بدأت ضغوط الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة لتطويع العالم طبقاً لشروط العولمة منذ نهاية الحرب الباردة، وازدادت وتيرتها إثر أحداث 11 أيلول سبتمبر بعد تغيير العنوان الى"الحرب على الإرهاب". وتتكشف ردود الفعل الرسمية المصرية ضد هذه الضغوط بما هو أقرب الى القانون عبر ثنائية الرفض العنيد ومحاولة الاحتواء، وبفاعلية واضحة حتى الآن. أمام شرط الخصخصة مثلاً رفعت شعار التدرج للحفاظ على السلام الاجتماعي، وكانت النتيجة بعد عقد ونصف العقد أن طُبقت الخصخصة على مشاريع هامشية أغلبها ميؤوس منه بسبب الخسائر، أو طبقت خصخصة زائفة بحيل بيروقراطية، وصبت الأموال الناتجة في جيب الحكومة حتى تقيم مشاريع اخرى يوجد شك كبير في نجاحها. وظلت المركزية الاقتصادية على حالها، حتى ان قروض البنك الدولي المخصصة لمصر تعود الآن من حيث جاءت بغير سوء بسبب شروط الشفافية وغيرها. وفي مواجهة دعوات حقوق الانسان تدرجت المعالجة من اتهام الناشطين بالعمالة وتوجيه اتهامات جنائية لهم وحتى السيطرة الكاملة حتى اصبحت المنظمات العاملة في هذا المجال تخدم الحكم بأكثر مما تخدم حقوق الانسان، وفي النهاية تأتي بما سمته المجلس القومي لحقوق الانسان بقرار حكومي، يقدم تقاريره الى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الشعب! وتبقى التجاوزات والاعتداءات على وتيرتها. وجرت الأمور في قضايا المجتمع المدني والشفافية وسيادة القانون ونزاهة الانتخابات على نحو لا يقل"نجاحاً"حتى وصلنا الى أحدث الحلقات وهو الإصلاح طبقاً لخطة"الشرق الأوسط الكبير"، وكان الرد هو أن الاصلاح ينبع من الداخل، واستعملت فزاعة الاسلام السياسي، ولا مانع من المرور على تراثنا وخصوصيتنا وتقاليدنا التي لا تناسبها الحرية الغربية. ووصل الأمر الى إهانة المصريين باعتبار انهم لا يصلحون للديموقراطية، حتى انتهينا الى موضوع تعديل المادة 76 من الدستور وهو ما سنتعرض له لاحقاً. من الخطأ ربط ثنائية الرفض والاحتواء بمرحلة معينة أو حصرها بنوعية الرؤساء خلال تاريخ جمهورية يوليو العسكرية، فالأمر أكثر تعقيداً، لأنه في اعتقادي أقرب الى قانون للبقاء تمارسه الدولة المركزية التسلطية التي تشكلت في ظل هذه الجمهورية، والتي بدأت في آذار مارس 1954 عندما خرج المصريون يهتفون:"الدستور: يحيا الدستور"، فخرجت تظاهرة بقيادة نقيب عمال النقل بعد أن تقاضى 5 آلاف جنيه يهتف:"يسقط القانون: يسقط الدستور". وفجر جمال عبدالناصر، وزير الداخلية آنذاك، ست قنابل في أماكن عدة في القاهرة وضرب رئيس مجلس الدولة عبدالرازق السنهوري بالأحذية، وضرب معلم الأمة طه حسين على وجهه، وأغلقت الأحزاب والنقابات والصحف. وكان هذا الانقلاب بدأ أيامه الأولى بشنق عمال أبرياء كل جريمتهم أنهم تظاهروا رفضاً لخفض الأجور. وهكذا يكشف الداخل عن ثنائية أخرى هي العصا والجزرة أو القهر الذي يصل الى حد الإجرام والهمجية والعطايا ذات الطابع الريعي من دون النظر الى أسس توزيع العمل الاجتماعي وضرورات التنمية. وتعمق هذا العنصر عبر ما سمي تمصير الاقتصاد ثم الحراسات، وكل ذلك لم يكن سوى عمليات سلب ونهب بدءاً بقصور العائلة المالكة. وهكذا أصبح للفساد دور مؤسسي طاول بالطبع عملية السيطرة الكاملة على الاقتصاد بواسطة التأميم طبقاً للاشتراكية"الإسلامية". كان الهدف من ثنائية القهر والغضب تغييب المشاركة