سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الاعتراف الأخير ... قصة البرنامج النووي العراقي يرويها المسؤولان عن انشائه وتطويره هرب حسين كامل الى الأردن فأمرنا صدام بأن نكشف للمفتشين كامل خططنا النووية 6 من 7
نجد من المفيد أن نعود قليلاً إلى ما قبل هروبه لنستقرئ المسببات والتبعات. أصيب حسين كامل في شباط فبراير 1994 بأعراض مرضية حيث كانت تنتابه فجأة نوبة من فقدان الوعي لبضع دقائق يستفيق بعدها ناسياً كلياً ما حصل أثناء الحالة. تولى فحص حالته الطبيب العراقي المتخصص بأمراض الجملة العصبية سعد هاشم الوتري فرافقه إلى عمّان حيث أجرى له جرّاح فرنسي استقدم خصيصاً، عملية جراحية في مستشفى مدينة الحسين الطبية العسكري1ة فأزال الورم الذي فحص فتبين أنه ورم حميد غير سرطاني. وأخبرني سعد الوتري عند عودته أنه كان باستطاعته إجراء هذه العملية في بغداد إذ سبق له أن أجرى عشرات العمليات الأعقد منها لمرضى عراقيين غير أنه خشي على نفسه من تبعات أية مضاعفات قد تحدث لحسين كامل خلال العملية أو بعدها. عند عودة حسين كامل إلى بغداد وجد أن قصي بن صدام قد نُصِّبَ مشرفاً على الحرس الجمهوري الخاص وعلى قوات الحرس الجمهوري وأخذ يشعر بأن سطوته أخذت تتقلص يوماً بعد يوم. ولم يبقَ له من إمبراطوريته الواسعة سوى وزارة الصناعة والمعادن وهيئة التصنيع العسكري التي احتفت بسلامة عودته باحتفالات صاخبة حيث دقت طبول الفرح ونُحِرت الخراف في كل مرفق من مرافق الصناعة المدنية والعسكرية إذ تولّى منتسبو مكتبه ومنتسبو منظومة أمن وحماية منشآت التصنيع العسكري تنظيم الاحتفالات والطلب من كل مدير عام أن تظهر دائرته معالم الإبتهاج والزينة. ثم توالت الأيام وفي شهر حزيران يونيو من عام 1995 غادر حسين كامل على رأس وفد من هيئة التصنيع العسكري لزيارة بيلاروسيا من طريق عمّان فموسكو وفي اليوم التالي لمغادرته دعا صدام قيادات فروع حزب البعث لمؤتمر قطري يتولى انتخاب قيادة قطرية جديدة للحزب وفاتت على حسين كامل فرصة الصعود إلى عضوية القيادة القطرية ذات السلطة الواسعة إذ لا يُجيز النظام الداخلي للحزب ترشيح أي شخص للقيادة إن لم يكن حاضراً في جلسات المؤتمر القطري. ولا يمكنني شخصياً أن أتكهن في ما إذا كان إجراء صدام هذا متعمداً لإبعاد حسين كامل عن قيادة الحزب أم لشأن آخر إذ لستُ منتمياً للحزب ولا مطلعاً على ما خفي من دسائسه الداخلية غير أنني أدرك أن صدام لم يكن ليرتضي وجود عضوٍ جريء أو ذي فكر مستقل ليعتلي أي منصب قيادي في الحزب أو الدولة وكان يحيط نفسه بتابعين ضعاف النفوس لا يقوى أحدهم أن يقول لصدام كلمة واحدة قد تغيضه. ولا أزال أروي الأحداث المحيطة بحسين كامل فأستقرئ خبر عقده لقاءً إنفرادياً في عمّان مع الملك حسين بن طلال ملك الأردن ولساعتين كاملتين وأغلب ظني أن هذا اللقاء كان تمهيداً لهربه من العراق وربما يكون قد حصل على الضوء الأخضر من ملك الأردن. ونعتقد بأن عدي الإبن الأكبر لصدام بدأ ومنذ مطلع عام 1995 ينظر بعين الحسد إلى حسين كامل حيث رآه منافساً قوياً على موقع الإبن المدلل لصدام وعلى حسابه بالذات ولا بدّ أن يكون قد اقتنع بأن وجود حسين كامل خطر على مقامه وعلى مستقبله السياسي فبدأ ينبش في أفعال وتصرفات زوج أخته للسنين الماضية إذ لم يكن خافياً على أحد أن حسين كان يستغل الإمكانات المادية والبشرية لهيئة التصنيع العسكري لبناء قصوره الخاصة وتنظيم مزارعه العديدة والصرف على حفلاته الخاصة وعلى مجونه، فبدأ عبد حميد محمود المعروف بعبد حمود منذ بداية 1995 يتحرى عن مخالفات حسين كامل وتصرفه السابق غير القانوني بالمال العام وربما فعل عبد حمود ذلك بتحريض من عدي ولكن لا بدّ أن يكون قد استحصل موافقة رئيسه صدام على إجراءاته تلك إذ كيف يجرؤ على طرح أسئلة على حسين كامل من دون إسناد قوي من صدام؟! وإثر تزايد الضغوطات عليه لا بدّ أن يكون قد أطلق العنان لتصوراته بإمكانية قيادة المعارضة في الخارج مع الحصول على دعم أميركي لعلّه يستطيع يوماً أن يطيح برأس عمه صدام ويعتلي سدة الحكم في العراق لا سيما وأنه كان قد اطلع على عدد من التقارير الصحافية التي تشير إلى أن الإدارة الأميركية تبحث عن جنرال تكريتي يستطيع قيادة المعارضة والإطاحة بصدام وتراءى له بأنه ذلك الجنرال ناسياً أو متناسياً أنه كان شرطياً قبل أن يعينه صدام ضمن طاقم حراسته وأن رتبة فريق أول التي يحملها على كتفيه لا تساوي أكثر من ثمن معدنها أو رمزه من القماش وأنه ربما لا يفهم من الشؤون العسكرية غير تسلسل الرتب. قرار الهروب وفي ضحى يوم الإثنين 7/8/1995 غادر حسين كامل بغداد في طريقه إلى عمّان في موكب ضمّ زوجته رغد بنت صدام وأولاده وضمّ أخاه صدام كامل ومعه زوجته أيضاً- رنا بنت صدام وعدداً من أركان حاشيته ونقل معه جميع موجودات هيئة التصنيع العسكري من العملة الصعبة ومقدارها 9.5 مليون دولار أميركي نقداً ولم يكن باستطاعة أحد تفتيش حمولاته من الخزائن عند حدود البلدين كما أنه غادر بطريقة رسمية بحجة اصطحاب عائلته في فسحة صيفية في جيكيا. وفي مساء الثلثاء 8/8/1995 ذهبتُ إلى صالة الاحتفالات في مقر هيئة التصنيع العسكري بصحبة عامر السعدي لحضور إحتفالية ذكرى انتهاء الحرب العراقية الإيرانية في 8/8/1988 ظناً مني أن وزير التصنيع العسكري حسين كامل سيكون حاضراً مما يقتضي حضورنا ومضت الدقائق والساعات ولم يحضر الوزير إلى الحفل ثم اعتلت راقصة عراقية المسرح وبدأت شوطاً من الرقص الشرقي الماجن وسط صفير المدعوين وتصفيقهم فحاولتُ مغادرة المكان غير أن عامر السعدي أصر على بقائنا لاحتمال تشريف الوزير مكان الاحتفال وما كنا ندري أن وزيرنا الآن تحت أضواء الإعلام هارباً من جحيم صدام على حد تعبيره. وقد بدأ يطلق العنان لتصريحات ناقدة وكأنه لم يكن الشخص الثاني في سلطة اتهمها بالديكتاتورية والتسلط والغباء السياسي وبدأت جموع رجال المخابرات العربية والأجنبية تنهال عليه في مقر إقامته الفخم في عمّان لاستطلاع ما