سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الاعتراف الأخير ... قصة البرنامج النووي العراقي يرويها المسؤولان عن انشائه وتطويره . المفتشون يطاردون شاحناتنا التي تحاول إخفاء المعدات النووية ... والأقمار الاصطناعية تراقب 5 من 7
بعد انتهاء حرب الخليج الأولى وبينما كانت المناقشات تدور في أروقة مجلس الأمن لاستصدار قرار جديد في شأن العراق - نشرت جرائد العراق النص العربي لمسودة القرار المزمع إصداره-، وعند قراءته اتفق عامر السعدي وجعفر أن يتقدما بمذكرتين منفصلتين الى حسين كامل عما يجب اتخاذه في ضوء هذا القرار حين صدوره وقررا أن يتناول عامر السعدي شؤون الأسلحة الكيميائية والبايولوجية وشؤون برنامج تطوير الصواريخ البالستية وان يتناول جعفر شؤون البرنامج النووي. وفي 3 نيسان 1991 أصدر مجلس الأمن القرار 687 لسنة 1991 1 والذي وُضعت بموجبه أكثر البنود تشدداً وصرامة في تاريخ التفتيش وضمنه شروط وقف إطلاق النار بين العراق والقوات المتحالفة فدون في الفقرة 12 من الجزء 2 من القرار ما نصه "يتوجب على العراق أن يلتزم دون قيد أو شرط بعدم تطوير أو بناء أو استخدام أسلحة نووية وعدم إنتاج مواد تصلح لتصنيع قنابل نووية وعدم إجراء اي بحوث أو تطوير أو بناء منظومات أو ورش يمكن استخدامها لهذا الغرض"، واشترط على العراق أن يعلن خلال خمسة عشر يوماً من تاريخه عن كميات وأنواع ومواقع هذه الأمور وأن يضعها جميعاً تحت تصرف الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA إذ يتوجب عليها تدمير او نقل او إبطال مفعول جميع هذه المواد والمعدات والمنظومات". ووعد القرار في ضوء إكمال كل ما يرد في البنود 8-13 منه وعند حصول قناعة لدى مجلس الأمن من تحقق ذلك بأن تلغى إجراءات الحصار على استيرادات العراق لسد حاجاته وكذلك تصدير البضائع والمواد المنتجة في العراق كما وردت في القرار 661 لسنة 1990. وفي 10 نيسان 1991 وافق العراق رسمياً على القرار 687 لسنة 1991 2 فتولى جعفر ونعمان إعداد مذكرة إلى حسين كامل أوصيا فيها بإعلان جميع أنشطة البرنامج النووي الوطني المتوقف، وذكرا تفاصيل عن المواقع والمنظومات والمواد والانشطة التي نصحا بإعلانها بموجب شروط هذا القرار. أعاد حسين كامل المذكرة فوراً موجهاً بها التقيد بإعلان النشاط النووي المعلن سابقاً والمعروف للوكالة الدولية فقط والامتناع عن إعلان أي من جوانب البرنامج النووي الوطني السابق أي إخفاء البرنامج بالكامل. وأصدر توجيهاً مماثلاً إلى عامر السعدي بشأن البرامج الأخرى من أسلحة الدمار الشامل فجاءت توجيهاته صدمة مزعجة وكبيرة لنا دون أن نستطيع تخطِئة القرار بعدم واقعيته لا سيما أننا قدّرنا بأن توجيهاً خطيراً كهذا لا بد أنه قد حظي بموافقة رئيس الجمهورية. ونحن نعتقد الآن بأن حسين كامل لم يشرك غيره من كبار المسؤولين عن العلاقات الدولية من أمثال طارق عزيز أو أحمد حسين خضير وأنه اتخذ ذلك القرار بمفرده أو على الاقل، ربما قد أحاط صدام علماً به، وأفلح آنذاك