الشعبية كشرط هو لإقامة الدولة المركزية، ومن الغريب أن الثنائيتين، أي الرفض والاحتواء في الخارج والقهر والغضب في الداخل، كانت فاعليتهما تزداد امام الانهيار الداخلي والهزائم الخارجية. وعلى سبيل المثال أعلن بيان 30 آذار الاصلاحي بعد كارثة 1967 حتى ان عبدالناصر أقدم على"مذبحة القضاء"بسهولة عسيرة على التصديق. خلال ذلك التركيز للمركزية السياسية والاقتصادية كان من الضروري ان تشمل مجالات الثقافة والإعلام والدين والمؤسسات العلمية، وبعد سيطرة البيروقراطية عليها تأسس التنظيم الطليعي السري الذي تسابق الى عضويته رجال الدين وشيوخ الاخوان والكتاب والصحافيون والديبلوماسيون والأكاديميون ومثقفو اليسار وضباط الداخلية وأعضاء تنظيم الضباط الأحرار، وبجواره تأسست منظمة الشباب لئلا ينضب معين من أقسموا على حماية المنجز المقدس لانقلاب يوليو، أي الدولة التسلطية، وتكررت هذه العملية في شكل جريء في العقدين الأخيرين. عندما شرع أنور السادات في الحل السلمي للصراع مع اسرائيل، والتقرب بالتالي من الغرب كان عليه أن يقوم بالانفتاح السياسي والاقتصادي، ولم يزد الانفتاح في المجال الاقتصادي عن مجال السياحة وعن بعض حرية التجارة الاستهلاكية، ذلك ان استيراد السلع الاستراتيجية وتصديرها ظلاّ في يد المركزية الاقتصادية بجانب كل الانشطة الاقتصادية والمالية. وفي المجال السياسي، قسم الحزب الواحد ربيب البيروقراطية أربعة أجزاء لم تبتعد كلها عن أجرومية الحزب الواحد. وعندما تكاثرت تلك الاجزاء أو الأحزاب لم تخرج جميعها عن التسليم بكل شروط الجمهورية العسكرية الريفية الدينية، وهكذا تأسست تلك التعددية غير الديموقراطية. تكتسب الدولة المركزية التسلطية ديناميكيتها من سلطة تنفيذية متضخمة بالضرورة تبتلع كل السلطات، وذات أذرع اخطبوطية أربعة هي بيروقراطية ادارية كان عدد موظفي الحكومة مليوناً واحداً في 1967 والآن أصبح 6 ملايين مليون في قطاع الأعمال، وأجهزة أمنية متعددة وجهاز دعاية ساذج ومكلف، ومؤسسة دينية مترامية الأطراف. وفي غياب عقد اجتماعي من أي نوع، وبمرور الوقت، تتحول هذه الدولة الى خدمة نفسها فقط. وهكذا تتحلل قيم العمل وعلاقات الانتاج والثقافة الاجتماعية ويتلاشى الوكلاء الاجتماعيون كان آخرهم العمد المنتخبون في قرى الريف فأصبحوا يعينون من وزارة الداخلية في مطلع التسعينات. وفي النهاية يستسلم المجتمع للتهميش والتآكل الروحي وتدمير الذات. ومن المفيد هنا ملاحظة ان لافتة تعلو أقسام الشرطة تقول:"الشرطة والشعب في خدمة القانون"، هكذا في تحد للتراث الانساني وتاريخ العقل يتم تصغير الشعب في كيان واحد مع أجهزة احتكار العنف ويصبح القانون مجرد اسم كودي للسلطة، انها ذهنية الدولة التسلطية بامتياز. لما كانت هذه الدولة مدنية بولادتها واستمرارها الى مسرح الحرب الباردة والتوترات الاقليمية الناجمة عنها، فإن ذلك طبع تركيبها بطابعه، وهي بالضرورة دولة حشد وتعبئة تعتمد على مجتمع مغلق أشبه بمعسكر تجمعي يخضع لصوت واحد، ويستلزم ذلك ايديولوجيا مركزية تضع حدوداً فاصلة بين الداخل والخارج، وهنا احتكرت دولة الشرق الدين والاخلاق في قراءة واحدة هي الأكثر تشدداً بالضرورة وتنحصر في أخلاق الجسد وتعادي الحرية والضمير الحضاري، وهكذا نحتاج على الدوام الى عدو خارجي مُختلق أو مبالغ فيه، ونحتاج الى تحالفات خارجية مع أنظمة استبداد