مثلما سجل آذار مارس العام الماضي تدوين اللغة الكردية للمرة الاولى في التاريخ الحديث في دستور مكتوب في الشرق الاوسط عندما كتب"قانون الادارة الموقت"العراقي بالعربية والكردية، بالتزامن مع تسلم قادة اكراد مناصب سياسية مهمة في الحكومة العراقية الموقتة بينهم نائب رئيس الوزراء برهم صالح, الرجل الثاني في"الاتحاد الوطني الكردستاني", ووزير الخارجية هوشيار زيباري, احد قياديي"الحزب الديمقراطي الكردستاني"بزعامة مسعود البرزاني، فان الاكراد العراقيين حققوا مكاسب سياسية اضافية في ربيع العام الجاري، عبر ترجمة احتلالهم الموقع الثاني في الانتخابات بتنصيب الزعيم الكردي جلال طالباني رئيسا للعراق مع تسلم بضع حقائب وزارية بينها الخارجية والتخطيط. في المقابل، يرى اكراد سورية ضمنا او علنا الصورة بطريقة مختلفة: اولا، يعتقدون بأن هناك 300 الف كردي من دون جنسية سورية منذ الاحصاء الاستثنائي الذي جرى عام 1962, وثانيا، لا يتمتعون بحقوق سياسية في وقت يحصل جيرانهم في العراق وفي تركيا خصوصا بعد سعي أنقرة للانضمام الى الاتحاد الاوروبي على مكاسب ثقافية وسياسية., وثالثا، شعور الاكراد السوريين بتراجع مستوى التنمية في شمال شرق البلاد, اذ ان اكثر من ثلث الفقراء السوريين البالغ عددهم نحو مليوني شخص يتمركزون في تلك المنطقة, ورابعا، شعور عدد من الاكراد بأن دمشق"باعتهم"عندما رفعت الغطاء عن"حزب العمال الكردستاني"وطردت زعيمه عبدالله اوجلان عام 1998 وسلمت اكثر من خمسين قياديا تركيا في هذا الحزب الى تركيا بموجب اتفاق امني بين البلدين, وخامسا، فيما كان ينجز اكراد العراق بعض طموحاتهم رفضت السلطات السورية اعطاء حزبي"الاتحاد الوطني"و"الحزب الديمقراطي"موافقات رسمية لاقامة مجالس عزاء بعد العملية الارهابية التي جرت في شباط فبراير من العام الماضي وادت الى مقتل عشرات الاكراد في مدينتي السليمانية واربيل في شمال العراق. كان طبيعيا لاي محلل يعرف ان"الحلم الكردي"في قلب كل كردي، ان"تلهم"الانجازات السياسية التي حصل عليها الاكراد في العراق في ربيع العام الماضي أشقاءهم الاكراد في سورية. اذ تحول الاكراد بسرعة كبيرة من "خلايا نائمة"الى تحرك سياسي وعنفي في معظم المدن السورية التي تضم اكرادا, فانتقلت شرارة العنف من القامشلي الى دمشق وشمال حلب حيث كان العنف في اشده باعتبار ان تلك المنطقة تضم مؤيدي حزب العمال الكردستاني. ورفع المتظاهرون شعارات جديدة مثل"تحرير كردستان سورية"وطرد"المستوطنين العرب"وانهاء"الاحتلال"ب"الانتفاضة". فطرح الخطاب الكردي الموضوع وكأنه"احتلال"و"تحرير"، ذلك في سابقة هي الاولى في الحياة السياسية لاكراد سورية الذين كانوا دائما يركزون على المطالب الثقافية والسياسية والاجتماعية ضمن"الوحدة الوطنية السورية". اسفر هذا العنف عن سقوط نحو اربعين قتيلا بينهم عناصر من الشرطة وحرق مؤسسات حكومية وخاصة ومدارس واعتقال نحو الفي كردي في انحاء سورية، أطلقوا تدريجا باستثناء نحو 300 شخص. اذن اختارت السلطة وقتذاك لغة الحزم الامني - العسكري لضبط التمرد الكردي المفاجئ والملهم اقليميا ودوليا. لكن يبدو الان ان الصوت المسموع من السلطات السورية هو ترجيح الحل السياسي المرن. اذ بالتزامن مع مرور الذكرى السنوية الاولى لاحداث القامشلي وتسلم طالباني الرئاسة بعد فوز القائمة الكردية بالمركز الثاني في انتخابات العراق، اتخذت سورية مبادرات مهمة نحو الاكراد مناقضة لما حصل ربيع العام الماضي. كان هناك ما يشبه اتفاق"جنتلمان"بين الاكراد والسلطات السورية. قام اكراد الحسكة بمسيرة تأييد كبيرة للرئيس بشار الاسد ولم تتخلل احتفالات عيد"نوروز"أحداث عنف, وفي المقابل أصدر الرئيس عفوا رئاسيا تضمن اطلاق كل الموقوفين الاكراد البالغ عددهم 312 شخصا. كما ان المعلومات المتوافرة تؤكد ان السلطات بدأت