بإقناعه أن إخفاء مكونات برامج أسلحة الدمار الشامل أمر سهل وممكن. وبموازاة ذلك صدر أمر إلى وزير الخارجية حينئذ أحمد حسين خضير أن يقدم إلى مجلس الأمن إعلان العراق حول أسلحة الدمار الشامل وعلى وفق متطلبات القرار 687 1991، أي بموعد أقصاه 18 نيسان عام 1991. وفي ذلك اليوم بالضبط أرسل الإعلان العراقي الاول إلى مجلس الأمن وفيه ذكر وزير الخارجية أن العراق لم يمتلك أسلحة نووية ولا مواد تصلح لتصنيع سلاح نووي، وأعلن عن امتلاكه كميات محددة من السلاح الكيميائي فقط وامتلاكه 53 صاروخ أرض-أرض من نوع سكود أو صواريخ الحسين كما كانت تسمى... وتضمن الإعلان عدم امتلاك العراق لأي سلاح أو برنامج تسلح بايولوجي.. وكان هذا الاعلان الاول مدعاةً لاستهجاننا جميعاً لاننا على علم بواقع برامجنا ونعلم أنه لن يقنع مجلس الأمن، وأن هذه الكذبة ستجرنا إلى كذبة تليها كذبة، وأن تبعات هذا السلوك الخاطئ سنتحمله نحن العلميين وسيتحمله الشعب العراقي الذي فقد الحال والمال، ولم يبقَ لديه غير الكرامة. نعمان: المناورة والتمويه انطلقت لجنة موقع التويثة بإجراءات الغش والتمويه فوجدت أن أهم مبنيين يتوجب إخفاء نشاطهما هو مبنى تجارب الفاصلات الكهرومغناطيسية ومبنى مشاريع تجارب الهندسة الكيميائية. ووجدنا أن تمويه المبنى الأول لم يتطلب كثيراً من العناء فلقد تعرض المبنى إلى قصف شديد وتدمير كبير بقنابل وصواريخ الحلفاء خلال عاصفة الصحراء. فما كان علينا إلاّ نقل الفاصلات إلى خارجها وانتزاع جميع خدمات المبنى، من مولّدات قدرة كهربائية وأجهزة إلكترونية، وتابلوات نقل القدرة الكهربائية وأسلاك نقل الإشارة الكهربائية إلى أجهزة القياس والسيطرة التي نُقلت بالكامل إلى خارج المبنى. بعد الاطمئنان إلى إجراءات موقع التويثة انتقلتُ إلى موقع الطارمية والتقيتُ مديره العام ظافر سلبي فوجدتُه متشائماً بشأن إجراءات تفكيك مكونات الفاصلات الكهرومغناطيسية الإنتاجية كبيرة الحجم والوزن، فقال إن تفكيكها ونقلها تطلّب مجهوداً لا يقل إرهاقاً عن مجهود نصبها وتشغيلها التجريبي. سألت المدير العام للموقع عن نشاطٍ بديلٍ غير نشاطهم الحقيقي فأخبرني بأن مباني الفاصلات كانت معدّة لإصلاح المحولات الكهربائية العملاقة العائدة لمؤسسة الكهرباء في وزارة الصناعة والمعادن. أما مباني معاملة اليورانيوم المخصب والمنضب كيميائياً فكانت مخصصة لاستخلاص الفلزات الثمينة من مخلفات تكنولوجيا إصلاح المحولات. وعلى الرغم من كون هذا السيناريو غير مقنع إلاّ اننا لم نستطع اختلاق بديل أفضل، فتمسكنا به. وانتقلتُ بعدئذ إلى موقع الأثير فاجتمعتُ بمديره العام خالد ابراهيم سعيد وبرؤساء فعاليات الموقع، وعلمتُ أنهم قد نقلوا جميع معداتهم وأجهزتهم الثقيلة إلى موقع إخفاء بعيد وعلمتُ أن الاستخدام البديل لموقعهم كان بحوثاً وتجارب في علوم وتكنولوجيا المواد. وإنهم قد أحكموا قصة للبحوث التي تجرى في كل مبنى من مباني ذلك الموقع ولم يكتفوا بذلك بل طبعوا كراساً أنيقاً يشرح النشاط البديل