أخرى، وتنتج من ذلك سياسة خارجية تتأسس على العداء وليس التعاون، وبمرور الوقت تفقد دورها في صناعة السياسات العالمية والدولية، وهذا يسهل انزلاقها الى التوتر والمواجهة وربما الحرب، وتصبح في النهاية دولة مكروهة. ولا يتوقف هنا، ذلك ان طول فترة الحشد والتعبئة من دون معركة حاسمة ومستحيلة مع"اعداء"الخارج، يدفع طاقة الكراهية المتراكمة الى ان تتسرب الى الداخل في تركيب المجتمع وأسس الاجتماع، وهكذا يشيع الاستقطاب والتوجس والتعصب، ويعود الأفراد والجماعات الى الأطر التقليدية، ويصبح اول الضحايا روح المساواة والعدالة والحريات الاجتماعية والإبداعية والفكرية وقيم الحقيقة والتقدم والسلام، وهكذا اصبحنا نصدر الإرهاب والجياع. وإذا سلمنا بالتشخيص السابق فهو يعني ان البنية السياسية في مصر، وفيها بالتالي اغلب النخب والمباني السياسية مرتبطة في الأساس بالدولة المركزية وأنها احدى نتائجها العضو الوحيد الذي لا يدور في فلك هذه الدولة هم الأخوان المسلمون، لكنهم يستفيدون من وجودها وينازعونها خطها الديني، وتحكمهم معاً علاقة الغرام والانتقام، وكلاهما في ظل المناخ العالمي اشبه بديناصورات تتجول في شوارع المدن، وتكافئهم الدولة بتحويلهم الى فزاعة البديل، ولكنهم يشاركون قوى المعارضة في محاولة تحسين شروط المشاركة في دولة التسلط وتوسيع قواعدهم في مناخ مناسب، انتظاراً لتعفنها الكامل وسقوطها بين ايديهم. هناك استثناءان طارئان زمنياً هما حركة"كفاية"وحزب الغد، إضافة الى انهما من خارج الظل السياسي التقليدي للدولة وذلك ايجابي بحد ذاته. ولكن الحدث والوقت وحدهما سيثبتان قدرتيهما على المناورة والتطور في مواجهة انسداد سياسي مستعص وشرس. هكذا يكون التواطؤ السياسي هو الوصف الحقيقي للحراك السياسي المرتبك قبل اقتراح الرئيس بتعديل المادة 76 في الدستور والخاصة بطريقة ترشيح رئيس الجمهورية وبعد الاقتراح، وهو تواطؤ يشوبه نفاق سياسي يتمثل في رفض المراقبة الخارجية للانتخابات، في حين ان اطرافاً عدة من بينها الحكومة سمحت لنفسها بمراقبة الانتخابات الفلسطينية. وتستفيد هذه المعارضة من الضغط الأميركي والغربي وفي الوقت ذاته يكيلون لهم شعارات العداء. وليت ذلك بسبب دعمه للاستبداد في ما مضى. كما عادوا جميعاً الى الاستهلاك المحلي للقضية الفلسطينية على رغم انها افلتت من شبكة عنكبوت النظام العربي المتهالكة وعادت الى الشعب الفلسطيني للمرة الأولى. وستنتج شروط هذه المعارضة في افضل الأحوال فوز مرشح دولة التسلط اياً كان هذا المرشح، وهكذا سيكون لدينا"ديكتاتور منتخب"، ويتساوى في العبارة الجد مع الهزل ويقدمان المعنى نفسه، لأن شعار الحرية داخل سجن لا يعني ان المساجين غدوا احراراً، ولا ان السجان لم يعد سجاناً، وكان اول من اخترع هذه اللعبة الرئيس الراحل ياسر عرفات، ثم نقلتها عنه اليمن وتونس. وهو تواطؤ سياسي لأنه يدور في غيبة كاملة للمشاركة الشعبية التي تحولت الى غالبية صامتة في حال عصيان وطني، اذ تقدر دوائر متعددة يمكن الثقة في موضوعيتها ان نسبة المشاركين في الانتخابات والاستفتاءات خلال العقود الثلاثة الأخيرة ما بين 2 في المئة الى 7 في المئة من مجموع الأصوات الصالحة للانتخابات، ناهيك عن فساد مناخ الانتخابات وتشريعاتها وقوائمها وبيئتها. اعتقد ان ما سبق يفرض تغييراً"تكنيكياً"على سؤال: من اين تبدأ الديموقراطية؟ الى سؤال متعدد الوجوه هو: كيف يمكن ان تعاد المشاركة الشعبية؟ وكيف تمكن اعادة بلورة الطبقات وتحديد احجامها وتحديد الأوزان لقوى العمل الاجتماعي؟ وكيف يمكن الحصول على وكلاء اجتماعيين، او الشرط الأساس لوجود شارع سياسي بعد ان تم القضاء عليهم لحساب وسائط تقليدية وإدارية وإيديولوجية، ناهيك عن الحاجة لإعادة هيكلة النظام السياسي بأكمله للحصول على دولة دستورية تقوم بدور دولة الخدمات والتنظيم؟ والإجابة عن هذا السؤال الطويل ليست بإمكان شخص واحد، وما اضيفه هو محاولة صنع مخيلة لا اكثر، تعتمد على فكرة صوغ مشروع اقتصادي سياسي هدفه قسمة الدولة المركزية العاتية على مصالح الناس في الوطن وتفكيك ذهنيتها وخطابها الإيديولوجي لحساب ثقافة اجتماعية معاصرة، مع دعم قوي للطبقة الوسطى او تخليقها بمعنى ادق. وأول تطبيق لهذه الفكرة هو زيادة التراكم الرأسمالي داخل الأوعية الاجتماعية، وبشرط ان تكون بوصلة المشروع باتجاه دولة مدنية حيث تكون المساواة الإنسانية والمصالح المادية هي اسس التشريع وتطبيق القانون. ويقتضي ذلك فصل الدين عن الدولة وعن السياسة من دون فصله عن المجتمع. وأن تستقل مؤسسات البحث والتفكير في شكل تام ولا يخضع انشاء مؤسسات المجتمع المدني سوى لرقابة مالية وعدم الخروج على قواعد العمل المدني السلمي. ويمكن التمهيد لهذا المشروع عبر صفقة سياسية او تواطؤ ايجابي مع السلطة، في ظل احتقان من المؤكد انه متزايد داخلياً وخارجياً مع تناقص فاعلية ثنائيات الداخل والخارج. ويجرى هذا المشروع على ثلاثة مراحل: 1- اجراء انتخابات رئاسية تبدأ من العمد ومجالس القرى وحتى منصب المحافظ مروراً برؤساء الأحياء والمدن ومجالس المحافظات التي تعمل كبرلمانات اقليمية مصغرة وكجماعات رقابية واستشارية شعبية. 2- أن تخصخص الممتلكات العامة باستثناء بعض الخدمات الاستراتيجية، وإعادة العائد الى المجتمع عبر شراء مدد خدمة العاملين الذين يتم توفيرهم بأعلى تقدير وبمقابل فوري. والإجراء نفسه مع الأجهزة الإدارية الزائدة ومعاشات الخدمة المبكرة حتى سن 65 مع زيادة تقديرية بنسب وتوسيع عمليات الإقراض من دون فوائد للشباب والنساء بهدف تشجيع المشاريع الصغيرة مع إقامة مراكز للتأهيل الحرفي والفني وتحجيم التعليم الديني، وأن يخضع كل ذلك للمجالس الشعبية الإقليمية المنتخبة. 3- خلال هذه المراحل السابقة يجب اعادة تأهيل القوانين والتشريعات ورفع القيود عن عمليات البحث وإنشاء الصحف والأحزاب وفتح كل الملفات في ظل سياسة مصارحة ومصالحة وكل قراءة للتاريخ والوقائع، للوصول الى انتخابات نيابية نظيفة بعد اختيار شكل الحكم"رئاسي أو برلماني او حتى ملكي نيابي ودستوري. اعرف انه لا يجب انتظار بيضة الديك ولكن اجد من المهم ذكر حقيقة انه اذا كانت الدولة المركزية التسلطية مدينة بولادتها واستمرارها لمناخ الحرب الباردة، فإن ذلك تغير ولن يعود، كما ان المجهود والعزم الذي اكتسبه الغرب اكبر بكثير من ان يسمح لأحد بالعزلة والتمترس، كما ان السلطة انحسرت الى الجسد دون العقل، وأن الجدل من داخل هذا المناخ هو الكفيل بإحداث التغيير في شكل مفيد وسلمي ولأن الخط الفاصل بين الداخل والخارج اصبح متحركاً على نحو لا يلاحق. لذلك فإن المواجهة مع هذا المناخ هي لصنع نماذج دون الحد الأدنى من نخب الحكم وأخلاقياته وعلى حساب الشعوب ومصلحتها. الاسكندرية في نيسان / ابريل 2005 * كاتب مصري.