تنطوي الأسئلة في عملية النقد، وهو بالتعريف المعرفي والعلمي، سلطة فوق كل سلطة، ومرجعية أولى وأخيرة، على نقد الأسئلة. وتعني النهضة أو البعث - الولادة الجديدة العودة إلى التراث من أجل تأسيس نظرة جديدة للكون والوجود والطبيعة على أساس جديد، يضع الإنسان في محور الوجود والكينونة. ونحن، كجماعة عربية، تجدنا نندرج في سياق الشعوب كاليونان، والأتراك التي تضعها مصادفات التطور التاريخي المعقدة، في مفارقة، يظهر فيها تألق الماضي أمام موات الحاضر. ينحصر الفكر العربي، من الوجهة التاريخية، في حالتنا، بين نهضتين، الأولى كلاسيكية، ألفية، والثانية حديثة، مئوية، والنهضة الأولى، في عصر الثورة التأسيسية الأولى، التي غيرت مصير الإنسان على كل أصعدة الوجود، هي التي نقلت الإنسان العربي من القبيلة الى المدينة، من الشرك الى التوحيد، من التجزؤ الى الوحدة، وأعطته نظرة جديدة للكون، وأخلاقية دينية جديدة، وشعور بالفرادة - الجماعية الشخصانية، في هذه الحركة التاريخية حولت "النهضة الأولى" الأعراب عرباً، والتخلف حضارة، والقبيلة "أمة"، وقرنت الوعي القومي بالوحي الأممي. وظهرت على أساس هذه الحركة التأسسية حركة أخرى من التثاقف والتفاعل والتناص مع حضارة "القدماء" اليونانية، والهندية، والفارسية، والصينية إلخ فاستدخلت الحضارة العربية - الإسلامية التراثات السابقة من حركتها النهضوية الجديدة، في مجالات الفلسفة والعلم والحضارة، ناهيك عن انفتاح التوحيد الإسلامي على التراثات التوحيدية المسيحية واليهودية في الإطار الديني. وهكذا ظهرت في النهضة الأولى أنماط فكرية وعلمية وحضارية جديدة على أرضية التثاقف مع "الآخرين" باعتبارهم الوجه الآخر للذات، عينها، أو كما يقول بول ريكور في العصر الحديث "الذات - الأخرى" فظهرت الفلسفة التي أوجبت النظر بالموجودات كموجودات، وتطورت العلوم التجريبية، على أساس مبدأ الدربة أو التجربة ومناطها، فأكدت على مبدأ الاستقراء العلمي بما يعنيه، بالمعنى العلمي، مباشرة الطبيعة، والظواهر الطبيعية انطلاقاً مما هو عيني وملموس، وظواهري، وهو المبدأ الذي أخذته التجريبية الغربية عن التجريبية العربية في مفهوم القياس العلمي، الذي يقدم التجربة العملية على النظرية الاستدلالية. وأكدت النزعة الإنسانية العربية على الإنسان كفاعل تاريخي واجتماعي حر، باعتباره محور الوجود في زمانية الوجود، مع أبي حيان التوحيدي الإنسان أشكل على الإنسان. كما أكدت المتصوفة على نزعة إيمانية، شخصانية، مناطها العقل والقلب، والضمير، والقصد، في علاقة الواحد بالأحد. أما "النهضة الثانية" فقد ولدت في سياق متكسر، من التطور التاريخي، في عملية من التثاقف على هامش عملية التباني بين وعي محلي وسيط، بعد ستة قرون من الموات الفكري والحضاري في ظل الدولة العثمانية، وخطاب عالمي أوروبي تمركزي، إنساني في الخطاب الفكري، واستعماري في الاقتصاد والسياسة، في حركة "النهضة" الثانية هذه اختلطت الإمبريالية بالتطورية، والتقنية بالعلم، والدولة بالأمة، والفلسفة بالكلام، والإصلاح بالأصولية، والأنوار بالظلام، والدليل على كون نهضتنا ناقصة وحداثتنا ناكصة، أننا الآن على أبواب الألفية الثالثة ما زلنا، كجماعة، بلا مشروع ولا مشروعية، ما زال الفكر، في حالتنا الراهنة، محدود بحد الكفر، والسياسة تختلط بالاستبداد، والثقافة ثقافتنا تعويضية وارتكاسية، وأدبنا تختلط فيه العمودية بالحداثة اللغوية، والشعرية بالنثرية، وها نحن ذا، تجدنا، كتمثال حانوس الذي يقرن موات النهضة الحاضرة، وفوات الحداثة، بنهضة الماضي، في نظرة واحدة. وتجدنا بحاجة الى مراجعة الماضي والحاضر، والذات، بنظرة نقدية تعددية: نقد الذات، ونقد الآخر، ونقد التراث. "كيف تقدم الغرب وتأخر العرب؟"