لموقعهم يحمل تاريخ عام 1989. عدتُ من جولتي وبعثتُ بتقرير شامل إلى جعفر الذي أحاله بدوره إلى حسين كامل. جعفر: توجيهات حسين كامل المتسرعة أرسلتُ مذكرة مقتضبة إلى حسين كامل أبلغته فيها بإجراءاتنا في تفكيك البرنامج وإخفائها وأعلمتُه بأن المواقع قد اختلقَت أنشطة بديلة لأنشطتها الحقيقية. وأعلمتُه بأن إجراءاتنا تلك غير محكمة بما فيه الكفاية نظراً لضخامة حجوم المعدات وتنوعها وأعدادها الكبيرة وأعلمتُه أيضاً بهشاشة الأنشطة البديلة التي اختلقنَاها. لم يأخذ حسين كامل تفاصيل مذكرتي على محمل الجد والاهتمام ولما قابلته وشرحتُ له الموقف، أبلغني بانفعال: "إذا كنتم لا تستطيعون إخفاءها سلمونا إياها لنتولى نحن ذلك". غادرت عصر ذلك النهار إلى الموصل لتفقد محطات الكهرباء المدمرة ولم أنفذ توجيه حسين كامل. وعندما عدتُ إلى بغداد وجدتُ الأمور في فوضى كبيرة حيث كانت سيارات النقل الخاصة واقفة في طوابير طويلة أمام موقع مصنع الربيع في الزعفرانية وأمام موقع الطارمية، فكانت تحمّل بالمعدات المتنوعة والثمينة والحساسة دون اهتمام بجردها ولا بترتيبها بعناية على ظهر السيارات الناقلة ثم تغادر السيارة بقيادة مالكها وأحد منتسبينا، وحين وصولها موقعاً محدداً في مركز بغداد يتسلم قيادتها شخص لا نعرفه فينطلق بها ويترك موظفنا ومالك الشاحنة لا يعرفان ماذا سيحل الدهر بحمولتهما وبالشاحنة نفسها، وتعود السيارة فارغة صباح اليوم التالي لتسلم لهما وتعاود عملية النقل ثانية وهكذا... نعمان: هكذا بدأتْ عمليات التفتيش في مساء يوم 14 آذار 1991 أخبرني مدير مكتب جعفر أن فريق التفتيش الأول التابع للوكالة الدولية قد وصل بغداد، وأنه يتوقع بدء عملية التفتيش في الصباح التالي بموقع التويثة. وصلتُ موقع التويثة في الساعة السابعة من صباح 15 آذار واتخذنا مبنىً بجوار مبنى الإدارة العامة للمنظمة موقعاً لعمل فريقنا، وأعددنا مبنى استعلامات موقع التويثة المجاور لنا ليكون مقر عمل فريق الوكالة. وفي تمام الساعة الثامنة صباحاً لاحظتُ عدداً من سيارات فارهة حديثة تقف أمام المبنى ذاته يرشدها أحد منتسبي أمن واستعلامات بوابة الموقع الخارجية. ترجّلوا من سياراتهم وكلّفت أحد أعضاء فريقي للترحيب بهم وإرشادهم إلى مقر عملهم. كان أول عمل بدأوه، هو نصب طبق متوسط الحجم للاتصال الهاتفي بواسطة قمر الاتصالات البحرية INMARSAT متمكنين بذلك من إبلاغ مقرهم في واشنطن وفيينا وكذلك مقرهم في منطقة القناة والذي قد حوّروه ليكون مقراً لعملياتهم بعد أن كان فندقاً لتدريب طلاب معهد التدريب الفندقي في بغداد. ثم تولى مسؤول فريق التفتيش ديمتريوس بيريكوس وهو يوناني الجنسية وأحد موظفي الوكالة الدولية للطاقة الذرية... فأخبر نائبي سرور ميرزا محمود أن فريقه البالغ عدد أعضائه 34 مفتشاً جاءوا إلى بغداد لتنفيذ ثلاث مهمات للتحقق من صحة معلومات إعلان العراق عن برامجه في 18 نيسان الماضي مبتدئين بتفتيش موقع التويثة، ومن ثم قد يزورون مواقع أخرى يحددها لهم فريق أونسكوم