يحمل من أنباء ومعلومات وهو يتباهى بالأضواء المسلطة عليه وبالاهتمام الذي أولاه له رجال الإعلام والسياسة والمخابرات في عمّان، وخشيَ صدام أن يطلق صهره العنان لتصريحاته فيكشف ما كان قد أخفاه من معلومات تتصل ببرامج أسلحة الدمار الشامل ولم تبقَ سوى بعض المعلومات التي أُخفيت إذ أن جميع الأسلحة سبق وأن دُمرت خلال صيف 1991 ويخلق للعراق أزمة جديدة مع مجلس الأمن لا سيما وأن الأمور كانت قد أوشكت على الانتهاء فأصدر أمره بدعوة الرئيس التنفيذي للجنة الأونسكوم والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى العراق للتباحث مع الجانب العراقي وأصدر أمره إلينا جميعاً بالإعلان إلى المفتشين عن كل ما كان حسين كامل قد أمرنا بإخفائه وعدم البوح به وظن بذلك أنه قد سحب البساط من تحت أقدام حسين كامل. وثمة أمر ثانٍ شعر به صدام وهو أن حسين كامل كان يدير أنشطة القطاع الصناعي بهمة ونشاط وكان حلقة الوصل بين منتسبي القطاع وبينه ويعرفه معظم المنتسبين بكونه صاحب قرار ومتابع جيد وصاحب ذاكرة حادة فغالباً ما كان يستفسر من أحد المسؤولين عن مسألة فنية كانت موضع نقاش قبل أشهر أو سنين، وبهربه لا بدّ أن يحدث فراغاً تنسيقياً كبيراً فقرر تشكيل لجنة صناعية ترتبط بمجلس الوزراء تتولى الإشراف على جميع القطاعات الفنية التي كان حسين كامل يشرف عليها. نعمان: من اجتماع صدام إلى مزرعة حيدر بعد حوالى أسبوعين من هروب حسين كامل تم تبليغي وتبليغ المديرين العامين القريبين من مقر هيئة التصنيع العسكري الذهاب إلى مكتب مدير الهيئة... وعند وصولنا وتجمع ما يقرب من العشرين شخص قادنا سكرتير المدير إلى باحة مقر الهيئة فركبنا سيارة ذات ستائر سميكة على جميع شبابيكها وقبل تحركها أُسدلت ستارة كبيرة بيننا وبين السائق كي لا نتعرف على الطريق الذي ستسلكه السيارة وبعد نصف ساعة أو ما يزيد وقفت السيارة أمام صالة اجتماع صغيرة ضمن مجمع القصر الجمهوري. وبعد أن خضعنا إلى تفتيش أمني شامل ودقيق وبعد أن أودَعنا جميع حاجياتنا الخاصة داخل دواليب خاصة، دخلنا الصالة فجلسنا على الكراسي قبالة خشبة مسرح قديمة لا تليق أن تكون مسرحاً في حي فقير من أحياء بغداد... بعد عشر دقائق دخل صدام واعتلى كرسياً على خشبة المسرح وابتدأ حديثه معنا والذي استغرق نحو الساعة فقال: "جمعتكم لأعتذر إليكم مرتين: مرة كوني قد عينتُ حسين كامل مشرفاً عليكم ومرة ثانية كونه صهري ومحسوباً على عائلتي" ثم كرر قوله هذا ثلاث مرات خلال لقائه بنا. ومن جملة ما قاله عن حسين كامل إن ذلك الشخص كان مغروراً أو مصاباً بداء العظمة وأن العملية التي أجريت لانتزاع ورم من دماغه قد أثرت سلباً على تصرفاته واستشهد بما أخبره به وزير الصحة الدكتور أوميد مدحت مبارك حول تلك العملية وتبعاتها. ثم أخبرَنا صدام بأن السلطة سوف لن تحاسب أي منا على أي عمل سبق أن نفذه بأمر من حسين كامل إلاّ إذا كان ذلك العمل قد سبب ضرراً بليغاً للمصلحة الوطنية أو عرّض أمن البلد إلى