لم تكن ايديولوجيات شرق المتوسط في يوم من الأيام، رؤية متجاوزة لسقفها المحدود. فحين تكون في دوامة لا تستطيع اختراق مركزها المتحرك إلا بتفكير يسمح لك بمرور آمن. والحال ان العرب منذ عصور الاستعمار لم يتمكنوا من إدراج سؤال الحداثة ضمن رؤية معرفية. ذلك ان العلاقة بين العرب والغرب كانت تنطلق دائماً من ردود افعال متوالية على ما يفعله هذا الغرب. في الوقت الذي كانت هذه الردود جزءاً من داخل بنية استعارية مشوهة وتقليدية لمقولات الغرب، كانت تفعل فعلها بحسب مقولة ابن خلدون الذائعة الصيت المغلوب مولع بتقليد الغالب. والحقيقة ان هذا النمط من التفكير هو الذي صاحب اساليب النخب الثقافية والفكرية والسياسية طوال القرن الماضي، وما زال هذا النمط من التفكير يعيد انتاج نفسه على رغم هجاء الإيديولوجيا الذي اكتشفته النخب العربية فجأة مع نهاية الحرب الباردة. وهكذا تتم عمليات القطع برثاثة، مع الأفكار والمفاهيم التي يتم تداولها من دون أي تفكير. ان خطورة هذا القطع مع الأفكار والمفاهيم التي تتداول كأيقونات في الكتابات العربية، تكمن في إزاحتها الدائمة لمعنى الاختبار النقدي والمعرفي والذي هو ابعد ما يكون عن التعاطي الذي نراه في تلك الكتابات، وبقراءة سريعة لتاريخ ذلك التقطيع مثلاً يمكننا ان نكتشف ذلك النمط من التفكير. وعلى رغم ان الإيديولوجيات كانت تشتغل على تسطيح الوعي من خلال النخب المثقفة والأنظمة التوتاليتارية، إلا ان الواقع الذي تمخض عن نهاية الحرب الباردة وثورة المعلومات والاتصالات، كشف، على الأقل، عن ثلاث حقائق هي في شكل آخر استعادة متواصلة لذلك النمط من التفكير الذي اشرنا إليه في صدر المقال، أي عدم القدرة على اكتشاف آليات اشتغال التخلف برؤية موضوعية تعين على تجاوزه. اولى هذه الحقائق: تجدد ردود الفعل اياها متماهية مع المقولات الجديدة عربياً في الخطاب الثقافي في الحقيقة هي مقولات غربية ذات اصول راسخة والإعلامي بصورة تتجاوز معناها الحقيقي الى معان افتراضية، أي التعاطي معها كحقائق ناجزة. والحال ان ترديدنا لمقولات من قبيل الديموقراطية، المجتمع المدني، الحداثة، هو في الحقيقة تعرية لإيديولوجيا خفية يسندها تقليد عميق من الأتوقراطية التي تشتغل هي بدورها بحسب بنية التقاليد العربية على تحريك قدري لا شعوري من اعماق تربوية تتكشف دائماً عن عجز تلقائي في قدرة الاختبار النقدي لتلك المفاهيم، سواء في الفهم أم التطبيق. فبقدر ما كشفت الحرب الباردة عن البؤس الفكري الذي تعوزه الأصالة، أي الموضوعية، كشفت ثورة الاتصالات عن فراغ المعنى في الحياة العربية في موازاة بؤس الأنظمة. الحقيقة الثانية: هي ان الشعور بالتماهي مع الحراك الإعلامي وحضوره على مستوى الخدمة الإخبارية السريعة، والصورة، لا يعني اننا داخل العالم، أي احدى القوى الفاعلة فيه، اذ ان في ذلك تسطيح للعلاقة الصحيحة مع العالم. بمعنى ان شرط التحولات الإيجابية ليس بالضرورة ان يكون في تلك الصورة الخادعة التي نتمرأى فيها امام العالم, بقدر ما هو في فرز استحقاقات ضرورية لا تغني عنها الإيديولوجيا. أي الكلام عن ممرات تفضي الى محطات تاريخية في الإصلاح لم نتجاوزها حتى الآن. مثل الإصلاح الديني. في عالم عربي علاقته بالدين عميقة, لكن تأويلات هذه العلاقة من دون الإصلاح الديني تنطوي على تعبيرات فوضوية خطيرة كتلك التي افضت بنا الى غداة كغداة 11 ايلول سبتمبر 2001. ذلك ان النخبة الفكرية العربية لم تهجس يوماً ما وهي تمارس ذلك القطع الإيديولوجي بمسألة الإصلاح الديني، لماذا؟ لأنها كانت بحسب، عبدالله العروي، تتماهى دائماً مع صورة الغرب الناجزة، أي من دون اكتشاف الفارق الحقيقي في المستوى الحضاري وذلك باعتبار اللحظة الحضارية الراهنة للغرب هي ما ينبغي لنا ان نلحق به. فالإصلاح الديني في الغرب كان حلقة من الحلقات التي افضت الى الحداثة. وإذ يهجس الآن بعض مفكري الحداثة بمسألة الإصلاح الديني، فليس ذلك الوعي بها خياراً فكرياً بقدر ما هو إدراك معرفي لتحولات الحداثة في الغرب، بعد ان زال غشاء الإيديولوجيا. ولقد ابانت ارتدادات الحال العربية في المظهر الاجتماعي والفني عن ما كان، في الظاهر، مسلمات اجتماعية وفنية، نتيجة الاحتكاك بالغرب في منتصف القرن الماضي. ابانت عن هشاشة تلك المفاهيم عن الحداثة. فرجوع المجتمعات العربية في الحال العامة الى التدين، وإن في صورة ضبابية وملتبسة، في العقود الثلاثة الأخيرة إنما هو انقلاب طبيعي على تراكمات فجة لوعي زائف. وإذا كانت الجِدة التي هي دائماً حافز طبيعي لأي مجتمع اقلع من التاريخ، قد اعطت زخماً في عروق التجارب الأولى للمجتمع العربي، التي ظهرت انعكاساً للتعاطي مع معطيات الغرب الفنية والأدبية في نهضة بداية القرن الى ما قبل النكسة 1967، فإن اصداء الحقبة الاستعمارية بما كانت تنطوي عليه من هوامش الحريات والتنظيم والجدية، كانت هي الرافعة الحقيقية لتكريس تلك التجارب. وهذه الطفرة الإعلامية التي كشفت عن كل ذلك جملة واحدة بحسب طبيعتها، ستحد من التأويلات الفاشية للإنجاز العربي الإيديولوجي على حين انها في الوقت نفسه ستسمح لكل تجاذبات القوى الحية من التجريب عبر وسائطها الفضائيات، الإنترنت لممارسة وأشاعة مختلف التيارات في التعبير عن رؤاها. على رغم ان هذه الوسائط في قسم كبير منها ستكون مرايا عاكسة للتخلف الذي تنطوي عليه المجتمعات العربية. فإن الضمانة الوحيدة التي يمكن ان نتعود عليها اليوم هي الصبر على الحرية التي تصاحب ردود الأفعال بين مختلف التيارات التي عانت من اوتوقراطية الإيديولوجيا والأنظمة معاً. صحيح ان الفوضى عارمة، اذ ليس هناك حد ادنى سوى توصيف حال التردي والعجز العربي التي اجمعت عليها كل التيارات. لكن هذا التجاذب سيفزر في ما بعد رؤى موضوعية ستأخذ مكانها الطبيعي كلما كانت هناك حريات حقيقية. الحقيقة الثالثة هي عجز النخب العربية عن اكتشاف القيمة الفكرية وفرزها في بعض الكتابات التي كانت تنطوي على اشارات موضوعية في مشروعها الفكري، والذي كان بالضرورة ان يكون منتبذاً إبان ذلك الاستقطاب في عقود الحرب الباردة. ثم بعد ذلك ربما مع النبذ الكامل لكتابات تلك المرحلة، التي لم تخل من كتابات كانت تخترق بأضوائها ظلام الإيديولوجيا كتابات عبدالله العروي، مالك بن نبي وغيرهما على سبيل المثال، والحال ان هذا العجز اذ يحيل الى عدم القدرة في تأويل تلك الكتابات موضوعياً، انما كان في معنى آخر، عجزاً ينطوي على علاقة عقيمة مع التراث في معناه المعرفي، أي الوقوع في ذلك المأزق الذي ينوس بين العيش داخل التراث، او خارجه، ضمن رؤية مانوية فاقعة لا تؤمن بتلك المقولة التي تقول:"ان اول شرط لتجاوز التراث: قتله بحثاً"، بحسب نصر ابي زيد. وهكذا لا نزال نعيش في الماضي لأن التجاوز الحقيقي للتراث سيدمج معطياته الإنسانية الفاعلة ضمن فهمنا للواقع. والحقيقة ان هذا لم يحدث حتى الآن لأن سؤال التراث، تماماً كسؤال الحداثة، سيتكشف عن علاقات معقدة للنخب العربية مع هذا التراث. بعضها من ايام القطع مع كل ما هو ديني بحسب الإيديولوجيات التي ذاعت في النصف الثاني من القرن العشرين والتي كانت تطرد المعنى الديني من مناهج التفكير. ولقد خلق ذلك الفهم في ما بعد علاقة نفسية صدت الكثير من المفكرين العرب عن النظر الموضوعي للمعنى الديني. هذا لا يعني اننا بصدد تمجيد الفكر الإسلاموي الذي غرق هو ايضاً في رثاثة الإيديولوجيا وبتأويلات قيامية احياناً، كغزوة نيويورك/ مانهاتن، بل بصدد قراءة تحاول، بكل تواضع، ان تشير الى ان فهم اشكالية التغيير والتقدم في العالم العربي كلما انطوى على اقصاء ايديولوجي للأفكار، اياً كان نوعها، سيجر الى قراءة ناقصة. وربما كان للمناخ القمعي الذي نشأت وترعرعت فيه ايديولوجيات شرق المتوسط الأثر الأكبر في نفي او نسيان ما لا يناسبها من الأفكار والمفاهيم بغض النظر عن قيمتها الموضوعية. كاتب سوداني.