في نيويورك. وسلم بيريكوس إلى سرور مخططاً لموقع التويثة مؤشراً عليه بمربعات على مواقع عدة بأرقام متسلسلة، وطلب منه أن يتم إعطاء اسم لكل مربع ووصفاً موجزاً لنشاطه السابق على أن تكون جاهزة نهاية ذلك اليوم أو صباح الغد كموعد أقصى... جاء سرور حاملاً المخطط فأدركنا في الحال أنه مخطط مشتق من صورة جوية مصورة ربما من أحد أقمار التجسس الأميركية العديدة المكلفة بمراقبة العراق وتصوير كل صغيرة وكبيرة على أرضه ولمرات عدة كل يوم... لم نكن نمتلك أي خارطة لموقع التويثة في حينه، فأمضينا ذلك النهار نخمّن ما يشير إليه كل مربع في المخطط، وقدّمنا أسماء الأبنية ومهماتها باللغة الإنكليزية، وسلمناها لهم قبل مغادرتهم الموقع مساء ذلك النهار. جاؤونا صباح اليوم التالي وسلمونا نسخة من مخططهم مرفقاً بها قائمة مطبوعة بما قدمناه لهم من مسميات. وأشاروا إلى مربع صغير في الجهة الجنوبية الشرقية من المخطط وبمحاذاة الساتر الترابي الكبير المحيط بموقع التويثة. وقال ممثلهم لممثلنا بصلافة: سوف لن نبدأ عملية التفتيش ما لم تعطونا اسم هذا المكان المحدد ومهماته... أرسلتُ أحد منتسبي دائرة السلامة بصحبة أحد ضباط أمن الموقع لتفقد المكان المؤشر وإعلامي على عجل فجاءا قائلين إنه مكان حفرة تُرمى فيها نفاياتٍ واطئة الإشعاع مكونة من ملابس وأحذية واقية وأوراق تنشيف قبل اتخاذ إجراءات غسلها أو طمرها فأرسلنا لهم المعلومة. وقال رئيسهم مهدداً: حسناً فعلتم وإلاّ كنا سنتصل حالاً بمقرنا لنخبرهم رفضكم التعاون معنا. نعمان: جر الحبل مع مفتشي الوكالة استمر فريق الوكالة الأول بعملية التفتيش للفترة من 15 إلى 21 آذار مارس 1991 حيث غادرونا بعد ذلك وتنفس أعضاء فريقي الصعداء وتمتعوا بالراحة. ولكن ما أن قدمنا إلى جعفر عرضاً عن صراعنا مع مفتشي الفريق الأول حتى جاءتنا الأوامر بتهديم بنايتين في موقع التويثة كانت أولاهما تضم المنظومات التجريبية للفاصلات الكهرومغناطيسية والثانية تضم المنظومات الكيميائية الساندة لهذا البرنامج، فتولينا تهديمهما بالكامل ونقل الأنقاض خارج موقع التويثة وتسوية موقعيهما تسوية شاملة... كما أكملت الإشراف على إعداد السيناريوات البديلة لأنشطة المواقع الأخرى للبرنامج النووي الوطني. جاءنا فريق التفتيش الثاني من الوكالة الدولية في 22 حزيران يونيو 1991 واستمر عملهم إلى 3 تموز يوليو 1991. وفي فجر 23 حزيران 1991 توجه الفريق من مقره في فندق القناة لإجراء تفتيش مفاجئ لموقع حددته لهم لجنة الأونسكوم دون أن يخبروا مرافقيهم العراقيين بجهة توجههم. انطلق ركبهم بسياراتهم البيض من نوع تويوتا 4WD الحديثة ولحق بهم الفريق العراقي بسياراته القديمة بدعو الله ألا تتعطل به، وقد انطلقوا بسرعة قد لا تقوى عليها تلك السيارات المستهلكة. كان الركب متوجهاً صوب منطقة أبو غريب فاستنتج منتسبو الفريق العراقي أن المفتشين لا بدّ من أنهم يتجهون إلى موقع حددته لهم الأقمار الاصطناعية نظراً لعدم وجود موقع ذي نشاط نووي في تلك الجهة. وتأكد