الخطر، ثم طلب منا جميعاً أن نستمر بأعمالنا بحسب سياقاتها إذ لا وجود لتغيير في البرامج أو في أساليب تنفيذها. كان صدام هادئاً جداً أثناء الاجتماع وغير مبالٍ بهذا الحدث الذي اعتبرناه نحن حدثاً سياسياً خطيراً كما أنه لم يلصق بحسين كامل أي وصف مثل الخائن أو المجرم وهو ما اعتدنا سماعه من بعض المسؤولين في هيئة التصنيع العسكري حيث كنا قد سمعنا من عامر العبيدي وزير النفط آنذاك والمشرف على هيئة التصنيع العسكري بعد أيام قلائل من هروب حسين وفي اجتماع رسمي دعانا إليه حيث تحدث إلينا لساعة ونصف الساعة مكرراً مرات ومرات أن حسين كامل خائن ومجرم ومتسلط، علماً بأن عامر العبيدي بالذات كان قبل هروب حسين كامل يمتدحه بإعجاب ويصفه بأنه رجل ذكي ومتمكن وصاحب قرارات صائبة وكان يوصي بالاستفادة من وجوده على رأس هيئة التصنيع العسكري لننطلق بهمة ونشاط في تنفيذ برامج الهيئة واختصار الوقت. وللحقيقة نقول إن ثمة بوناً شاسعاً بين صدام ووزرائه فقال أحدنا "يا ترى بماذا كان يفكر عامر العبيدي وهو يستمع إلى حديث صدام وهل ارتعدت فرائصه وهو يقارن الحديث المتزن لصدام مع حديثه المتهوِّر قبل ذلك بأيام". وفي 17 آب من عام 1995 وصل إلى بغداد كل من رولف إيكيوس المدير التنفيذي للجنة الأونسكوم وهانز بليكس المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية وبقيا في بغداد مدة ثلاثة أيام. وفي أول لقاء فني معهما أبلغناهما بتفاصيل البرنامج المعجّل الذي كان حسين كامل قد أمرنا بتنفيذه في 17 آب من عام 1990 وكما شرحنا في الفصول السابقة. وسلّم الجانب العراقي إليهما المجموعة الضخمة من الوثائق والتقارير التي كان حسين كامل قد أخفاها في موقع حساس ثم نقلت بعد هروبه وعلى عجل من ذلك الموقع إلى مزرعة بيت حيدر ومن ثم سلمت إلى مفتشي الأممالمتحدة فعُرفتْ منذ ذلك باسم مجموعة وثائق مزرعة حيدر أو باسم مجموعة وثائق قاعة الدجاج في مزرعة حيدر [1]. اجتماع عمان وكشف الأوراق في 22 آب 1995 تم عقد لقاء في عمّان مع حسين كامل حضره رولف إيكيوس والبروفسور موريزيو زيفيريرو ممثلاً للوكالة ونيكولاي سميروفيج الخبير الروسي في الصواريخ الباليستية وكان يعمل ضمن مفتشي الأونسكوم كما حضر اللقاء ممثلاً عن الديوان الملكي الأردني والذي تولّى مهمة الترجمة أيضاً [2]. عندما سُئِل حسين كامل عن سبب امتناع الجانب النووي العراقي من التصريح بأن برنامج الطارد للتخصيب كان يُجرى ضمن موقع الراشدية وليس ضمن موقع التويثة أجاب بأنهم فعلوا ذلك لتحويل أنظار المفتشين عن ذلك الموقع. وعندما سُئل عما إذا كان العراق لا يزال يمتلك نشاطاً نووياً. أجابه كلاّ لا يوجد ولكن الوثائق والخرائط لا تزال موجودة ضمن مجموعة من المايكروفلم وعندما سُئِل عما إذا كان نشاط التسلح النووي الذي سبق إجراؤه في موقع الأثير لا يزال قائماً. أجاب نعم ولكن قبل حرب الخليج. وعند سؤاله عما إذا كان الهدف من القنبلة النووية العراقية الأولى هو تجربتها فقط أم