم الاعلام والحكومات العربية على عدم تهييج الشارع العربي والاسلامي ضد ممارسات الارهابيين المسلمين. نعم، هناك علاقة بين معتقلات غونتانامو التي انشئت بعد ارهاب 11 ايلول سبتمبر 2001 عمداً كي لا تقع تحت التزامات الاتفاقات القانونية الدولية كاتفاقيات جنيف، وبين العراق الذي بات ساحة"محاكمة"سائبة للارهاب بعدما استخدم ساحة حرب بديلة من الساحة الاميركية لإبعاد الارهاب عن المدن الاميركية. الاستجوابات والاستنطاق في غونتانامو وسجون العراق عملية سرية يمنع الصليب الاحمر والاعلام من الاطلاع عليها. والعمليات العسكرية ايضاً عمليات سرية يمنع الاعلام من العلم بها والحديث عن ضحاياها. فهذه حرب الارهاب التي لها قواعدها وقوانينها الاعتباطية فوق القوانين والاعراف الدولية. وهذا خطأ يخضع له الاعلام العالمي والاميركي أولاً. لذلك، على الزملاء الذين يلومون الاعلام العربي على عدم التعبئة والتثقيف ضد الارهابيين ان يساعدوا في دفع الاعلام العربي نحو هذه التعبئة من خلال دفع أنفسهم والاعلام الاميركي عامة الى تحدي نظم وقواعد واساليب تحجيم المهمة الاعلامية الى مجرد ولاء قومي وواجبات وطنية واصطفاف أعمى لجنود في حرب مبهمة اسمها حرب الارهاب. هذه دعوة جدية الى الاعلام العربي والاعلام الاميركي للتدقيق الجدي في اصول وواجبات ومسؤوليات هذه المهنة في عالم اليوم وتحدياته غير التقليدية من أجل صوغ شراكة الأمر الواقع في التصدي للارهاب والتصدي لتجاوزات الحكومات أجمع بلا استثناء أو اعتذار. لنفكر ملياً وجدياً ولنتبادل الآراء عبر المقالات وفي الاجتماعات حصراً حول دورنا كاعلاميين ومسؤولياتنا أمام تحويل الرأي العام إما الى قطيع ينسج بمختلف اللغات او الى فرد يمارس المواطنية بمسؤولية. هذا يتطلب بالضرورة الإقرار بأن معظم الاعلام هو اليوم سلاح في أيادي المخضرمين السياسيين وليس الموجّه النزيه الذي تتطلبه هذه الحقبة من زمن حروب اسمها حروب الارهاب الآتية منه وعليه بسرية وعشوائية. ماذا نفعل كي نجعل من الإعلاميين"الأداة"أو"السلاح"أو"الصدفة"أو"الشاهد"على حدث وعلى التاريخ، مساهماً متواضعاً مفيداً؟ لنبدأ بتشخيص المهمات بدلاً من تشخيص المشكلة. لنبدأ في مكان ما وفي موضوع ما وفي فكرة ما. انما دعونا نبدأ.