حدس سرور ميرزا محمود ممثل الفريق العراقي وحدس زملائه ممثلي الجهات الأمنية العراقية المخابرات والاستخبارات العسكرية والأمن العام والأمن الخاص والأمن العسكري ومنظومة أمن وحماية منشآت التصنيع العسكري. تهريب المعدات النووية عندما انحرفت سيارات فريق الوكالة الدولية إلى يسار الطريق العام وسلكت طريقاً ترابياً سيئاً وبعد 15 دقيقة وصل ركب السيارات إلى بوابة معسكر تابع للحرس الجمهوري الخاص فمُنعوا من دخول المعسكر من قبل حرّاسه إذ كانت لديهم تعليمات صارمة بعدم السماح لغير منتسبي الحرس الجمهوري الخاص من دخول المعسكر بتاتاً كونه معسكراً خاصاً جداً لا يدخله إلاّ منتسبوه. ارتبك مرافقو فريق التفتيش الدولي وماذا عساهم أن يفعلوا غير الاتصال بمقرّاتهم عبر الأجهزة اللاسلكية التي معهم؟ ولكن لم تصلهم التعليمات حيث كان ذلك اليوم هو أول أيام عيد الأضحى المبارك ولا يوجد في المقرات غير الخفراء وهم ليسوا أصحاب قرار. وصلني الخبر من ممثلنا سرور ميرزا محمود فأسرعتُ بسيارتي إلى دار جعفر فوجدته يتناول وجبة الإفطار وأعلمته بالخبر السييء، فلم يشأ أن يتخذ قراراً. وارتدى ملابسه ورافقته بسيارته باتجاه وزارة الصناعة والمعادن، فصعدنا مسرعين إلى غرفة الوزير ودخلناها فوجدنا عامر السعدي جالساً في مكتبه. أخبرناه بما يحدث فارتبك هو أيضاً فما كان منه إلاّ أن رفع أحد الهواتف العديدة بجانبه، واتصل عبر رقم صغير كان واضحاً أنه رقم أحد المسؤولين الكبار وافتتح كلامه بالسلام وتقديم التهانئ بمناسبة عيد الأضحى المبارك وأعلمه بخبر فريق التفتيش ولم نسمع من كلامه غير كلمات: مفهوم سيدي... صار سيدي... سنتصرف هكذا يا سيدي... في أمان الله سيدي وكنتُ صامتاً أتحرق لسماع التوجيهات الصائبة غير أنني صُدمتُ حين قال لنا: إن المعسكر يضم بعض معدات البرنامج النووي التي سبق أن سُلّمت للحرس الخاص بأمر حسين كامل وتُركت في العراء في المعسكر لقمة سائغة لتصورها الأقمار الاصطناعية التجسسية. فجاء أمر حسين كامل الآن كسابقات أوامره ليداوي الخطأ بخطأ أكبر منه إذ أمر بعدم السماح للمفتشين دخول المعسكر وأن يتم تحميل جميع المعدات فوق سيارات نقل عسكرية بعد غروب الشمس عندما يغادر المفتشون الموقع وأن تنتقل السيارات بحمولتها في اتجاه الغرب. وإلى ذلك الوقت لم يكن أي من منتسبي البرنامج النووي السابق على علم بمكان تواجد معداتهم التي سلمت إلى جهاز الأمن قبل أكثر من شهر كما سبق ذكره. جعفر: وللحادثة تبعاتها الثقيلة عند غروب شمس ذلك النهار غادر مفتشو الوكالة موقعهم إلى مقرهم في فندق القناة فبدأت الناقلات العسكرية تنفذ الأمر بتحميل المعدات وتحريكها بعيداً من المعسكر. وبعد منتصف تلك الليلة رن جرس الدار فعجِبتُ مَن يكون زائر الليل في تلك الساعة المتأخرة. نهضتُ من سريري فأسرعت نحو الباب الخارجي وفوجِئتُ بوقوف اللواء كمال مصطفى سلطان وحاجم خميس مدير مكتب حسين كامل فدعوتهما إلى الداخل فاعتذرا كونهما حضرا بأمر مستعجل وهو طلب العون في توفير