استخدامها في الحرب أجاب أن العلماء كانوا في مراحل البحث والتطوير ولم يكونوا قد وصلوا إلى مرحلة تصنيع القنبلة وبالتالي كانوا بعيدين جداً عن تجربتها. جعفر: مصير حسين كامل وبعد أن أكملتْ الجهات المخابراتية الأجنبية مهمتها وحصلت من حسين كامل على جميع ما بجعبته من معلومات، وبعد أن يئِسً من تزعمه المعارضة العراقية في الخارج قرر العودة إلى العراق وحصل على وعد بالعفو من صدام نفسه وفي شباط من عام 1996 عاد وأخوه صدام كامل وعائلتاهما إلى العراق فاستقبلهما عدي عند الحدود وأخذ أختيه وأولادهما معه إلى بغداد وترك حسين وأخاه يعودان إلى بغداد بمفرديهما. وفي اليوم التالي لوصول رغد ورنا إلى بغداد بصحبة عدي صدرت وثيقتا طلاقيهما من زوجيهما بالطريقة التي عرضت في حينها على شاشات التلفزيون. وبوصول حسين كامل وأخيه إلى بغداد إلتقيا مع إخوتهما وأخواتهما وأمهما في بيت أختهما في منطقة السيدية ببغداد ولم يمضِ غير يومٍ أو يومين حتى أُحيط المنزل بمجموعة مسلحة بقيادة علي حسن المجيد وعدي صدام فحصلت مواجهة مسلحة بين المهاجمين ومَن في الدار الذين قُتِلوا جميعاً كما قُتِل بعض المهاجمين فخرج عدي على رأس موكب تشييع جنازة أحد المهاجمين الذي قُتِلَ برصاص المدافعين. وبموت الجميع يكون علي حسن المجيد قد أوفى بعهدٍ قطعه عبر شاشة التلفزيون إثر هروب حسين بأن شرف العائلة الذي تدنّس بالعار بحسب وصفه، لن يُغسل إلاّ بإراقة الدم وكان له ما أراد. نعمان: أحداث ذات علاقة بالتفتيش عن البرنامج النووي السابق وفي الفترة المحصورة بين هذه المجزرة العائلية وبين نهاية عام 1998 شهِدنا حدثين أساسيين قدر تعلق الأمر بشؤون التفتيش، أول الحدثين هو قدوم فريقي تفتيش من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى العراق وهما الفريق 28 والفريق 29 وقد كان أول الفريقين برئاسة كاري ديلون في الفترة 9-20 أيلول 1995 وثاني الفريقين برئاسة بول ستوكس في الفترة 17-24 تشرين الأول 1995 وجاء في تقريري الفريقين إلى مجلس الأمن أن الجانب الفني العراقي كان متعاوناً إلى أبعد الحدود [3] وأظهر المنتسبون العراقيون سلوكاً بيّناً من الارتياح والانفتاح [4] وكانوا مستمتعين بإعلام المفتشين عن أمور كانوا في الأمس القريب يتخوفون من مجرد الاستماع إلى أية استفسارات عنها إذ كانوا في السابق يصرحون بأمر ويتمسكون به على رغم ضعف حجمهم [3]. أخبرنا المفتشون في جولتي الفريق 28 و29 عن البرنامج النووي الوطني ما يلي [4،3]: تفاصيل البرنامج المعجّل للفترة من 17 آب 1990- 17 كانون الثاني 1991. نشاط المجموعة الرابعة كان بحق بهدف إنتاج قنبلة نووية. تم تنفيذ برنامج منذ عام 1987 في منشأة القعقاع العامة التابعة لهيئة التصنيع العسكري يهدف إلى تصميم وإنتاج وفحص عدسات تفجير من مادة شديدة الإنفجار بهدف استخدامها في إنتاج قنبلة نووية من نوع الانفجار إلى الداخل. كان موقع الراشدية مكاناً لإجراء بحوث وتجارب التخصيب بالطارد المركزي الغازي