ليس من باب تبسيط الأمور رؤية أحداث الشغب بين الجماعات السورية العرب والأكراد في مدينة القامشلي، في 12 آذار مارس، في معزل عن الوضع في العراق، وشماله تحديداً. فغالباً ما تكون الصواعق الخارجية مصدراً لشرارة أمنية اختزنت لأعوام احتقاناً سياسياً واجتماعياً مزمناً، تنامى منذ عقود، وتدحرج في ملعب القامشلي ليمتد إلى عدد من مدن الشمال السوري وصولاً إلى دمشق، حيث يوجد أكراد سوريون ما زالوا يحملون وزر الإجراءات التمييزية في حقهم منذ صدر مشروع الإحصاء المشؤوم عام 1962. كان من الخطأ تصوير الحراك الكردي في سورية على أنه "انتفاضة"، وإعطاء القضايا هوية عرقية. كما أن رهان بعض العنصريين على أزمة سورية الحالية، استجداء للدعم الخارجي، خطيئة ستنعكس سلباً على أكراد سورية بإثم المسؤولين في صفوفهم هذه المرة. وكان تجريد 60 ألفاً من الأكراد من جنسيتهم السورية وتعريب أسماء القرى الكردية ونقل عائلات عربية بكاملها من مناطق الفرات إلى محافظة الحسكة، جاء نتيجة اعتقاد عروبي خاطئ بأن ذلك يعني نزع الطابع الثقافي الذاتي للإثنيات التي تعيش في هذه المناطق وتوحيدها ضمن "الإثنية" العربية. وفي مسائل حساسة وشائكة وخطيرة مثل مسائل الإثنيات والطوائف والمذاهب، لا بد من القول إن السلطة، أي سلطة، تتحمل المسؤولية الأساسية كونها القلب المنظم لحركة الجماعات. وهذه المسؤولية ليست مباشرة بالضرورة، فالتجاهل والإهمال وسوء التقدير منذ الستينات، كلها مسؤوليات غير مباشرة تؤدي بالضرورة إلى تفاقم الأزمات. وكم كان قاسياً على السوري العادي وهو يتابع ما حدث، خلال مباراة "الفتوة" و"الجهاد"، أن يسمع مواطنين يستفز بعضهم بعضاً بالهتاف لصدام حسين ومسعود بارزاني وجلال الطالباني. ومن جهة أخرى، ينبغي القول إن السلطة تجاهلت بعض المطالب المحقة لهذه الجماعة من أكراد سورية، إلا أنها لا يجوز أن تلبي هذه المطالب تحت ضغط الفوضى وتحطيم المؤسسات العامة والأنصبة والرموز الوطنية. طرأ بعد احتلال العراق تغيير واضح على الخطاب الوطني لبعض الأحزاب الكردية داخل سورية وخارجها، بدا معها أن بعض الأكراد يرغبون في استنساخ تجربة أكراد العراق، فبات مألوفاً سماع عبارات "كردستان سورية" و"كردستان الغربية" وإقحامها في الخطاب السياسي لعدد غير قليل من الأطراف والنخب المثقفة من أكراد سورية. وزاد من ذلك أن مناطق الجزيرة، حيث يختلط الأكراد مع غيرهم من أطياف المجتمع السوري، عاشت حساسيات تاريخية ترافقت مع إهمال قانوني ودستوري، وزاد من هذه الحساسية الجو العام الضاغط في اتجاه تغييب الانفلات المطلق للتعبير بحسب تصوّر الإدارة السورية لصيانة الوحدة الداخلية وعدم السماح بما من شأنه التأثير سلباً في عملية المواجهة مع إسرائيل. يقدر عدد الأكراد في سورية بنحو 1,5 مليون نسمة، ويقول موقع "السياسات اللغوية حول العالم" الالكتروني الفرنسي "إن الكثير من الأكراد يقطنون سورية منذ أجيال عدة، وإن عدداً كبيراً منهم نزح من تركيا بين أعوام 1924- 1938 عندما فرض كمال أتاتورك سياسته على الأكراد والأتراك". فهناك إذاً الموجات التاريخية المستقرة في الشمال والوسط والعاصمة وأماكن أخرى، وهذه ذابت في المجتمع السوري وبقيت لها مطالب تحت سقف المؤسسات السورية، مثل استعادة الأراضي ورفع الغبن وتصحيح أوضاع الإقامة. وهناك فئات استوطنت بالتدرج نتيجة ظروف التصادم السوري مع العراقوتركيا، وبلغت ذروة استيطانها في الثمانينات مع استضافة دمشق أوجلان. ومع خروج الأخير من دمشق، بقيت مسألة سكانية لم تجد حلاًً تمثلت في زيادة أعداد "الأكراد البدون" الذين أضافوا أرقاماً كبيرة إلى من سبقهم من لاجئين ومتسللين دفعوا جميعاً ثمن الصراع السوري - العراقي - التركي. وعموماً يمكن القول إن الأكراد في سورية يشكلون ثلاث مجموعات: مستقرون، ونصف بدو، وبدو. واستمر البدو أقوياء بسبب عدم تفرقهم عند هجرتهم من تركيا في الربع الأول من القرن العشرين هرباً من الاضطهاد التركي، ونظر الانتداب الفرنسي إلى هذه الهجرة على أنها مفيدة لحفظ التوازن أمام السريان والآشوريين والكلدان وبقية الجماعات المسيحية، وشجعهم الفرنسيون في فترات متفاوتة على إمكان إنشاء دويلة. إلا أن تلك المشروعات الفرنسية قاومتها الجماعة الكردية التي كانت متفاعلة مع الحركة