مكنات رفع ثقيلة يمكنها أن ترفع قطعاً بوزن سبعين طناً وتحميلها على ناقلات الدبابات من نوع فاون، وطلبا عوناً آخر بتوفير الفنيين المدربين على رفع القطع الثقيلة وتحميلها ومن ثم إنزالها. ولقد علمتُ لاحقاً أن هذين المسؤولين لم يأتيا إلي لطلب العون إلاّ بعد فشل إحدى الرافعات في تحميل معدة كبيرة فسقطت على الأرض وتسببت في مقتل أحد الجنود وإصابة آخرين. وأدركتُ في الحال أنهما يريدان بذلك نقل الأقطاب المغناطيسية للفاصلات الإنتاجية التي كانت موجودة في موقع الطارمية سابقاً وسُلِّمتْ إلى الحرس الجمهوري الخاص قبل فترة من الزمن لإخفائها، فتيقنتُ من صحة تخوفي السابق عند إصدار الأمر بتسليمها إلى الحرس الخاص من عدم تمكنهم من إخفائها... ولكن كان عليَّ أن أتخذ الإجراء المناسب فاتصلت هاتفياً بمدير هيئة النقل التابع للبترو-3 وأمرتُه بإرسال هذه المعونة إلى معسكر الحرس الجمهوري الخاص في منطقة أبو غريب بصحبة شخص يعرف الموقع. وعلمتُ لاحقاً أن المعنيين بالأمر احتاجوا ليلتين كاملتين لتحميل جميع المعدات على ناقلات الدبابات والتي أُمرت بالتحرك على الطريق العام باتجاه آمرية التموين والنقل في أبي غريب من دون تحديد موقع تسليم الحمولة. وبعد انتظار ثلاثة أيام سُمِحَ لمفتشي الوكالة بدخول المعسكر الذي أرادوا تفتيشه فلم يجدوا شيئاً يستحق التفتيش، فأدركوا أن المعدات التي أظهرتها صور الأقمار الصناعية قد نُقِلت وأُخفِيتْ مرة ثانية... خرجوا من المعسكر فشاهدوا في مناظيرهم سحابة من التراب تنطلق من غرب موقعهم فأسرعوا بسياراتهم باتجاه السحابة وعند اقترابهم من الركب تسلق أحد المفتشين عموداً للكهرباء وأخذ يراقب السيارات بحمولتها، والتقط صورة لسيارة تحمل كتلة حديد كبيرة وهي قطب المغناطيس كما نعرفه. وفي أعقاب هذه الحادثة قدِمَ إلى العراق وفد رفيع المستوى من الأممالمتحدة ضم هانز بليكس المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية ورالف إيكيوس المدير التنفيذي للجنة الأونسكوم وياسوشي أكاشي مساعد الأمين العام لشؤون نزع السلاح. فاجتمع هذا الوفد بطارق عزيز وعدد من كبار المسؤولين عن الأسلحة المحظورة وطلب الوفد السماح الفوري لمفتشي الوكالة من الدخول إلى أي موقع يريدون وأن تتم إعادة جميع المعدات التي تم إخلاؤها من المعسكر لكي يتم تفتيشها بحُريّة ومن دون تدخل من الجانب العراقي. وأعطوا للعراقيين صوراً واضحة لمعدات برنامج التخصيب بالفاصلات الكهرومغناطيسية وهي تُحمَّل على السيارات. وعند ذلك أدركنا عدم جدوى إنكارنا لامتلاكنا برنامجاً للتخصيب بهذه الطريقة كما أدركتُ شخصياً عدم جدوى إنكار الجوانب الأخرى للبرنامج النووي الوطني السابق. فالمفتشون يمتلكون معلومات استخباراتية كثيرة ويتمتعون بدعم فوري من مجلس الأمن وبذلك فلهم اليد الطولى وأن موقفنا ضعيف تجاههم. أدرك صدام فشل حسين كامل في إخفاء المعدات فاتخذ قرارين أولهما تشكيل لجنة تتولى تصريف شؤون العلاقة بين العراق والوكالة الدولية واللجنة الخاصة