وليس موقع التويثة كما كنا نقول سابقاً. وتم تزويد فريقي التفتيش بمعلومات مستفيضة عن برنامج التخصيب. وإثر تسلمها لهذه المعطيات ولغيرها كتبت الوكالة إلى مجلس الأمن ما يلي [4،3]: برنامج التخصيب بالفصل الكهرومغناطيسي كان على بعد سنين من إكتمال إنتاجه لليورانيوم عالي التخصيب. برنامج التخصيب بالطارد المركزي كان لا يزال يراوح ضمن تجربة جهاز طرد واحد فقط وأنه كان بعيداً جداً عن مرحلة تصنيع وبناء سلسلة واسعة بمقدورها إنتاج كميات من اليورانيوم عالي التخصيب صالح لإنتاج قنبلة نووية. عمليات القصف أَوقفت إمكان إعادة النشاط ببرنامجي التخصيب. لقد تولّت الوكالة نقل جميع قضبان الوقود النووي إلى روسيا منذ عام 1994 وعليه لم يعد العراق يمتلك أي وقود يستطيع استغلاله للحصول على يورانيوم عالي التخصيب. تمتلك الوكالة إمكانات رقابة تجعلها تعلم بأي محاولة عراقية لإنتاج يورانيوم مخصب. لا يزال العراق يحتفظ بقدراته البشرية العلمية والتكنولوجية في مجال البرامج النووية. إن مسلك العراق السابق ضمن البرنامج المعجّل يعد مخالة لبنود معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. يتوجب على الجانب العراقي إعداد تقرير شامل وكامل ونهائي عن برنامجه النووي السابق يكون وثيقة تُقرأ لذاتها من دون الحاجة إلى مراجعة التقارير والوثائق المعدة سابقاً. ختمت الوكالة تقريرها بالقول إن تجربة العراق قد ولدت القناعة بأن أية دولة لا تلتزم ببنود معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية يمكنها تطوير إمكاناتها لإنتاج أسلحة نووية ضمن وقت قصير نسبياً وذلك من خلال تصرفها بالمواد النووية الخاضعة للرقابة. ونعترف أن ما كتبه المفتشون من رأي حول سلوك الجانب العراقي بما سبق هروب حسين كامل وما تبِعه هو عين الصواب ويؤيد ما ذكرناه من فصول وما نذكره الآن أن حسين كامل كان سيفاً مصلتاً على رقابنا ويأمرنا بإخفاء المعلومات ويجبرنا على اتباع مسلك الخديعة والامتناع عن التعاون مع المفتشين الدوليين. وكنا ندرك أن البرنامج النووي الوطني قد انتهى وأصبح تماماً في خبر كان فلماذا لا نبوح بكل تفاصيله ومن اليوم الأول كي نُجنب أنفسنا عناء الكذب والتمويه ونُجنِّب الشعب العراقي ما ترتب على كاهله من مآسي إطالة أمد الحصار... نعمان: التقرير يكتمل والتعقيبات بالتقسيط اكتمل التقرير في غضون ثلاثة أشهر بالضبط وسُلِّمت نسخة منه إلى مكتب الوكالة الدولية في بغداد في 1/3/1996 وبحسب الموعد المحدد إلاّ أن الوكالة لم تلتزم بقراءته والتعليق على محتوياته على رغم تذكيرنا لها بضرورة سرعة استجابتها حيث تولى عامر العبيدي وزير نفط العراق حينئذ زيارة هانز بليكس المدير العام للوكالة الدولية في فيينا وحثه على قراءة التقرير وتقديم التعقيب إلى الجانب العراقي بأسرع وقت فتذرّع بأن مفتشي وكالته يتفحصون التقرير بكل عناية وأنهم سيركزون في تعقيباتهم على الجوانب الأساسية في التقرير ذات العلاقة بالفهم العام