فعليا عمليات اجراء الاحصاء وتحديد المعايير لاعطاء الجنسية لآلاف الاكراد او لاعادتها الى أولئك الذين حرموا منها. وتشير تقديرات الاكراد الى وجود نحو 300 الف كردي من دون جنسية 225 الف محروم الجنسية بموجب احصاء 1962 و 75. مكتوم القيد، أي ليست لديه وثيقة. فيما تشير المصادر الرسمية الى ان عددهم يبلغ نحو 150 الفا. كما تقول شخصيات كردية ان السلطات تنوي اقامة مجلس او جمعية سورية لرعاية مصالح الاكراد في الاطار الوطني السوري، بما يتعلق بالنشاطات الثقافية والاجتماعية واللغوية. ولاشك ان الاشارات الايجابية التي ارسلتها دمشق نحو طالباني بعد تسلمه الرئاسة والسماح ل"الاتحاد الوطني"بترتيب حفلة استقبال كبيرة وسط دمشق في هذه المناسبة عزف فيها النشيد الكردي ولبس الحاضرون اللباس التقليدي، يصب في اطار الاشارات المرنة نحو الاكراد، بالتزامن مع الحرص الرسمي على استمرار التنسيق السوري - التركي-الايراني لمنع تقسيم العراق والحفاظ على وحدته ارضا وشعبا باعتبار ان"التقسيم وقيام كيان كردي خط أحمر". لكن لماذا اختلف التصرف السوري؟ هناك اسباب متداخلة. اذ ان هناك وجهات نظر مختلفة داخل النظام السوري في شأن كيفية التعاطي مع الملف الكردي. هناك قوميون متشددون وسياسيون مرنون. هناك من يرفع شعار"العروبة اولا"ومن يرفع شعار"سورية اولا", وهناك من يعتقد بضرورة"وأد الحلم الكردي"بالتشدد وعدم انارة النور في اخر النفق. وهناك من يرى ان التشدد يدفع الى مزيد من التشدد ولابد من المرونة. ويبدو ان الرأي المرن هو السائد الى الان من منطلق القراءة الواقعية الذكية لما يجري في العالم الذي تغير, وان وضع الاكراد يتغير في دول الجوار مناصب سياسية كبرى لهم في العراق واذاعات ونشاطات ثقافية ومدنية في تركيا. هناك ضغوط اميركية هائلة على سورية لاسباب اقليمية تتعلق بلبنان والعراق والوضع الفلسطيني ولاسباب داخلية تتعلق بحقوق الانسان والحريات وحقوق الاقليات. ولا شك في ان السلطات السورية تدرك ان الاكراد يمثلون قوة سياسية كبيرة. وبدرس الامر الواقع يمكن الحديث عن ثلاث قوى: النظام بأدواته الامنية والسياسية والعسكرية والتنفيذية والحزبية. الاسلاميون الذين يمسكون بالجوامع والدين من دون ادوات سياسية. وهناك الاكراد الذين لديهم الكثير من المميزات المقلقة على استقرار سورية اذا لم يتم التعاطي معها بذكاء. قوة سياسية منظمة فيها على الاقل11 حزبا سياسيا غير مرخصة. اثبتت التجربة في العام الماضي انهم منظمون وهناك روابط بين القيادات والشارع وان الاحزاب تستطيع تحريك الشارع الكردي. لهم بعد اقليمي بعلاقاتهم السياسية وقراباتهم العائلة والعشائرية مع اكراد العراقوتركيا. لهم بعد دولي بفضل التعاطف في البرلمانات الاوروبية ومن قبل اكراد اوروبا واميركا الذين يعدون بالملايين. ويضاف الى هذا وذاك، ان لهم بعدا اسلاميا. اذ ان معظم الاكراد لهم خلفية دينية الامر الذي دفع قياديين في"الاخوان المسلمين"الى التواصل معهم لعرض"العمل سوية". ما تقدم يثبت بما لا يدع مجالا للشك ان مفتاح التقاطع بين العديد من العوامل الداخلية والاقليمية والدولية وبين العديد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية، ينتقل تدريجا الى الايدي الكردية. حسنا فعلت عندما انتقلت السلطات السورية من التشدد مع الاكراد الى المرونة الشفوية. ولا شك في انها ستكون اكثر ذكاء واستشرافا للمستقبل وامساكا بالمبادرة السياسية لو انها نقلت هذه المرونة بسرعة الى التصرفات العملية الجوهرية لدفع الاكراد الى مزيد من الاندماج في"النسيج الوطني"ليسيروا على درب شخصيات وطنية مؤثرة في التاريخ السوري بينهم وزير الحربية يوسف العظمة والمناضل ابراهيم هنانو والمفتي الراحل احمد كفتارو والعلامة الاسلامي محمد سعيد رمضان البوطي والمعلق الرياضي الراحل عدنان بوظو.