، ولم ينتقلوا من طور النهضة الى طور الحداثة، رغم أن العرب كالصينيين قد سبقوا الغرب في العلم، كما سبقوهم في العودة الى علوم القدماء في الفلسفة؟ هوذا السؤال المركزي الذي ظل سائداً. والجواب على هذا السؤال أن العامل الذهني العقلي لم يختمر ويتضافر مع العامل السياسي، مع العامل الاقتصادي، ولم تتوفر الدفقة الحيوية، والظرف التاريخي المناسب، لتنقل المجتمع العربي في نهضته الأولى، والثانية، من طور النهضة الى طور الحداثة - الذاتية الحداثة التي تتحدد بذاتية الحداثة الإبداعية... فهل يستطيع العرب وهم في حالة الوعي بأسباب النهضة والسقوط الدخول في زمانية الحداثة، صياغة نهضتهم الثالثة التي تقرن الماضي بالحاضر، في لحظة الوجود المضارع، هوذا سؤال الوجود والكينونة والمصير؟ هل من دواعٍ لإعادة قراءة وكتابة النهضة، إعادة تحقيبها وتأريخها نحو نهضة ثالثة؟ كان أرنست رينان، وهو النهضوي الغربي المعروف، يرى أن مجد الفلسفة لا يكمن في حل المسائل وإنما في طرح الأسئلة؟ وكذلك فعل النقد العربي، في بداية السبعينات بعد هزيمة حزيران: بغتة اكتشف الوعي النهضوي هشاشة الحداثة وهشاشة النهضة، وبأن نهضتنا كانت نهضة مرآوية، صورية، ولدت في مساق متعالٍ على التاريخ الحدثي، فنتج عنها حركة من التثاقف والتناص الماهوي، لئن أغنى العقل والبيان، جزئياً، فإنه عكس في سياقاته الأفهومية والدلالية التكسر المجتمعي، والتطور اللامتكافىء والتباني المتخارج في علاقة الذات بالآخر، والشرق بالغرب، والفكر المحلي بالفكر العالمي. وبما أن النهضة كانت ناقصة فإن الحداثة بالنتيجة كانت ناكصة، وإلا كيف نفسر تقدم الغرب المطلق وتأخر العرب الكلي؟ في حقبة السبعينات كانت أسئلة النقد ذات دلالة، على الحاجة الى نقد الأسئلة، وكانت عناوين الكتابة النقدية "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، "الهزيمة والإيديولوجية المهزومة" تقوم على طرح الأسئلة وتفكيكها وليس على جمعها وتحليلها؟ ألم تكشف هزيمة حزيران عن فوات السياسة، ونقصان الثقافة، ونكوص النهضة والحداثة والتنمية؟ إذ كيف يمكن القيام بالنهضة والحداثة والتنمية على كل أصعدة الوجود بمعزل عن بناء الإنسان، محور النهضة وأساسها؟ ألم تكشف هزيمة حزيران هزيمة الأيديولوجيات العربية السائدة حقاً؟ ألم تكشف الحداثة اللبنانية إبان الحرب الأهلية عن "سلم بارد" ينطوي على كل ثنائيات الأبوية المستحدثة بتعبير هشام شرابي حداثة - تقليدي، عقلانية - إيمانية، ماضوية - مستقبلية وديموقراطية - طائفية، مما يعني أن حداثتنا انفصامية؟ ألم يتحدث عبدالله العروي عن الإلتواء الإيديولوجي ويلاحظ أنه لا يمكن القول بليبرالية فكرية دون وجود ليبرالية أنوارية تحررية معاشة في المجتمعات العربية؟ ألم يتحدث سمير أمين عن التطور اللامتكافىء، والتبادل اللامتساوي، والنمو المتخارج الذي ظهرت في سياقه حركة النهضة، واكتشاف الذات والآخر، في حركة اختلطت فيها النهضة بالأَوْربة، والاستقلال بالتبعية، واليقظة بالأصولية، والإنسانية بالكوزموبوليتية، والديموقراطية بالاستبداد، والدعوة الى تحرير الإنسان مع "تحريم" المرأة، أي ابقائها في خدور الحريم؟ لماذا لم يتضافر الفكر النهضوي بالفكر الإصلاحي، البعث بالحداثة، التراث والمعاصرة - في - التاريخ؟ هل لأن النهضة، والبعث، والحداثة، والمعاصرة، كانت صورية ومرآوية، رغم أهمية طرحها لسؤال النهضة؟ أم لأن النهضة، بما تعنيه تكريس سلطة النقد، كسلطة مطلقة، بحاجة الى ديمومة أسئلة النقد؟ كل هذه المعطيات تستوجب منهجاً نقدياً في اعادة قراءة وكتابة وتأريخ الفكر النهضوي، النهضة الأولى، والنهضة الثانية، نحو نهضة ثالثة حقيقية... ويستوجب نقد النهضة، نهضة النقد، ونقد النقد، بحثاً عن نهضة مفقودة ومنشودة، لم تدخلنا بعد مائة عام من تاريخها الزمني في زمانية الحداثة، فبقينا دون - الحداثة، في عصر العولمة، وما بعد الحداثة.