للبرنامج النووي العراقي [6]. بدأت تعقيبات الوكالة على التقرير تصلنا مجتزأة وعلى وجبات متباعدة استغرقت 17 شهراً بالكامل ففي 13-19 آذار 1996 قدمت الوكالة 300 طلب تغيير في التقرير معظمها في الجوانب اللغوية وفي الفترة 17 حزيران- 8 تموز 1996 قدّم الجانب العراقي إلى الوكالة الطبعة المنقّحة الأولى وأدخل فيها التصحيحات المطلوبة مع ملحق عن مشتريات البرنامج الخارجية وآخر عن مصير المعدات والأجهزة والمواد العائدة للبرنامج سابقاً. وذكرت الوكالة في تقريرها الموحّد الثاني المُقَدّم إلى مجلس الأمن في 7 تشرين الأول 1996 [7] أن التقويم النهائي للتقرير العراقي سيستغرق بضعة شهور أخرى وأنها ستركِّز على تلك الجوانب من البرنامج التي قلّل العراقيون من شأن التقدم والإنجاز الذي حققوه ضمنها. قدمنا إلى الوكالة الدولية 24 رسالة خلال الفترة 4 آب - 16 أيلول من عام 1997 تضمنت إجاباتنا على جميع ملاحظات البعثة الخامسة للفريق رقم 30 ولكننا رفضنا تقديم فصل أو ملحق عن الإنجازات المتحققة ضمن البرنامج نظراً لأن جدول محتويات التقرير الذي قدمناه إلى الوكالة في كانون الأول 1995 لم يتضمن هذا الموضوع وأن جدول المحتويات قد أقرّته الوكالة من دون تعليق عندما قدّمته إلى مجلس الأمن الذي أقره أيضاً[5]. بعد ذلك وافق الجانب العراقي على إصدار طبعة جديدة لتقرير FFCD يتضمن جميع التصحيحات والإضافات التي أُدخلت تلبية لطلبات الوكالة الدولية متضمناً وثيقة عن أهم الإنجازات الفنية للبرنامج فزار العراق فريق فني من الوكالة للفترة 19-22 كانون الأول 1997 للتباحث معنا حول أسلوب إعداد التقرير بصيغته الجديدة وقدمنا إلى الوكالة في 25 مارس 1998 طبعة موحدة جديدة لتقرير FFCD يرتكز على الطبعة المنقحة FFCD-F المقدّمة في 7 أيلول 1996 مع جميع التغييرات والتنقيحات التي أُعِدّت على وفق مقترحات الوكالة التي قُدِّمت إلينا في شباط وآذار وتموز من عام 1997. وفي صيف 1998 إجتمع جعفر في بغداد مع كل من كاري ديلون وجاك بوت لمناقشة الأمور المعلَّقة نظراً لأن ديلون كان قد قدّم إلى مجلس الأمن تقريراً في نيسان من ذات السنة لم يذكر فيه أن الوكالة قد أنهت مرحلة نزع السلاح النووي وأنها قد انتقلت إلى مرحلة التحقق والرقابة المستديمة. جعفر: سين وسوف... وصبرنا يغضبهم كان صبري قد نفد من مماطلة الوكالة فقلتُ لديلون: "ألم يحن الوقت لتخبروا مجلس الأمن بالحقيقة؟ أنتم تعرفون جيداً أن مرحلة نزع السلاح قد انتهت وتقولون لنا أن الأمور القليلة المتبقية يمكن معالجتها ضمن مرحلة التحقق والرقابة المستديمة فلماذا لا تقولون الشيء ذاته إلى مجلس الأمن بدلاً من التسويف والمماطلة المتواصلة" ولكن ديلون لم يجِب على تعليقي واكتفى بطلب لقاء طارق عزيز. القرن الأميركي الجديد بنهاية عام 1997 كان يبدو لنا أن العراق أخذ يسير بطيئاً باتجاه إقناع المفتشين أن عملية نزع أسلحته قد اكتملت ولم يعد يمتلك أية نوايا لإعادة الحياة لأنشطته السابقة في مجال