لا تعدو تفجيرات بيروت أن تكون جيوباً تحاول أن تقف في وجه التغيير، أنها بمثابة قيود تضغط في مساحة يتفق اللبنانيون على أنها جزء من الماضي، ولا يمكن لأثرها أن يتجاوز منطق زرع الخوف في النفوس. لكن الشعب الذي أصبح مهيئاً لأن يكون له صوته المسموع وقراره المستقل وخياره الارادي، لا يمكن أن يتخلى عن سلطته في مواجهة مثل هذه المخاوف. والفرصة سانحة لأن يقطع التحول الراهن مع أركان مجتمع ما قبل زلزال اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، بصرف النظر عن حدود اتفاق أو اختلاف الطوائف السياسية، طالما أن الثابت في التغيير الحاصل أن لبنان لن يكون بعد اليوم هو نفسه الذي كان عليه قبل ذلك الزلزال. فالتاريخ تصنعه الهزات الداخلية أكثر من أي ضغوط أو قيود خارجية. والدليل أن أكبر تدخل خارجي بأعتى الأسلحة وبمنطق تغيير النظام بالقوة لم ينتج الديموقراطية في العراق، غير أن لبنان في إمكانه أن يقدم نموذجاً آخر للديموقراطية النابعة من الداخل. كما الاستبداد والمغالاة في احتكار السلطة السياسية والاقتصادية، كانا دائماً عدوين للشعوب التواقة الى الخلاص من الظلم، فإنهما أصبحا اليوم مرادفين لعدو لم يعد مقبولاً في الخارج، ليس بسبب كونية المبادئ والقيم الجديدة التي تنشد الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان فقط، بل لأنه يناقض مفاهيم الاستقرار واستتباب الأمن وتكافوء الفرص واشاعة مناخ المنافسة واستيعاب الانفلات الذي يمكن أن يتدثر بعباءة التطرف والإرهاب والعنف. لذلك فالتجربة اللبنانية أقرب الى ثورة ثقافية تتسم بقدر من الاستقلال والنقد والتحدي منها الى مجرد تداعيات سياسية حيال حادث محدد في الزمان والمكان، لكن الحادث ذاته يعني انهيار نظام سياسي كان قائماً على البطش واسكات الأصوات بأسلوب الاغتيالات الذي كان يبتز الموافقة على كل شيء وعبر استباحة أي شيء. وما لم يفهمه كثيرون أن الضغط الذي كان معوقاً يغيب الحرية تحول الى عنصر مشجع لإعلان الحرب على التبعية ونشد الديموقراطية التي لا تكون بلا ثمن، خصوصاً أن الضغط لم يكن يوماً رأسمالاً سياسياً في ترسيخ الثقة وبناء علاقات متكافئة، لكنه عكس ذلك يقوض أركانها ولا يمكن قراءة التطورات في لبنان خارج هذه القاعدة. أبعد من استكناه الحدث اللبناني في سياق التفاعلات الداخلية والاقليمية وتواريخ الانسجام والتوتر في العلاقات السورية اللبنانية، وكذا تأثير الانجذاب الى العمل الديموقراطي لمعاودة ترتيب الأوضاع العربية، انه يشد الانتباه الى اشكالات ذات علاقة بالمسألة الديموقراطية ومجالات ضروراتها، مفروضة من الداخل أو الخارج، وكذا حدود تشابكها أو انفصالها عن المشروع الأميركي لإقامة الشرق الأوسط الكبير. يضاف الى ذلك، مدى الانصهار أو القطيعة مع الخصوصيات السياسية والثقافية، باعتبار أن الديموقراطية وصفة طبية لأزمات المجتمعات. غير أن استخدامها يبقى رهن التقبل ومدى الاستيعاب وقوة أو ضعف الجرعات لئلا تصبح خلاً يفسد طعم العسل كما يقال. مع افتراض ان ديموقراطية لبنان ذات التقاليد السابقة لأكثر من خطة أو مشروع ذي صلة بمنطوق الاصلاحات المطروحة، ستشكل في ذاتها تحولاً كبيراً في المنطقة العربية، فإنها أقرب الى استثناء الربط بين الحلول الكبرى لمشكلات الشرق الأوسط والخليج وتفعيل الخيار الديموقراطي، كون الانسحاب السوري من لبنان مقدمة في الفصل بين ذلك التشابك. عدا أن العلاقات المستقبلية بين سورية ولبنان تبلور جوانب في ذلك الفصل، لكنها تلتقي معه عند رفض تحويل الإصلاحات السياسية الى يافطة للتطبيع مع إسرائيل. وهذه ميزة قد تجعل التجربة اللبنانية تنحو في إطار مختلف تماماً عما يراد لتكييف منطقي الاصلاحات في بعد يناقض المصالح الحقيقية للدولة في سياق التزاماتها الاستراتيجية. وهنا تحديداً تختلف والنسق الديموقراطي الذي يبشر به في العراق للالتفاف على عمق الأزمة في العراق. تضاف الى ذلك سمات أخرى أقرب الى التمثل، في مقدمها أن"ديموقراطية"العراق التي فجرت فسيفساء التناقضات العرقية والدينية والطائفية تبقى في حال لبنان أبعد عن التحقق، بسبب الوعي بمخاطر الصراعات الأهلية واستيعاب الدروس السابقة والنزوع نحو اعتبار الوحدة خطاً أحمر، بصرف النظر عن تباين الولاءات والطروحات. بيد أن الأهم في التجربة اللبنانية أنها تختزل مقدمات وأبجديات الاصلاحات ذات العلاقة بالتركيز على منظومة التعليم وتحديث الاقتصاد وانفتاح التجارة ومنح المرأة ومكونات المجتمع المدني دوراً أكبر في التحولات الجارية، تختزل كل ذلك في الاستناد الى قيم المجتمع اللبناني، إذ يصبح الاصلاح نابعاً من الداخل. ولعله بسبب هذا التميز والمغايرة يمكن النظر الى تفجيرات بيروت أنها تحاول استحضار عقود من الخوف بالوكالة من شعب يريد أن يكون مستقلاً عن المخاوف قبل كل شيء.