برئاسة طارق عزيز نائب رئيس الوزراء وعضوية صابر الدوري رئيس جهاز الاستخبارات وقصي صدام حسين المشرف على الحرس الخاص والحرس الجمهوري وجهاز الأمن الخاص وأحمد حسين خضيِّر وزير الخارجية ومحمد سعيد الصحاف وزير الدولة للشؤون الخارجية. وكان أمر تعيين هذه اللجنة رفيعة المستوى إنهاء دور حسين كامل في تسيير شؤون علاقة العراق مع مفتشي الأممالمتحدة واعترافاً واقعياً من صدام بفشل أسلوب تلك المهمة. وأصدر صدام أمراً ثانياً يتضمن تدمير كافة مخلفات برامج أسلحة الدمار الشامل تدميراً أحادي الجانب على أن يتولى منتسبو الحرس الجمهوري الخاص تنفيذ عملية التدمير. كان هذا الأمر بمثابة قرار رسمي بإلغاء جميع برامج أسلحة الدمار الشامل. بدأ منتسبو الحرس الجمهوري الخاص بتدمير جميع المعدات بالمتفجرات في عدد من المواقع ولكنهم لم يدونوا محضراً أصولياً بإجراءات التدمير ولم يعدوا سجلاً بالمعدات والمواد التي دمروها. جعفر: حكاية مثيرة عن فريق التفتيش في صباح الاثنين 23/9/1991 حضر إلى داري سامي الأعرجي مسؤول الفريق العراقي المواجه لفريق التفتيش السادس وأخبرني أن مفتشي الأممالمتحدة في مبنى نقابات العمال يحاولون الاستيلاء على الوثائق وتهريبها إلى مقر الأممالمتحدة في فندق القناة ببغداد. غادرتُ الدار في الحال ووصلتُ مبنى النقابات في غضون دقائق قليلة، فهو لا يبعد عن بيتي سوى مئات قليلة من الأمتار، وأخبرتُ ديفيد كي وروبرت كالوتشي بعدم موافقتنا على استيلائهم على الوثائق ما لم نحصها ونضع سجلاً بها ومن ثم نسلمها لهم. وافقوا في الحال على طلبي وتعجبت لاستجابتهم تلك إذ لم أكن أدرك أنهم قد استولوا على الوثيقة الثمينة وهربوها خارجا،ً أما غيرها فأقل شأناً لديهم. وطلبتُ من الفريق العراقي تفحص الوثائق وعزل الحساس منها وإعداد قائمة ببقية الوثائق بغية تسليمها إلى المفتشين لاحقاً تجنباً لإشكالات، كتلك التي حصلت مع الفريق الثالث. وحيث أننا توقعنا قيام المفتشين لاحقاً بالتفتيش على جميع الوثائق والملفات الموجودة في عمارات الخيرات التي تضم عدداً من منتسبي بترو-3، ومن بينهم منتسبو قسم التوثيق ومنتسبو الإدارة العامة مع جميع ملفاتهم الإدارية والأمنية وغيرها، ووافقتُ على طلب خالد ابراهيم سعيد المدير العام للمجموعة الرابعة بنقل وثائق وملفات مجموعته الموجودة في عمارات الخيرات إلى مكان آمن، فتولى مع جماعته تحميلها على ظهر سيارة نقل عائدة إلى منظومة أمن وحماية منشآت التصنيع العسكري، فتولى قيادتها أحد منتسبي تلك المنظومة وأخذها إلى منطقة الزعفرانية ونُقلت هناك إلى سيارة أخرى أخذت تنتقل في شوارع بغداد طوال نهار 24/9/1991، وفي المساء قررتْ المنظمة إرسال السيارة بحمولتها إلى مزرعة في الطارمية وبعد ثلاثة أيام نُقلت إلى مزرعة في المشاهدة ثم إلى مزرعة في الضلوعية ظناً منا أن هذه الإجراءات ستحمي الوثائق والملفات من أعين مفتشي الأممالمتحدة، وما كنا ندري أن المفتشين كانوا أكثر شطارة منا عندما استولوا على وثيقة واحدة تغنيهم