أسلحة الدمار الشامل... وبعبارة أخرى كنا نشعر بوجود أمل ضئيل بأننا سنخرج من هذا النفق، حالك الظلام. ولم نكن نتصور أن عام 1998 سيعيدنا إلى قعر هذا النفق لا لسبب إلاّ لانحدار العلاقة العراقية الأميركية بالاتجاه السيء. إذ كانت مجموعة سياسية محافظة نشطة تعمل في الولاياتالمتحدة الأميركية لصياغة سياسة خارجية أميركية ضمن ما سمته مشروع القرن الأميركي الجديد Project for the New American Century PNAC وهي مجموعة تأسست في 3 حزيران من عام 1997 من شخصيات سبق أن عمِلت ضمن إدارة جورج بوش الأب وتوصلت هذه المجموعة السياسية إلى قناعات سطرتها ضمن مذكرة بعثت بها إلى بيل كلنتون في 26 كانون الثاني 1998 تحثه فيها على جعل إزاحة صدام حسين حجر الزاوية للسياسة الخارجية الأميركية. فكتبت مجموعة PNAC ما نصه: "نعتقد بأن الولاياتالمتحدة الأميركية تمتلك السلطة ضمن قرارات مجلس الأمن بشأن العراق لاتخاذ إجراءات حاسمة بما فيها عمليات عسكرية لحماية مصالحنا الحيوية في منطقة الخليج" [8]. وطالبت هذه المجموعة زيادة التخصيصات المالية للدفاع وألحت على استخدام القوة الأميركية الهائلة للتدخل في الأحداث أينما تجد ذلك ضرورياً. في 13 كانون الثاني 1998 أبلغ ريتشارد بتلر مجلس الأمن أن العراق قد أعلن عن عدم تعاونه مع فريق التفتيش لكون غالبية المفتشين من مواطني الولاياتالمتحدة الأميركية وبريطانيا. وفي 22 كانون الثاني أعلن بتلر أن نائب رئيس الوزراء العراقي لا يسمح لمفتشي الأونسكوم دخول أي من المواقع الرئاسية الثمانية في العراق. وفي ضوء ذلك بعث الأمين العام للأمم المتحدة فريقاً فنياً إلى العراق لإجراء مسح لمساحات وحدود المواقع الرئاسية المذكورة ولاحقاً لهذه المهمة تولى الأمين العام زيارة بغداد للفترة 22-23 شباط من العام ذاته توصل أثناءها إلى الإعلان عن التوصل إلى مذكرة للتفاهم مع الحكومة العراقية بشأن تفتيش المواقع الرئاسية في العراق [9] وعلى وفق بنود هذه المذكرة ستسمح السلطات العراقية لمفتشي الأونسكوم والوكالة الدولية من الدخول الفوري وغير المشروط لتفتيش هذه المواقع بموجب قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بأسلحة الدمار الشامل العراقية وفي المقابل تتعهد جميع دول الأممالمتحدة باحترام سيادة العراق واحترام وحدته الوطنية كما تلتزم لجنة الأونسكوم باحترام مشاعر العراقيين في الأمن والسيادة والكرامة. ونصّت مذكرة التفاهم هذه على ضرورة الاتفاق على أساليب إجراء التفتيش في المواقع الرئاسية حالياً ومستقبلاً. وفي 3 آب من عام 1998 اجتمع بتلر مع طارق عزيز في بغداد وطلب منه طارق أن يبلغ مجلس الأمن بأن العراق قد نفذ جميع التزاماته تجاه الجزء/ج من القرار 687 لسنة 1991 وبذلك يتوجب على المجلس تنفيذ التزاماته تجاه العراق بموجب هذا القرار غير أن بتلر قال لطارق عزيز إنه غير مستعدٍ لإبلاغ المجلس بذلك. * فصول منتقاة من كتاب سينشره مركز دراسات الوحدة العربية في اواخر الشهر الجاري