الوطنية السورية في سعيها نحو سورية الطبيعية بالتوازي مع مقاومتها للاستعمار الفرنسي، وبذلك مثّل أكراد سورية الوجه الإيجابي للمسألة الكردية وانخرطوا في ميادين السياسة والفكر والاقتصاد والعمران، وكان منهم رئيس دولة ورئيس وزراء وقيادات عسكرية كان لها دور بارز في مرحلة ما قبل الاستقلال وبعده ومنهم يوسف العظمة وإبراهيم هنانو وحسني الزعيم واديب الشيشكلي وآل سلو وآل الأيوبي وآل البرازي وغيرهم ممن تبوأوا مراكز سياسية وعسكرية. في ضوء ذلك جاء الدستور السوري ليتضمن مواد صريحة تؤكد وتضمن مساواة جميع المواطنين أمام القانون في الحقوق والواجبات من دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو اللغة، فساعد على انخراط الأكراد في مواقع عدة في جهاز الدولة وفي المجالس النيابية المنتخبة وفي قمة السلطة التنفيذية، وذلك بصفتهم السورية وليس العرقية. لكن سرعان ما تغيرت الحال بعد الوحدة السورية - المصرية 1958 - 1961، وبدأ التضييق على الأكراد في الستينات بعد مباشرة السلطات السورية سياسة التعريب في مناطق الجزيرة السورية، وطال التضييق السريان والأشوريين، واصطنعت المشكلة الكردية "عندما برزت النزعة القومية المتعصبة لدى البعض من العرب"، وشكلت فترة المد القومي رسالة قوية إلى مستقبل الوضع الكردي في سورية وملخصها أن بقاء الوضع على ما هو عليه من تهميش للقضايا الحقوقية قد يبدو محدود الأهمية إلا أنه سيؤدي إلى تراكم المشاكل. وجاءت أحداث القامشلي لتؤكد هذه الرؤية وليتحول الأكراد من ورقة تفاوض سوري مع دول الجوار إلى ورقة تفاوض في يد دولة أو جماعات معادية للدولة السورية. وبعد تولي الرئيس حافظ الأسد الحكم عام 1970 بدأ وضع الأكراد في التحسن، لا سيما بعدما شعرت الدولة أنها وصلت إلى مرحلة القوة الكافية لكي تتخلى عن "السياسات شبه الطفولية"، على حد تعبير الدكتور غسان سلامة، التي كانت تحكم التوجه السوري في الستينات من تضييق على الأكراد الذين اندمجوا في النسيج السوري واستحقوا بالفعل أن يكونوا نموذجاً لكيفية استيعاب الأكراد في المنطقة. ونظرت هذه الجماعة من الأكراد إلى سورية باعتبارها الدولة التي لم تقمعهم كما قمعت تركيا وإيران والعراق أكرادها. وفي ضوء هذه الوقائع يمكن القول إنه كلما كانت درجة الانقسام حادة وعميقة أصبحت فرص وإمكانات التوصل إلى اتفاق في شأن القضية الأساسية بين مختلف القوى والجماعات محدودة، واصبحت الأخيرة أكثر استعداداً للعنف. وتزداد الأمور خطورة عندما تتسق خطوط الانقسام العرقي والمذهبي مع خطوط الانقسام والتمايزات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذا من شأنه تعميق احساس الجماعات بالظلم، مما يساعد في تزايد حدة التمايزات والانقسامات داخل المجتمع، وتوافر عنصر التنظيم المدني للجماعة، ويفتح أبواب التدخل الخارجي. وهكذا شغلت أحداث القامشلي ومحيطها الجغرافي اهتمام الأوساط الاقليمية والدولية باعتبار أنها دخلت في صلب النسيج الاجتماعي السوري، مقارنة مع سرعة الاحداث وامتدادها المنظم. وإذا كان الحراك الكردي فتح عبر هذه الاحداث جملة من الأسئلة، فلأنها ترتبط أساساً بعلاقاتها داخل الجغرافيا السياسية السورية خصوصاً وامتدادها الجيوبوليتيكي الذي نتج عن تقسيمات اتفاقية سايكس- بيكو. ولا يمكننا رؤية الحراك الكردي في سورية إلا باعتباره يندرج في إطار التحرك الأميركي الذي يسعى إلى إخراج "الحلم الكردي" من قمقمه التاريخي. وليس صدفة أن يكون هذا الحراك عنيفاً بهذا الشكل إذ تزامن مع ظهور دستور الادارة الموقتة للدولة في العراق وذكرى حلبجة وعيد نوروز. وكذلك مع صدور "قانون محاسبة سورية"، إضافة إلى دور التنظيمين الرئيسين في شمال العراق، مع وجود إذاعة خاصة موجهة لأكراد سورية تبث من منطقة السليمانية، كان لها الدور الأكبر في تأجيج الفتنة وحرق المؤسسات الحكومية وإنزال الأعلام السورية عنها وتمزيقها أو حرقها، لترفع في أماكنها أعلام كردية وأميركية. وبذلك تحاول القيادات الكردية العراقية اختراق النسيج المدني، كما في العراق كذلك في سورية، وتذكير السوريين بالعصبية المهددة لسلامهم الاجتماعي، في مجتمع شديد الوعي بهويته العربية، وشديد القلق لما يحدث للعراقيين على أيدي الاحتلال الأميركي وحلفائه في العراق. * كاتب سوري.