عن جميع الوثائق الأخرى. وعلى رغم ذلك التزمنا بوعدنا وأرسلت الوثائق الموجودة برُمتها في مبنى النقابات، في ما عدا وثائق المجموعة الرابعة، وسلمناها إلى مقر المفتشين في بغداد في الساعة الثالثة من فجر الثلاثاء 24/9/1991. نعمان: أوامر ارتجالية في بدايات تشرين الأول 1991 اتصل عبدالحميد محمود السكرتير الشخصي لرئيس الجمهورية بجعفر وأبلغه بإعفائه من إدارة شؤون منتسبي بترو-3 التي أُنيطت برئيس المنظمة همام عبدالخالق إضافة لوظيفته، على أن يستمر جعفر بالإشراف على قطاع الكهرباء ضمن وزارة الصناعة وبمنصب وكيل وزارة الذي كان يشغله سابقاً. قرر همام أن يتولى الدكتور عبدالحليم ابراهيم أمان الحجاج المدير العام لدائرة السياسات العلمية في منظمة الطاقة الذرية رئاسة الفريق العراقي النووي المكلف بالتعامل مع فرق التفتيش التابعة للوكالة الدولية، وأن يكون سامي الأعرجي ممثلاً لبترو-3 ومعاوناً لرئيس الفريق العراقي. كما أصدر همام أمراً إلى جميع منتسبي بترو-3 أن يسلِّموا جملة الوثائق والتقارير وأي معطيات ذات صلة بالبرنامج النووي السابق إلى الفريق العراقي. وحذر من يُكتَشف حائزاً أي وثيقة أو معلومة فسيواجه أقصى العقوبات... وفي أمسية ذلك اليوم قدِم سامي الأعرجي إلى داري للاطمئنان على صحتي، فأحاطني علماً بالأوامر المستجدة. وقال لي إن اكتشف المفتشون معلومة - مهما كانت قيمتها - لدى أي منتسب فسيكون مصيره الإعدام. فاستفسرت منه: وماذا لو اكتُشِفتْ لدى أحد منتسبي مكتب حسين كامل أو أحد منتسبي الاستخبارات العاملين في منظومة أمن وحماية منشآت التصنيع العسكري؟. وذكّرتُه بالمثل الانكليزي الذي تنص ترجمته على: إن كنتُ صائباً لا يتذكرني أحد وإن أخطأت فلن يغفر لي أحد. فأجابني سامي بطيبته المعروفة وحبه لتقديم العون نحن ننفذ فقط والسلطة تعرف شغلها. فقلتُ له صدقت. وعلى رغم أن منتسبينا غادروا البرنامج النووي وانتقلت غالبيتهم للعمل في المؤسسات الحكومية ذات الطابع المدني أو يعملون في القطاع الخاص وبعضهم عاطل بانتظار أي استدعاء أو استجواب والويل كل الويل لمن يتلكأ في الاستجابة فسيتهم حالاً باللاوطنية أو بتعريض أمن العراق للخطر. وفي ضوء تلك الظروف كنا نجد المنتسبين حتى من وصل منهم إلى عمر التقاعد أو كان مريضاً ويستدعى ليجلس ساعات طوال ضمن تجمع كبير ليشرح حادثة تافهة يصر مفتشو الأممالمتحدة على معرفتها، أو يجيب على استفسار محدد وإلاّ سيجتمع مجلس الأمن ويصدر قراراً فورياً بإدانة العراق لانتهاك قرارات المجلس ذات الصلة. استمرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإرسال فرق التفتيش إلى العراق طيلة الفترة من أيلول 1991 وحتى آب 1995. وجاء ترقيم الفرق المتتابعة من الفريق السابع وحتى الفريق السابع والعشرين حيث تولوا خلال هذه الفترة إكمال عملية تدمير جميع منظومات ومشاريع ومعدات ومواد برنامج تخصيب اليورانيوم تدميراً شاملاً. * فصول منتقاة من كتاب سينشره مركز دراسات الوحدة العربية في اواخر الشهر الجاري