لماذا صدق العالم مباشرة، قصة تدنيس القرآن الكريم، على أيدي جنود أمريكيين أمام أعين بعض السجناء المسلمين في قاعدة غوانتاناموالأمريكية الموجودة على الأراضي الكوبية، هذه القصة التي نشرتها مجلة «نيوزويك» الأمريكية في عددها الصادر في التاسع من آيار «مايو» 2005؟. الرد المباشر أيضاً هو أن المصداقية الأمريكية سقطت مع إطلاق الإدارة الأمريكية الأكاذيب لتحقيق أهدافها الرامية إلى القيام بعدوان على العراق، متحدية بذلك المعارضة العالمية التي اكتسحت الدول في جميع أنحاء العالم تقريباً. والمسلسل الأمريكي للأحداث في أعقاب احتلال العراق، زاد قناعة العالم بهمجية الجندي الأمريكي، وقلة ثقافته، ابتداء من تدمير واحد من أعرق المتاحف في العالم وهو المتحف الوطني العراقي، مروراً بتدمير مدن وقرى كاملة، مثل الفلوجة والقائم، ووصولاً إلى سجن أبو غريب، وما جرى فيه من أعمال همجية التي تحدت كل مشاعر الإنسانية، والوصول إلى قيام الجنود الأمريكيين باحتلال المساجد ودخولها بأحذيتهم، وتمزيق القرآن الكريم، ورسم إشارة الصليب عليه، والقيام بقتل مدني جريح داخل المسجد، وغيرها من الأعمال الإجرامية والاستفزازية. فهذه الأمور كلها هي التي كشف النقاب عنها فقط. ولكن الاقتناع السائد، والمبني على شهود عيان، يشير إلى انه قد وقع الكثير من هذه الأعمال والتي لم تجد طريقها إلى وسائل الإعلام. ولامتصاص الغضب المحلي والعالمي، تبدأ الإدارة الأمريكية التحقيقات في ما حدث، وتكلف لجاناً من الجيش الأمريكي التحقيق في هذه الحوادث (وكأن الجيش سيقوم بإدانة نفسه أو قادته)، وتبرئ هذه اللجان ساحة الكثير من المجرمين، ويقدم البعض الآخر إلى المحكمة العسكرية وتصدر بحقهم أحكام خفيفة، كان آخر ما قرأت عن هذا الموضوع، وأنا اكتب هذا المقال، الحكم على جندية متورطة بجرائم سجن «أبو غريب» مدة ستة أشهر، ستقضي أربعة منها في السجن، ويطلق سراحها (نشر يوم 18/5/2005). وبغض النظر عن حقيقة ما حدث في معتقل غوانتانامو فإن الواقع يقول ان القيادة العسكرية الأمريكية، وفي هذه الحالة المدنية أيضاً هي التي تتحمل مسؤولية ما يحدث. صحيح ان الجنود الأمريكيين في معظمهم غير مثقفين، ويخدمون الجندية لأسباب مختلفة، أهمها معيشية أو الحصول على إقامة دائمة في الولاياتالمتحدة، أو محاولة لإتمام الدراسة العليا، وغيرها من الأسباب التي لا تتعلق بالبعد القومي، أو خدمة العلم، إلا ان هذا لا يعفي القيادتين العسكرية والمدنية من مسؤولية وقوع مثل هذه الأحداث. وقد أدت قصة «نيوزويك» إلى قيام موجة صاخبة من المظاهرات في كثير من الدول الإسلامية، وسقوط حوالي خمس عشرة ضحية نتيجة اطلاق الرصاص من جانب الشرطة على المتظاهرين. واعتقدت الإدارة الأمريكية انها إذا وضعت ضغطاً على المسؤولين في مجلة «نيوزويك»، وحملتهم على تغيير موقفهم، وتقديم الاعتذار بسبب نشر هذه القصة، فإن الأمور ستهدأ، وتعود المياه إلى مجاريها. ولكن هذا لم يحدث، واستمرت المظاهرات والانتقادات. والواقع أن مصداقية أمريكا قد سقطت عندما استباحت حرمة إنسانية الإنسان، ليس في معتقل «غونتانامو»، وسجن «أبو غريب» فحسب، بل في أفغانستان والعراق. كما استبيح الإنسان العربي بمحاولة فرض وصاية عليه، ومحاولة إجباره على قبول مشاريع لا تتماشى مع مصالحه، ولا ثقافته، ولا حضارته. إضافة إلى محاولة استعمار بلاده وسرقة خيراتها، ومطالبته بعدم التصدي لهذه المحاولات الاستعمارية، وعندما يتصدى لها يصبح في نظر المحتل «إرهابياً». ومن ناحيتها تحاول إدارة بوش إعادة بناء مصداقيتها في العالمين العربي والإسلامي، ليس عن طريق تفهم الأخطاء التي تقوم بها، ومحاولة إصلاحها، بل عن طريق الاستخفاف بعقول الشعوب العربية والإسلامية، معتقدين ان «الكلمة الجميلة»، والتحقيقات بالأحداث، كافية لإعادة الأمور إلى نصابها. ومن ثم تطلب الإدارة الأمريكية من الدول العربية والإسلامية تأييد سياستها على أساس انها تعمل على «نشر الديمقراطية والرفاهية». ولكن الإنسان العربي والمسلم يتساءل: إذا كانت نية واشنطن سليمة، وحقيقية، فلماذا لم تدن الإدارة الأمريكية إطلاق النار على المتظاهرين في أفغانستان وباكستان، الذين تظاهروا ضد ما حدث في «غوانتانامو»؟ في حين تسارع إلى إدانة أية مظاهرات ضد أنظمة تسير في الركب الأمريكي. ولماذا تتحول الإدارة الأمريكية، دائماً إلى الجندي البسيط لتحميله المسؤولية، ولا تنظر إلى عمق الأمور، أي إلى الذين يقفون ويباركون، حتى بسكوتهم مثل هذه الأعمال الإجرامية. وسيكون من الصعب أن تعيد الولاياتالمتحدة مصداقيتها، ليس لدى الشعوب العربية والإسلامية فحسب، بل لدى شعوب العالم خصوصاً الأوروبية منها. وتحملها مسؤولية عدم الاستقرار في العالم. وستحتاج أمريكا لإعادة مصداقيتها إلى السير في طريق: التخلي عن غطرستها، والتعامل مع العالم ككل على انه مساو لها. وبالنسبة للعرب والمسلمين عليها التوقف عن التعامل مع الذين يكرهون العرب ويمجون الإسلام، وأن لا تشجع استمرار الحملة الإعلامية والاجتماعية ضد العرب والمسلمين، والتنازل عن تطلعاتها الاستعمارية، وعدم دعم الأنظمة القمعية، ووضع حد للعبث الإسرائيلي بحياة الشعب الفلسطيني خاصة وشعوب المنطقة عامة، والاعتراف بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، وإنهاء الاحتلال وتسليم الشعوب قيادة مصيرها. والتعبير عن كل هذا غير مقبول بالتصريحات السرابية، ولا بالإدانات المتكررة للأعمال الإجرامية التي يقوم بها الجنود الأمريكيون، بل عن طريق تطبيق الأمور على أرض الواقع.