استعصى واقع العرب على المقاربات الفكرية التي اشترطت عليه النظر بتأويلات لم تقارب يوماً اختباراً معرفياً، والحال أن تلك المقاربات كانت تنطوي على شمولية رومانسية، منحت أدواتها من سطح بائس لواقع مركب، شكلته تحولات تاريخية بصورة يصعب تفكيكها بتلك العدد الأيديولوجية في الكتابات الفكرية على مدى القرن الماضي. كان الأمر بحاجة إلى مخيلة خارقة لتجاوز كثافة الواقع، إلى رؤية قريبة منه. وعلى رغم أن هناك أيديولوجيات استراتيجية، إن صح التعبير، بعضها انهار بالتقادم وبعضها ما يزال حاكماً، وربما احتاج تجاوزها إلى زمن معرفي طويل. إلا أن السطح الذي طفا اليوم لذلك الواقع، بعد زوال الحرب الباردة، وبداية ثورة المعلومات والاتصال، ربما كان مفاجئاً للكثيرين من المفكرين العرب الذين لم تكن عدتهم المعرفية استجابة لذلك الواقع. فالواقع ذاك وإن كان نهاية طبيعية لفاعليات تاريخية ومعاصرة، إلا أن الإقرار به يحيل ضمن ما يحيل إلى جملة من الحقائق والمفارقات ربما تبدو غير طبيعية لكنها مهمة. أولى هذه الحقائق أن التحولات التي شهدها هذا الواقع بعد نهاية الحرب الباردة أصبحت العراء المكشوف أمام التحديات واستجاباتها. ذلك أن المسافة الهائلة بين التخلف الذي نعيشه، والشروط التي تستجيب لتحدياته كانت غير منظورة أو بالأحرى كانت محجوبة ولعقود طويلة. بسبب من توافقات استراتيجية عبرت عنها الكثير من الوقائع السياسية والتاريخية، منذ ظهور نهاية الرجل المريض في أوروبا، ومروراً بسايكس بيكو، وتداعيات الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى نهاية الحرب الباردة. واليوم ربما ساعد هذا الواقع العاري والهش على فهم الكثير من الظواهر التي كانت ظلالاً جميلة لهوامش حياة اطمأنت بطبيعتها تلك سطحاً هادئاً لتيارات عميقة كانت تضطرب بالقوة وتنتظر بروزها للسطح على رافعة تاريخية استقرت بوصلتها اليوم بالفعل في ما يجري في هذا السطح الساخن الذي نعيشه. ذلك أن هذا الواقع كان يفترض طرح الأسئلة أكثر من الإجابات، بالعكس تماماً من تلك الحال قبل نهاية الحرب الباردة التي كان التنظير فيها يطمئن إلى إجابات سعيدة وساذجة من جميع التيارات الفكرية. والحاجة المعرفية إلى طرح الأسئلة ربما اصطدمت بمفاهيم تنطوي دلالاتها المتداولة في هذا الواقع على تأويلات غامضة لا تحيل في أغلبها إلى معان منضبطة. كالحداثة، والعلمانية، والديموقراطية، بحيث تبدو في شروحاتها العربية أشبه بالمتون الهرمسية التي تعطي المعنى ونقيضه. الحقيقة الثانية هي أن هذا الواقع بعد زوال الأدوار التاريخية التي حجبت شروطه، دل تماماً على حاجته الملحة إلى ضرب من إعادة تأسيس لبناه ومكوناته التي ظنها الكثيرون حقائق ناجزة. أصبحت مقولات من قبيل الديموقراطية، والحداثة، العلمانية صيغاً تأويلية تنطوي على دلالات شديدة الاختلاف والتناقض لدى المفكرين وضيوف الفضائيات، ورموز السلطة، والتبس غموضها بوضوح شديد، وسيولة تداولية مبتذلة من طرف الجميع، تماماً كالمعاني الهرمسية الغامضة والواضحة في آن. والحال أن مثل هذه الدوامة العربية لا يمكن أن تفرز سجالات معرفية بصدد هذه المفاهيم، لا لأن مثل هذه المفاهيم يتعذر فرزها، بل لأن بنية الوعي العربي هي بنية انفعالية مرتهنة لردود الأفعال والأحداث، تلك التي بطبيعتها تتغير بسرعة يعجز الفكر العربي عن اللحاق بها. فضلاً عن أن هذه الطبيعة الفكرية التي تتعامل بأسلوب السلق الأيدلوجي مع المفاهيم، هي تمثيل لا شعوري لمناهج تعليمية تم تصميم قدرتها على العجز أي ذلك الفهم"الذري"بحسب هاملتون جب بما ينطوي عليه من علامة التخلف الفارقة، أو إحدى مظاهره الجلية: العجز عن التجريد. والأمر هنا يتجاوز تلك المناهج التعليمية التي اشتقت أدواتها من طبقات أركيلوجية شكلت ما نعته مالك بن نبي بالقابلية للاستعمار. إلى علة بنيوية في قاموس الثقافة العربية. فحين يتجدد سؤال"لماذا تخلف العرب وتقدم غيرهم؟"تبدو تراكمات الثقافة العربية منذ أيام رفاعة الطهطاوي ضرباً من متاه يصبح من يمشي فيه كمن يقصد البحر وهو يستدبره بحسب عبارة الغزالي الشهيرة. ومن أهم مظاهر العجز البنيوية تلك: الرؤية المأنوية للمفاهيم. كالإسلام مثلاً، فهو غالباً ينوس في الكتابات الفكرية العربية بين الرومانسية والأدلجة. فهو إما إسلام سياسي مرفوض. أو إسلام سمح متعال. بعيداً من أي مقاربة فلسفية تنطوي على رؤية من واقع معرفي دقيق بسيرورة هذا الدين في الماضي والحاضر والمستقبل تبحث في إمكاناته المحايثة ضمن مفاهيم مركزية تنطوي على رؤية للعالم، ذلك أن من المفارقات أن هذا الدين في نصوصه الأصلية ظل يحوي إمكانات لمنطلقات إنسانية بامتياز، وتستجيب مرونتها لتأسيس وعي نقدي وحواري يمكن أن يكشف عن العديد من الحقائق المسكوت عنها، لولا تلك الأدلجة العنيفة التي حجبت آفاقه. وهذا للأسف ما لم يقم به أي مفكر عربي لتأسيس مشروع فلسفي إسلامي بحسب رضوان السيد. الحقيقة الثالثة هي ان النظر العميق في آفاق الواقع العربي، لمن يستشرف آفاقه بحق، ينطوي على حزن عميق ينشأ من كل قراءة معرفية لهذا الواقع. فالواقع ذاك دل تماماً أن مشاريع إعادة التأسيس له ضمن أي رؤية فكرية جادة، إسلامية، ليبرالية، قومية، لا بد أن تنخرط في تاريخ طويل لتأسيس بنى تحتية للأفكار والمفاهيم التي لا يجب أن تنفك عن رؤية بيداغوجية تربوية على نحو استراتيجي. كاتب سوداني مقيم في السعودية.